الحضارة العربية الأندلسية.. هكذا تؤثر اللغة العربية على اللغة البرتغالية!
بقلم بلال رامز بكري
تزخر اللغة البرتغالية بالكلمات والمفردات والمصطلحات ذات الأصل العربي. وتتبختر الضاد زاهيةً بكامل زينتها في المعاجم البرتغالية. من هذه الكلمات ما لا يزال حاضرًا بقوة في اللسان البرتغالي المحكيّ والمكتوب، وفي معاملات الناس اليومية، ومنها ما عفا عليه الزمن، فصارت دلالاتها ومعانيها تنحصر في أشياء تاريخية لا يعلم عنها شيئًا أبناء هذا الزمن. وإنّ البرتغالية إذ تكرم وفادة العربية في مراجعها وفي حديثها الدارج، فإنها تصل رحم الأندلس السليبة التي صنعت مجدًا حضاريًا وثقافيًا قلّ نظيره في تاريخ بني الإنسان طُرًّا.
لقد أضاع العربُ الأندلسَ بسبب طمع ملوكهم وتشرذمهم شِيَعًا وطوائف متناحرة كانت تتحالف مع نصارى الأندلس ضد المنافسين في المُلك والسلطان من العرب المسلمين. ورغم ضياع الأندلس ضياعًا لا عودة بعده، إلا أن الحضارة العربية الأندلسية ضربت جذورها عميقًا في شبه الجزيرة الإيبيرية، وتركت إرثًا ثقافيًا وعمرانيًا وفكريًا لا يزال يشعّ بنوره على البشرية جمعاء. وليس تأثير اللغة العربية على اللغة البرتغالية، المستمر حتى يومنا هذا، إلا مثالًا من الأمثلة الكثيرة عن هذا الإرث المجيد.
ولا يحتاج العربي الذي يقبل على تعلّم اللسان البرتغالي إلى كبير عناء لكي يفطن إلى الإرث الذي تركته الضاد لهذا اللسان الذي تفرّع من اللغة اللاتينية القديمة، شأنه في هذا شأن اللسان الإسباني، بشكل خاص، ومعه الإيطالي والفرنسي. بعض الكلمات حافظت على بنيتها العربية الأصلية ولم تتغيّر كثيرًا، أمّا معظمها فقد حُوِّرَتْ وعُدِّلَتْ لكي تتناسب مع شكل اللغة البرتغالية وروحها. والحروف التي تنفرد بها العربية وشقيقاتها من اللغات السامية دون سائر اللغات الأخرى تنقلب حروفًا أخرى تشبه الأصلية صوتًا. فالخاء والحاء مثلًا أصبحا فاء في اللغة البرتغالية، والعين انقلب صوتها صوت حرف الألف أو الواو، وهكذا دواليك.
ولعلّ أول ما يلاحظه المرء في الكلمات البرتغالية ذات الأصل العربي أسماء العَلَم، سواء تلك التي تُطْلَقُ على الأشخاص أو على الأمكنة. فما لا يعلمه الكثيرين من المتكلّمين باللغة البرتغالية، من برتغاليين وبرازيليين وأفارقه، أن الاسم المؤنّث “فاطمة Fatima”، المنتشر بشكل كبير لدى هذه الشعوب، هو اسم عربي قحّ، وأنه ليس ذلك وحسب، بل هو اسم الزهراء بنت الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. ومن أسماء الذكور نذكر “عثمان Osman” (الذي تنقلب عينه ألِفًا وثاؤه زايًا) و “عمر Omar” (الذي تنقلب عينه ألفًا) و”أمير Amir” (الذي لا يتغيّر نطقه في اللغتين). ومن ألقاب العائلات نذكر لقب “ميسكيتا Mesquita”، وهو الاسم البرتغالي لـ”مسجد”، ولكن اللفظ حُوِّر وعُدِّل، فانقلبت جيمه كافًا، وانقلبت داله تاءً، وهو من الألقاب الشائعة للعائلات لدى البرازيليين والبرتغاليين. ونذكر أيضًا أن إقليمًا من أقاليم البرتغال، وهو إقليم “ألغارفيز Algarves” يعود أصل اسمه لكلمة “الغرب” العربية بعد أن قُلِبت الباء فاء وأضيفت الياء والزاي إلى نهاية الكلمة.
أما الأطعمة والنباتات والأشربة، فللعربية نصيب وافر منها في المعاجم البرتغالية. فالسكّر هو “Açucar” ويلفظ “أسوكار”. والأرزّ هو “Arroz” ويلفظ “أروز”. والخسّ هو “Alface” ويلفظ “ألفاسي” بعد استبدال الفاء بالخاء وزيادة الياء في نهاية الكلمة. والزيتون هو “Azeitona” ويلفظ أزيتونا. والزيت هو “Azeite” ويلفظ أزييتي. والقهوة هي “Cafe” وتلفظ كافيه. والخرشوف (أو ما يعرف بالأرضي شوكي) هو “Alcachofra” ويلفظ ألكاشوفرا. والكحول صارت “Alcool” وتلفظ ألكول. ولا يفوتنا أن نذكر أن أصل كلمة “البوظة” في اللغة البرتغالية (كما تعرف في بلاد الشام، أو “الآيس كريم” كما هي في مصر)، حيث تلفظ “سورفيتي Sorvete”، يعود أصلها إلى كلمة “الشرابات”، أي الجمع المؤنث السالم لكلمة “شراب”، فحُوِّرَ وعُدِّل اللفظ العربي بقلب الباء فاء وبإضافة الياء في نهاية الكلمة، وقس على ذلك. والأمثلة كثيرة في اللغة البرتغالية على كلمات ومصطلحات النباتات والأطعمة والأشربة والتوابل ذات الأصل العربي.
أمّا فيما يتعلّق بالأدوات والأقيسة والأوزان، فإن للعربية أيضًا إسهامًا غير قليل في المعاجم البرتغالية. فالوحدة المستعمَلة لأوزان لحوم الأبقار في البرازيل هي “الربع Arroba” (تلفظ بالبرتغالية أوروبا) والتي تُقَدَّر بحوالي خمس عشرة كيلوغرامًا. وهناك وحدة لقياس مساحات الأرض مشتقة من “الكيل” وهي “ألكييري Alqueire”، ولا يُعْرَفُ كيف أصبح “الكيل” الذي يستخدم لوزن الحبوب والسوائل مستخدَمًا لقياس مساحات الأرض في ولايتي ساو باولو وميناس جيرايس البرازيليتين، حيث يترواح “ألكييري Alqueire” الواحد ما بين اثنين إلى خمسة هكتارات، حسب المعايير المعتمدة في كل من الولايتين. والمُخَدّة العربية هي “ألموفادا Almofada” البرتغالية بعد استبدال الفاء بالخاء. والسوط العربي هو “أسويتي Açoite” بالبرتغالية، حيث استبدلت التاء بالطاء وأضيفت الياء في منتصف وآخر الكلمة. وهناك أمثلة أخرى كان استعمالها شائعًا في قديم الزمان وقد ندر أو بطل كليا في أيامنا هذه، ولكن المعاجم والمراجع لا تزال تحتفظ بهذه الأمثلة. وهنا نورد مثل “البرذعة” التي أصبحت “ألباردا Albarda” باللغة البرتغالية.
وقد أعارت الضاد كلماتها للبرتغالية في بعض المِهَنِ. فالخيّاط العربي هو “ألفاياتي Alfaiate” بالبرتغالية، حيث انقلبت الخاءُ فاءً والطاءُ تاءً وأضيفت الياء في نهاية الكلمة، جريًا على عادة البرتغاليين بعدم تسكين نهايات الكلمات. وقديمًا كانت رتبة الملازم في الجيش البرتغالي يُطْلَقُ عليها لفظ عربي هو “الفارس Alferes” (وتلفظ بالبرتغالية ألفيريس بكسر الألف). ويذكر التاريخ أن أشهر بطل قومي في تاريخ البرازيل هو الملازم (أي الفارس Alferes) “تيرادينتس Tiradentes” الذي حُكِمَ عليه بالإعدام بسبب نشاطه السياسي في سبيل تحرير مستعمرة البرازيل من أمبراطورية البرتغال الأمّ. فصار الشهيد القومي الأبرز في تاريخ أكبر بلدان أمريكا اللاتينية. إلا أن المصطلح البرتغالي الحالي لرتبة الملازم ليس عربيًا: وهو “تينينتي Tenente”.
ومما قد لا يتصوره أي ناطق بلسان الضاد من الذين يجهلون البرتغالية أن لفظ “الحرية”، هكذا كما هو بالعربية، قد انتقل إلى البرتغالية باستبدال الفاء بالحاء، فأصبحت “ألفوريا Alforria”. وينحصر استخدام هذه المفردة في الكلام المتعلّق بالرِّقّ، عندما كان لا يزال معمولًا به في البلدان الناطقة بالبرتغالية، وفي النصوص والوثائق والمستندات التاريخية. ومعنى “الحرية” أو “ألفوريا Alforria” يكاد يفيد بشكل حصري إعتاق العبيد أو الإماء المكاتَبين أو المُكرَمين أو المُتَخَفَّف منهم نظرًا لسنهم أو عجزهم أو مرضهم، بعد منحهم “كتاب الحرية Carta de alforria”. وتجدر الإشارة أن الجذر اللاتيني للحرية وهو “ليبيردادي Liberdade” يكاد لا يُستَعمَل بتاتًا للدلالة على إعتاق الرقيق. فالحرية العربية هي الكلمة التي سادت في هذا الميدان، وللضاد أن تفتخر بذلك أيّما افتخار!
ونَجِدُ التأثيرَ العربي يتغلغل في سائر المعاملات التجارية والقانونية. فكلمة “التَّعرفة”، التي قد يجهلها الكثير من عامّة العرب، كما حصل معي ذات مرّةٍ في لبنان عندما استخدَمتُ المواصلات العمومية في زيارة لي إلى وطني الأمّ، ظنًّا مني أن هذه الكلمة العربية الشائعة في وطني الثاني البرازيل هي مفهومة لدى أهلها، فسألتُ السائق: “بكم التعرفة؟”، فأنكر الرجل سؤالي، فبادرته دون شروحٍ إضافية: “كم أجرة الركوب؟”، هذه الكلمة القح في عربيتها قد أصبحت “Tarifa” (تُلفَظُ تاريفا) بالبرتغالية، وهي شائعة على نطاق واسع في البرازيل على سبيل المثال. وكلمة “البراءة”، أو “ألفارا Alvara” كما صارت بالبرتغالية، تُستَعمَلُ بمعنى رخصة قانونية لمزاولة مهنة أو افتتاح مصلحة. وفي علم الفلك هناك الكثير من الكلمات، نذكر منها، على سبيل المثال، كلمة “أوج Auge” (تلفظ أوجي)، وهي شائعة الإستعمال في اللغة الدارجة بمعنى “قمّة”. ومن أسماء الحيوانات نذكر، على سبيل المثال، “الجمل Camelo” (يلفظ كاميلو) و”الزرافة Girafa” (تلفظ جيرافا).
ولعلّ من أكثر ما يثير استغراب وتعجّب العرب والمسلمين، في كل الكلمات التي أخذتها البرتغالية عن الضاد، هو في الكلمة التي توردها المعاجم البرتغالية كمعنى ل”الكتاب القديم”، أو “المجلَّد الضخم” أو “المُجلَّد الضخم القديم”. وهذا المصطلح البرتغالي، الذي لم أقع له على مصطلحٍ معادلٍ في العربية، هو إسم عَلَم لواحد من أعظم الأعلام في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. ربّما -بل نكاد نجرم قطعًا- ما كان ليخطر ببال المعلّم الثاني أبي نصر الفارابي، وهو الذي غادر دنيانا منذ ما يزيد عن ألف عامٍ، أن يحطّ الرحال بإسمه في معاجم البرتغالية على شكل “ألفارابيو Alfarrabio” لإفادة المعنى الذي ذكرناه آنفًا في بداية هذه الفقرة. قد لا يكون هذا المصطلح شائعًا في الأوساط الشعبية، ولكنه ليس غريبًا على المثقفين الناطقين بالبرتغالية. فأي فخرٍهذا وأي اعتزاز للفارابي في قبره، وأي مجد هذا للحضارة العربية الإسلامية؟ إنه اعترافٌ جميل بأسبقية هذه الحضارة عبر إطلاق إسم رمز مسلمٍ ناطق بالعربية على أداة ورمز المعرفة: الكتاب والمجلّد!
