بقلم د. الطيب بن المختار الوزاني
في مقال سابق بعنوان “الحضارات سنن وقوانين” أشرنا إجمالا إلى أن الدين جوهرُ الحضارة ومحرك التاريخ، وأساس العمران، والروح الحقيقي للإنسان، والشواهد على ذلك عديدة منها:
شهادات التاريخ:
فالتاريخ القديم يشهد وإلى اليوم بأن حضارات الشرق الأقصى (الصين واليابان والهند) لم تقم إلا على معتقدات دينية -ولا تزال. وحضارات آسيا الوسطى (فارس وما جاورها) انطلقت من أفكار دينية. ولم تتحرك إلا بها، وبها -لا بغيرها- تفاعلت مع غيرها. وحضارات مصر القديمة والعراق كانتا في أساسها دينية. كما أن حضارات أوروبا اليونانية والرومانية قامت على أسس دينية وأصول عقدية، رغم ما يدعى من تجاوز الفكر اليوناني للخرافة والدين وقيامه على العقل.
وفي الحضارات المعاصرة أيضا. لكن قد يعترض البعض على القاعدة أعلاه، فيقول: سلمنا أن الحضارات القديمة كانت حضارات دينية تحركها معتقدات، لكن ذلك لم يكن إلا مرحلة تاريخية سرعان ما تجاوزها الفكر البشري في الفترة الحديثة والمعاصرة، بسبب التقدم العلمي. وبالتالي فالحضارات المعاصرة أساسها غير ديني، ولا تتفق مع الدين في شيء، بل تعده منافيا للتقدم وعائقا حضاريا.
فنسارع للجواب فنقول: نعم، هذا في الظاهر فقط، وإلا فالعالم المعاصر نفسه والحضارات الغربية الحديثة -رغم ما يظهر عليه من غلبة التوجه المادي والعلماني وإنكار الدين- إلا أن الذي يحرك صراعاته وتفاعلاته إنَّما هو العقائد الإيمانية والمعتقدات الدينية، بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها، وبغض النظر عن مصدرها الإلهي أو البشري. ولا يزال الدين محركا -ظاهراً وخفيا- للفكر الأوروبي ولتوجهاته الكبرى، وهو -بدون مبالغة- المحدد لفلسفة العلاقات الدولية سلما وحربا، تصالحا وتصادما، تعاونا وتعاركا.
شهادات علماء التاريخ والحضارة:
وهذه الحقيقة كما قررها الاستقراء لأحداث التاريخ، وقيام الأمم وسقوطها -كما سلف أعلاه، أثبتتها أيضا نتائج أبحاث العلوم الاجتماعية والإنسانية وعلماء الحضارة، لا فرق في ذلك بين الحضارات القديمة أو المعاصرة. ونسوق لذلك نموذجين:
الأول: لغوستاف لوبون (1841م- 1931م)، الطبيب والمؤرخ الفرنسي، حيث يجعل مبادئ الدين أهم عنصر في حياة الأمم، ويرى أن جميع التنظيمات السياسية والتدبيرات الاجتماعية قامت منذ التاريخ على معتقدات دينية… وأن الدين أسرع وأقوى العوامل المؤثرة في الأخلاق. وليس هذا فحسب بل إن قوة الحضارة وضعفها يدور طردا وعكسا مع قوة التدين وضعفه في الأمة، إذ قيام الأمم بأعظم الأعمال كان في عصر تدينها.[1]
الثاني: أرنولد توينبي (1889م- 1975م)، وهو من كبار مؤرخي وفلاسفة التاريخ والحضارة في القرن العشرين، وهو يرد حركة التاريخ والحضارة إلى الدين أساسا، سواء أكان دينا منزلا من السماء أم معتقدات مختلقة، ويجعل وظيفة الدين هي حفظ النوع الحضاري، وأنه الشرط الضروري للارتقاء والتقدم، وأن الارتقاء الحقيقي للحضارة إنما يتمثل في الارتقاء الروحي أساسا.[2]
الفكرة لا تصير مؤثرة حضاريا إلا حين تصير اعتقادا:
يعترض البعض على صحة القانون بوجود حضارات لم تقم على الدين، ووجود فلاسفة ومفكرين ناهضوا الفكرة الدينية وأثروا تأثيرا كبيرا في مجرى الحضارة؛ مستدلين أن الإنسان في جوهره مادي، وأن مختلف أنشطته تحركها غرائزه البدنية، وهي التي كانت وراء ظهور أنشطته الاجتماعية في الاقتصاد والسياسة والتمدن والسلم والحرب، وأنه لولا الغرائز البدنية ما كان للحضارة وجود.
