الحركة الإسلامية وضابط الأخلاق والقيمة… مُدْرَكات أصولية!
بقلم أحمد التلاوي
لعله من نافل القول، التأكيد على أن واجب الوقت على مستوى الحركة الإسلامية في هذه المرحلة، وبالتحديد في الجانب المتعلق بالمناهج التربوية والتنوير الفكري –لا نقول “التلقين”؛ لأنها كلمة تنتقص من قيمة المتلقِّي، ومن عقله– هو قضية إعادة الضبط المفاهيمي.
ولعل الجانب الأهم من هذه العملية، هو تحديد المنطلقات وتوجيه البوصلة، لسبب موضوعي على أكبر جانب من الموضوعية والتأثير، هو حالة الفوضى التي تلت تفكك أو ضعف بعض الجماعات والأحزاب التي كانت تتبنى المشروع الإسلامي، في صيغته الصحوية الوسطية.
فلقد قاد ذلك إلى انسياق شريحة كبيرة من شباب الحركة إلى الأفكار التكفيرية، ودعوات العنف وجماعاته، وغير ذلك من الأمور ذات الطابع الهدَّام، على إثر ما جرى من استخدام الأنظمة الحاكمة في بعض البلدان العربية للعنف المسلح والأمني المفرِط في التعامل مع القاعدة الشبابية للجماعات والحركات الإسلامية، على إثر “نزاع الملكية” التي وقع بين هذه الأنظمة وتلك الجماعات، في مرحلة ما بعد ثورات ما يُعرَف بالربيع العربي.
وتنقسم هذه القضية العاجلة في حقيقة الأمر إلى قسمَيْن: الأول منها يخص نقطة إيقاع يقين لدى الشباب المنضوي في الحركة الإسلامية، بأنه مبدئيًّا، هناك خلل حقيقي في عملية التوجيه، وفي فهم الموقف، وبالتالي في الطرائق الحالية التي يتم التعامل بها معه.
وترتبط هذه القضية بنقطة المنهج؛ حيث إن أولى وأهم مهام هذه المرحلة، هي تطبيق المنهج الأصلي الذي تقوم عليه الحركة الإسلامية، والذي تم تأصيله بالكامل من جانب الآباء الأوائل للحركة الإسلامية المعاصرة، على قواعد القرآن الكريم، وصحيح السُّنَّة النبوية، بما لم يخرج عن كليهما.
أولى وأهم مهام هذه المرحلة، هي تطبيق المنهج الأصلي الذي تقوم عليه الحركة الإسلامية، والذي تم تأصيله بالكامل من جانب الآباء الأوائل للحركة الإسلامية المعاصرة، على قواعد القرآن الكريم، وصحيح السُّنَّة النبوية، بما لم يخرج عن كليهما
الشق الثاني في هذه القضية، هو ماهية الأسس التي ينبغي أن تنبني عليها حركة الإنسان المسلم في هذه الحياة، وكيف أنها أمور أكبر وأعمق أثرًا من النوازع الذاتية، ومن القرارات المتسرعة.
وفي حقيقة الأمر فإنه مبدئيًّا تُعتبر أولى خطوات ذلك هو إعادة التأكيد على منهج السيرة النبوية، سواء على المستوى التربوي، أو على المستوى الحركي، أي على مستوى التأسيس القيمي والمفاهيمي، أو على المستوى التطبيقي على أرض الواقع.
وفي هذا الصدد فإن المفتاح أو الأرضية الأساس التي نهض عليها المنهج النبوي في التربية والعمل الحركي، هو الأخلاق ، والتي منها القيمة.
وهو أمر واضح في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي بشكل لا لبس فيه. ففي خطبة الوداع؛ قال “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”: “إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”.
وفي سُورة “الحَج”، الآية (30)، يقول الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}. في هذه الآية، وضع الله تعالى النهي عن قول الزور، خلف الشِّرْك وعبادة الأوثان، كدلالة على خطورة مثل هذا الفعل، وهو ما يندرج في بند الأخلاق؛ حيث الزور المذكور في الآية، يشمل كل ما يتصل بالكذب، بما في ذلك التضليل والتشويش.