وأحيانًا قد يغيب عن بال المرء الناطق بالعربية والبرتغالية معًا أن كلمة ما في البرتغالية هي ذات أصل عربي. وذلك بسبب تغيّر الظروف التاريخية وبسبب تبدّل نطق الكلمة في انتقالها من لغة إلى أخرى، بحيث تكاد تختفي ملامح الكلمة الأصلية. وهذا ما حصل معي عندما كنت أقطن في حيّ شاطئ “أتالايا Atalaia” في مدينة أراكاجو الساحلية في البرازيل. كنت أجهل تمامًا معنى هذه الكلمة الغريبة، إلى أن علمت صدفة أنها مذكورة في العهد القديم في نعت النبي حزقيال. بحثتُ عنها، فإذا بي أكتشف أنها تعني “حارس”، وإذا بي أُذْهَلُ أن أصلها عربي! فهي مأخوذة عن كلمة “طلائع” الآتية من المفردات الحربية العربية. ولكنها بدل أن تعني “طلائع الجيش” كما في العربية، فإنها اكتسبت معنى آخر في صيغتها البرتغالية وهو “الحارس”. لذلك فإنني عندما انتقلت للسكن في “شاطئ أتالايا Atalaia” لم أكن أدري أن عنواني الجديد هو في “شاطئ الطلائع” التي لا تعني “الطلائع” وإنما “الحارس”!
وتختلف التقديرات من مصدرٍ لآخر بشأن عدد الكلمات ذات الأصل العربي في اللغة البرتغالية الحديثة، فبعضها يقول إن الضاد أعطت حوالي ألف كلمة للبرتغالية، والبعض يقدّر هذا المجموع بثلاث آلاف. وهذا الأمر يعود إلى أن هذا التأثير حصل في أيام الأندلس العربية منذ قرون غير قليلة. فبعض الكلمات قد أهملت بسبب تبدل الزمان وتغير الأحوال. لكن الثابت والأكيد هو أن العربية لا تزال حاضرة على لسان الملايين من الناطقين بالبرتغالية في أمريكا وأوروبا وأفريقيا وحتى في الصين في مدينة ماكاو، المستعمرة البرتغالية السابقة التي عادت إلى أحضان الصين الأم.
هذا وفي حين تصمد العربية بقوة وشموخ في المعاجم البرتغالية، فإن أبناءها اليوم قد أَزْرَوا بها وحطّوا من شأنها، فأقبلوا على كل ما هبّ ودبّ من لغات العالم يتعلمونها ويحرصون على إجادتها، في نفس الوقت الذي يستنكفون فيه عن الاجتهاد لإتقان لغة البيان والبديع والأدب الرفيع. ونختم قولنا بذكر الآية الكريمة: “إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلّكم تعقلون” (يوسف: ٢)، ومعها ننشد الأبيات الخالدة لشاعر النيل حافظ إبراهيم:
لِمِصْرَ أَمْ لِرُبُوعِ الشامِ تَنْتَسِبُ … هُنا العُلى وهُناك المجدُ والحَسَبُ
رُكنانِ للشَّرْقِ لا زالتْ ربوعُهُما … قَلب الهلالِ عليها خافقٌ يجبُ
خِدْرانِ للضادِ لَمْ تُهْتَكْ سُتُورُهُما … ولا تَحَوَّل عن مغناهما الأدبُ
أمّ اللغاتِ غَداة الفخرِ أُمُّهُما … وإِنْ سَأَلْتَ عَنْ الآباءِ فالعربُ
(المصدر: مدونات الجزيرة)