كما هو الحال مع الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت (1798م- 1857م)، مؤسس الفلسفة الوضعية في فرنسا، حيث يقرر أن الدين كان مجرد مرحلة تاريخية بدائية تجاوزها الفكر البشري إلى المرحلة الفلسفية، ثم المرحلة العلمية الحديثة والمعاصرة، حيث لم يعد للدين مكان أمام التقدم العلمي.
وكما هو الحال -أيضا- مع الماركسية التي قامت على أسس مادية صرفة، واعتبرت الدين مُجرَّد وَهمٍ وأفيون للشعوب، يزيف وعيها ويعيق حركتها وحركة الإنسان في الواقع، ويؤخر حركة التاريخ، وأن العوامل المادية الاقتصادية هي الفاعل الأساس في حركة الإنسان والمجتمع.
وقد شكلت أفكار هؤلاء الفلاسفة وغيرهم -ابتداءً من عصر الأنوار- الأساس الفلسفي المادي الذي قامت عليه الحضارة المعاصرة، وعليه لم يَعُد الدينُ مقوما ولا محركا للتاريخ والحضارة.
لكننا نقول: الواقع أنَّ كلا مِن الوضعية والماركسية -وما سبقهما في أوروبا أو لحقهما من دعوات لرفض الدين وتأكيد الجوهرية المادية للإنسان والحياة- ما صارت لها تلك القوة في تحريك الجماهير، وتوجيه الحضارة المعاصرة توجيها ماديا إلا بتحولها إلى عقائد دينية، وإيديولوجيات وثوقية، تَحِلُّ محلَّ الدين، بل هي الدِّين الجديد. ولذلك بيَّن سيد قطب -رحمه الله تعالى- أنَّ الإلحاد والشيوعية ليست مجرد نظام اجتماعي.. إنما هي كذلك تصور اعتقادي، تصور يقوم على أسس مادية في هذا الكون[3].
كما أكَّد الدكتور عبدالمجيد النجار “أن كل إنكار للدين ليس إلا نكرانا ظاهرا للدين، وأنه في الواقع ينشأ عند المنكرين ضرب من التدين يعوض في نفوسهم التدين الحقيقي، وهو تدين يتمثل في نزوع إلى تقديس موجود مادي أو معنوي، يحِلُّ في النفوس محلا يشبه المحل الذي يكون لله في نفوس المؤمنين، فإذا هو في حقيقته ضربٌ مُنحَرِفٌ في التعبير عن المكنون النفسي لفطرة الإيمان”[4].
ولعل الخلاصة الجامعة في هذا المقام أنَّ تاريخ الأمم وحضاراتها إنما هو انعكاس لصورة تدينها، وأنه مهما انحرفت منجزاتها لتتخذ أشكالا ومظاهر مادية فلا تعدو إلا أن تكون مجرد تعبير ظاهري وخارجي عن اعتقادات إيمانية باطنية، صحيحة أو فاسدة، هي التي تعد المحرك الأساس لكل أنشطة الأمة والحضارة أفقيا وعموديا، ظاهرا وباطنا، كليات وجزئيات في جميع المستويات والقطاعات.
————————————–
[1] سر تطور الأمم، لغوستاف لوبون: ص130- 131.
[2] مختصر الحضارات، لأرنولد توينبي: ص102.
[3] انظر: المستقبل لهذا الدين، لسيد قطب: ص14.
[4] الإيمان بالله وأثره في الحياة، لعبدالمجيد النجار، دار الغرب الإسلامي، 1997م: ص10.
المصدر: مركز التأصيل للدراسات والبحوث.