وهناك حديث نبوي صحيح يقول فيه الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” إن المسلم لا يكون مسلمًا وهو يكذب؛ أي أن خُلُقاً سلبياً مثل الكذب -وبالدليل الشرعي- يطعن في عقيدة صاحبه أصلاً.
وهذه فقط نماذج، والقرآن والسُّنَّة بهما الكثير من الأدلة على أننا –إذًا– في الإسلام أمام رسالة أخلاقية بالأساس.
وإنَّا عندما نقول ذلك، نعود إلى نقطة مهمة نشير إليها دائمًا في كل مواضع الحديث التي اتصلت بهذا الأمر، وهي أن مسمى “إسلامي” يرتبط بمنظومة من الأخلاقيات والمرجعيات والسمات، يجب توافرها قبل أن نطلق هذا المسمى أو الصفة على شخص أو جماعة، وأي خروج عن هذه السمات والمرجعيات لا نكون إسلاميين.
إن مسمى “إسلامي” يرتبط بمنظومة من الأخلاقيات والمرجعيات والسمات، يجب توافرها قبل أن نطلق هذا المسمى أو الصفة على شخص أو جماعة
تمامًا ببساطة، كما في علم الأحياء –قياسًا مع الفارق– لا يتم إدراج مخلوق ما تحت مسمى “فصيلة” أو “رتبة” معينة، إلا لو توافرت فيها سمات خِلْقية معينة.
وانبثاقًا من ذلك، فإن التزامنا الأخلاقي كمسلمين بشكل عام –وليس فحسب كإسلاميين مشتغلين بالحركة الإسلامية أو بالشأن الإسلامي– إزاء ما يفرضه علينا الواقع الصلب مما لا جدال فيه من واجبات لا يجبُّه أي التزام شخصي آخر، وبالذات لو كان ذا طابع عاطفي أو يخص مصلحة فردية.
وذلك لأن الواجبات العامة تخص الدين، أو تخص المجموع، وهو الأمة المسلمة، بينما أي التزام شخصي آخر لا يخص سوى أفراد، والمجموع فوق الفرد بأي حال وفق النظرة الإسلامية للعمران والاجتماع الإنساني.
وليس ذلك استطرادًا في سياق خواطر أو فلسفات قد لا يكون لها موضع في ظل الأحداث المتسارعة على الأرض، ولكن محتواها شديد الارتباط بهذا الواقع الذي نراه الآن على مستوى الشباب المسلم، ولاسيما شباب الحركة الإسلامية.
فحياة الإنسان وسعيه في هذه الدنيا هي أمور ما بين القيمة والمنفعة، والمؤسف أن الكثير من الشباب الحركي، إما –بسبب ضعف الفهم والتأهيل التربوي والأخلاقي– قد استجاب لمزالق الدنيا، وفضَّل المنفعة المادية، وجعل تحصيلها/ عدم تحصيلها، معيار نجاح/ فشل، ما يقوم به .
وقد يكون في المنفعة قيمةٌ ما، ولكن من المهم ألا ينغرس الإنسان في حالة من الاهتمام الأصيل بالمنفعة المادية بشكل كامل.
لا يُقصد هنا بالمنفعة المادية المال، وإنما كل ما هو محسوس من الأشياء بشكل عام، أو المرتبط باللذة بمفهومها الفلسفي، كما وضعه شافتسبري وآدم سميث، وغيرهما من فلاسفة مذهب الفردانية والمنفعة المادية في الغرب، وهو مفهوم غير بعيد عن مفهوم اللذة الشائع لدى العوام.
هذا، مع تحقيقه لمكاسب وقتية، أو حتى طويلة الأمد، يقود لخسائر أكبر على المدى الطويل، ووقت إحصاء المكاسب والخسائر ستكون الخسائر أكبر. وقد تكون الخسارة هي خسارة الإنسان لنفسه ولآخرته، وذلك هو الخسران المبين.
وبالنظر إلى ما جرى من ارتباكات، وخسائر –أو ما ينظر إليه البعض من خسائر– في السنوات الأخيرة، فإنه من الأهمية هنا بمكان التأكيد على أن القرآن الكريم يخبرنا بما لا غبش فيه، أن السعي للقيمة في حد ذاته هو مكسب أخلاقي، والمكسب الأخلاقي يعني أن يكسب الإنسان نفسه ودينه وبالتالي آخرته، ويحقق “إنسانية” الإنسان لو صحَّ التعبير.
أي أنه ليس من معايير المكاسب أن نجد الدولة الإسلامية قد أقيمت، أو تم التمكين لهذا الدين في الأرض، أو أن الظالمين قد نزلت عليهم صاعقة من السماء قضت عليهم، فهذه كلها تصورات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.
فالنصوص القرآنية والنبوية تؤكد أن الصراع بين الحق والباطل هو صراع أبدي، حتى قيام الساعة، والتمكين للدين لن يتم بالصورة المثالية التي يتصورها البعض، ودولة الخلافة التي على منهاج النبوة لن تقوم إلا كما تنبأ بها المصطفى “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، إلا مع نهاية نهاية الزمان.
كما أن النصوص الثابتة تؤكد أن عقاب الظالمين قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، ووفق نظرة الله تعالى وحكمته الأشمل التي تضمن استقراراً وتوازناً، وبالتالي استمرار هذا الكون إلى أن يشاء عز وجل.
إذًا مكاسبنا الحقيقية في كل هذه المراحل التي نمر بها في حياتنا، وفي سعينا ضمن الحركة الإسلامية، إنما هي لكسب أنفسنا، وتعزيز موقفنا مع الله عز وجل، أي هي معركة قيمة وأخلاق بالأساس.
والأخلاق –كما تقدَّم– ليست من نافلة القول، بل هي أساس الإسلام وما سبقه من رسالات الله عز وجل في الأصل، وإقامة الأخلاق في الأرض يسمح بكل شيء يندرج تحت بند التحضُّر و”المدينية” التي هي أساس تحقيق العدالة خلال السعي في العمل والنتائج.
في المقابل فإن حالة البداوة والتوحُّش التي تكلم عنها ابن خلدون وغيره من علماء العمران، سببها الأساس هو إعلاء المنفعة الفردية في صورتها الخام، وهي السبب في فشل مساعٍ كثيرة للإنسان، وعلى مستوى المجتمعات، ولذلك هي محرَّمة بالكامل في الإسلام.
إن حالة البداوة والتوحُّش التي تكلم عنها ابن خلدون وغيره من علماء العمران، سببها الأساس هو إعلاء المنفعة الفردية في صورتها الخام، وهي السبب في فشل مساعٍ كثيرة للإنسان، وعلى مستوى المجتمعات، ولذلك هي محرَّمة بالكامل في الإسلام
ولعل ذلك واضح حتى في كتابات كبار مفكري وفلاسفة الغرب، مثل برتراند راسل، الذين قالوا إن الحضارة الغربية بقيم الرأسمالية المتوحشة التي تمثل أجلى تجسيد لغياب الأخلاق والمدينية الإنسانية، وتُعلي من قيم المنفعة المادية، والفردانية، تحمل بذور فَنَائها، بسبب طغيان المادة على الأخلاق، والمنفعة على القيمة فيها.
وفي هذا، فإن جميع المشتغِلِين بالشأن الحركي، وبالذات التربويين والمفكرين، من أهم واجباتهم في هذه المرحلة، العمل على إعادة ضبط أدمغة الشباب والجيل الأحدث سنًّا في نقطة الفهم، في اتجاه المدركات الصحيحة للسعي والهدف، من أجل استعادة السياقات الطبيعية والمكانة التي يستحقها المشروع الحضاري للإسلام، في صراع الأمم والحضارات الأبدي الذي تشهده الإنسانية إلى يوم يبعثون!
(المصدر: موقع بصائر)