مقالات مختارة

الحضارات بين التمايز والاشتراك

بقلم محمد عمارة

الحضارة -أي حضارة- لها جناحان:

1-  المدنية.. وهي عمران الواقع المادي بالعلوم الطبيعية وتقنياتها، وهي مشترك إنساني عام بين كل الحضارات الإنسانية.

2-  والثقافة.. وهي عمران النفس الإنسانية، وفيها وبها تتمثل البصمة التي تتميز بها كل حضارة من الحضارات.

وبهذا يصبح العالم “منتدى حضارات” تتشارك في “المدنية” وعمران الواقع المادي.. وتتمايز في “الثقافات” المتمثلة في العقائد والشرائع والفلسفات ومناهج رؤية الكون ومكانة الإنسان في هذا الوجود.

ومن مظاهر اختلاف الثقافات: رؤية كل ثقافة من هذه الثقافات “للعقل”، فبعضها يراه عضوا ماديا في جسم الإنسان، وبعضها – مثل الثقافة الإسلامية – تراه نورا محله القلب، كما تختلف هذه الثقافات في مناهج علاقة العقل بالواقع وكيفية التفاعل بينهما.

وفي هذا المجال، كتبت المستشرقة الألمانية “سيجريد هونكه” (1913 – 1999م) في التمييز بين “العقل اليوناني” و”العقل المسيحي” و” العقل الإسلامي” فقالت:

“إن العقل اليوناني الإغريقي عقل تأملي، يرتاب ويزدري ويتجنب الخبرة الملموسة، والعمل الذي يتطلب الملاحظة المكثفة، مثلما ينكر على الرجل الحر العمل اليدوي الموكول للعبيد فقط”!.

أما العقل المسيحي، فيرى أن العالم دنس، لأن مملكة المسيح ليست في هذا العالم، وشأن هذا العالم الدنس موكول لقيصر، وليس لله، وحكمة هذا العالم هي جهالة عند الله، وأفكار حكماء هذا العالم الدنس جميعها باطلة، وبعد مجيء المسيح لا ضرورة لحب الاستطلاع، أو البحث في العلوم، ففي الإنجيل الكفاية!.

أما العقل الإسلامي، فيرى العالم خلقا لله، يسبح بحمده – وإن لم نفقه تسبيحه – ومن ثم فإن العلم التجريبي والمنهج التجريبي لاكتشاف أسرار هذا العالم عبادة، تجعل علماء هذه العلوم الطبيعية الأكثر خشية لله سبحانه وتعالى.

والآيات القرآنية “ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانه كذلك، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور” (فاطر – 27،28)، هذه الآيات تتحدث عن أن علماء العلوم الطبيعية والتجريبية – علوم السماء والماء والنبات والجيولوجيا والإنسان والدواب والحيوان – الذين يستكشفون أسرار الله في الطبيعة هم الأكثر خشية لله!”.

فالعقل واحد، لكن ما هيته وطرائق نظره متمايزة بتمايز الثقافات في الحضارات الإنسانية.

وكذلك الحال مع القانون، تتمايز فيه الثقافات، وفي الفوارق بين القانون في الشريعة الإسلامية والقانون في الحضارة الغربية، يقول المستشرق الإيطالي “سانتيلانا” ( 1845 – 1931م) – وهو أستاذ في الشريعة الإسلامية والقانون الروماني-: “إن معنى الفقه والقانون بالنسبة إلينا وإلى الأسلاف -في الغرب- هو مجموعة من القواعد السائدة التي أقرها الشعب، إلا أن التفسير الإسلامي للقانون هو خلاف ذلك، فالخضوع للقانون هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه، فالنظام القضائي والدين والقانون والأخلاق تمثل الإرادة التي يستمد منها المجتمع الإسلامي وجوده وتعاليمه، فكل مسألة قانونية إنما هي مسألة ضمير، والأخلاق والآداب في كل مسألة ترسم حدود القانون، فالشريعة الإسلامية شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلا”.

ولهذا التمايز بين الإسلام والغرب في النظر العقلي، أبدع المسلمون المنهج التجريبي، وأخضعوا النظريات اليونانية للتجريب، ولهذا التمايز في القانون، كان القانون الغربي -قانون نابليون- غزوا فرضه الاستعمار على العقل القانوني في بلاد الإسلام.

المصدر: عربي 21.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى