مقالاتمقالات مختارة

الحركة الإسلامية والصحوة.. مستجدات تقتضي مراجعات

الحركة الإسلامية والصحوة.. مستجدات تقتضي مراجعات

بقلم أحمد التلاوي

تأتي الصحوة الإسلامية –بلا مراء– كأحد أهم الظواهر السياسية المتعددة الأبعاد في عالمنا المعاصر، والتي يمكن وضعها جنبًا إلى جنب –باعتبارها حركة تغيير وإصلاح كبرى– بجوار الثورات والحركات الإصلاحية وحركات التغيير الكبرى التي غيَّرت وجه التاريخ.
ويكفي في هذا، الإشارة إلى ما ذكره صلاح الدين الجورشي، في كتابه “الحركة الإسلامية.. رؤية مستقبلية”، من أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) قامت بتمويل كُلِّي وجزئي، لنحو (120) مؤتمرًا وندوة مختلفة حول الصحوة الإسلامية، في العام 1983م وحده! [القاهرة: مكتبة مدبولي، ط1، 1989م، ص219].

في هذا الصدد، لا يمكن بحال مناقشة أحوال الأمة وإصلاحها، من دون الوضع في الاعتبار “الهيئة” التي تعبِّر أو تمثِّل ظاهرة الصحوة الإسلامية، وهي الحركة الإسلامية، على اختلاف تلاوينها ومدارسها الفكرية والفقهية.

وعند إجراء رصد موضوعي للأوضاع الراهنة التي تحياها الصحوة الإسلامية، والحركات المعبِّرة عنها؛ فإننا نقف على الكثير من المشكلات التي مثَّلت في الوقت الراهن، ارتكاسًا على الكثير من النجاحات المتحققة في العقود السابقة.

ولكن، وقبل الانتقال إلى سياق الحديث الرئيسي في هذا الموضِع، فإنه ثمَّة ضابط علمي مهم في مثل هذه الأحوال من النقاش، يتعلق بتحرير المفاهيم؛ حيث إننا لا يمكن أن نطابق مفهوم “الصحوة الإسلامية” مع مفهوم “الحركة الإسلامية”؛ حيث الصحوة –بطبيعة المصطلح– أوسع بكثير من الحركة الإسلامية.

فالمصطلح الأول، هو تعبير عن حالة شعورية وسياق مجتمعي، أخذ مظاهر فكرية وسياسية وغير ذلك، مما يمكن أن نطلق عليه مسمَّى “تيار” أو “أيديولوجية”، بينما المصطلح الثاني، الحركة الإسلامية، إنما هو مصطلح أكثر تحديدًا وأقل شمولية؛ حيث يعبِّر عن كيانات معينة محددة المعالم والأطر، تتفاوت في انتشارها وقوتها.

ولكن، وهي أولى المشكلات التي وقعت في السنوات الماضية، وسمحت للكثير من خصوم الدعوة والصحوة بأن تتحرك لتعطيلها، هو التطابق الذي حصل بين الحركة الإسلامية كمؤسسة أو هيئة، وبين الصحوة كتيار فكري ومجتمعي متعدد الأبعاد.

ولمزيد من التوضيح؛ فإن بعض الحكومات وأجهزة الاستخبارات في دول غير مسلمة، عملت على تشكيل عصابات مسلحة، تعمل على ترويع الناس وقتلهم، وعلى التخريب الممنهج بصورة طالت مفردات الحضارة الإنسانية، مثل الآثار وغير ذلك، ونشر هذا من خلال وسائل التقنية الحديثة، فيما يطلقون على أنفسهم مسمَّى “السلفية الجهادية” مثلاً.

وفي ظل التطابق الذي تم، فإن الأثر السلبي على الدعوة، وعلى المسلمين كافة، وعلى الدين كان مُروِّعًا، ودمَّر ثمرة عقودٍ طويلة من العمل الدعوي في الغرب، بدأت حتى من قبل ظهور جماعة “الإخوان المسلمون” في العام 1928م، كأول حركة إسلامية في العصر الحديث.

فمجلة “المُصوَّر” المصرية، نشرت في عددها الصادر في الثامن من يناير من العام 1926م، تحقيقًا مصوَّرًا عن انتشار الإسلام في بلاد الإنجليز.

وهذه هي المشكلة الأولى الواجب البحث عن معالجة لها، وهي اختزال الصحوة في الحركة ؛ لأنه يتصل بها منظومة من المشكلات الفكرية والتنظيمية عميقة؛ حيث تطال هذه المشكلة في ثناياها، قضية “الانغلاق التنظيمي”، ورؤية كل جماعة أو تنظيم –بشكل مؤسس فقهيًّا، وفي منظورات متباينة ومختلفة لبعض الأمور– إلى ذاته على أنها أو أنه، هو الممثل الشرعي والوحيد ليس للدعوة فحسب، وإنما للدين ذاته، ومن ثَمَّ فتنة التكفير والاقتتال الداخلي كما حدث في مناطق أزمات عديدة في عالمنا العربي والإسلامي، مثل سوريا وليبيا، ومن قبلُ أفغانستان.

في هذا الإطار، فإن هناك مصلحة أصيلة للدعوة، وللصحوة الإسلامية، بإحداث عدد من التغييرات المفاهيمية البنيوية ترتبط بعملية كان يجب أن تكون على رأس الأولويات منذ عقد الثمانينيات الماضية وما بعدها، مع دخول العالم –على المستوى الفكري وليس العلمي أو التقني فحسب– مرحلة ما بعد الحداثة.

وأول هذه المتغيرات، هو ضرورة إعادة النظر في ثابت مهم تتحرك في إطاره الحركات الإسلامية، وهو مفهوم تقسيم العالم إلى ديار إسلام وديار كفر، وصنوه وما ترتب عليه في صدد تقسيم العالم إلى فسطاطَيْن: ديار السلم، وديار الحرب.

فالتطورات التي رافقت مرحلة ما بعد انهيار الدولة الإسلامية الجامعة الأخيرة في تاريخ المسلمين، ممثلة في الدولة العثمانية، وما رافق ذلك من انتشار للدعوة في دول غير مسلمة؛ فإنه صار هذا التقسيم غير دقيق، فلم تعد ديار الكفر ديار كفر فحسب بالمفهوم العلمي الدقيق الذي يؤمن به السلفيون على وجه الخصوص، ولم يعد –في ظل متغيرات ما بعد الثورة الصناعية وما رافقها من تحولات في تقنيات الحرب والصراع– بالإمكان الحديث عن أن ديار غير المسلمين هي ديار حرب بإطلاق الحكم أو الحال.

لم تعد ديار الكفر ديار كفر فحسب بالمفهوم العلمي الدقيق الذي يؤمن به السلفيون على وجه الخصوص، ولم يعد بالإمكان الحديث عن أن ديار غير المسلمين هي ديار حرب بإطلاق الحكم أو الحال

وهي ليست بالفكرة البسيطة؛ حيث هي هاجس كبير للغاية لدى المجتمعات الغربية، ويعمل خصوم الإسلام والدعوة على تعميقها، سواء من تيارات اليمين القومي، أو من العلمانيين وغلاة الملحدين، إضافة إلى الدوائر الصهيونية، اليهودية والمسيحية، طبعًا.

الأمر الآخر الضروري في هذا السياق، هو أن تتضمن المناهج التربوية والفكرية التي يتلقاها الصف الإسلامي في الحركات الإسلامية الصحوية، وينعكس كذلك هذا في المادة الإعلامية والفكرية والثقافية التي يتم تقديمها للآخر غير المسلم، التأكيد على فكرة أن الحركة أو الجماعة إنما هي أداة دعوية، وليست هدفًا في حد ذاته.

لابد أن تتضمن المناهج التربوية والفكرية التي يتلقاها الصف الإسلامي في الحركات الإسلامية الصحوية، التأكيد على فكرة أن الحركة أو الجماعة إنما هي أداة دعوية، وليست هدفًا في حد ذاتها

ويتصل بهذا الأمر، منظومة من التحولات المفاهيمية المطلوب ترسيخها، وهو أنه -وهو أمر عَقَدِي غائب للأسف– لا أحد يملك تمثيل الإسلام، ولا تقديم الفهم الكامل له، فهذا أمر مستحيل بعد انقطاع الوحي، والقول بذلك، معناه مخالفة صريحة لصحيح الدين في أمر عَقَدِي.

وبالتالي فإنه لا توجد جماعة للمسلمين، بينما مَن هم خارجها: غير مسلمين/ ضالُّون/ في جاهلية… إلخ؛ حيث هكذا وضع، لم يكن في عهد الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، وكان من صحابته، بل ومِن رواه أحاديثه، مَن هو من أدنى طبقات السلم الاجتماعي، ولم يسلِم سوى عامٍ واحد من بعثة الرسول “عليه الصلاة والسلام”.

ومن بين أوجه أهمية ذلك، الفصل بين أخطاء الممارسة السياسية وغير السياسية التي تقع فيها بعض الحركات والجماعات المصنَّفة في دائرة ما يُعرَف بـ”الإسلام السياسي”، وبين الصحوة والدعوة، وحتى الدين ذاته.

ومن بين أوجه التحديث المطلوب، ويمثل غيابه عائقًا على أكبر قدر من الأهمية أمام اندماج المسلمين الجدد في المجتمعات غير المسلمة، أو استقطاب مسلمين جدد من هذه المجتمعات، هو ما يتعلق بمفهوم الانتماء إلى الإسلام.

فمن المعروف أن الانتماء إلى الإسلام يعني أن تكون حياة الإنسان المسلم، منذ مبدئها إلى منتهاها، وفي كل المجالات؛ منضبطة بتعاليم الدين، وكذلك تصوراته عن الكون والحياة، وعن دوره فيها، وعلاقاته بالآخرين، مسلمين وغير مسلمين، والأهم بخالقه عز وجل.

وفي حقيقة الأمر فإن هناك جموداً كبيراً في النموذج الذي تقدمه الحركات الإسلامية، ولاسيما السلفية منها، سواء السلفية التقليدية والعلمية، ويأخذ صورته الأكثر تطرفًا –توصيف موضوعي وليس إشارة سلبية– في حالة “السلفية الجهادية”، في هذا الصدد، أي فيما يتعلق بنموذج “العَيْش الإسلامي”.

فالنمط الغالب في هذا الصدد، هو أنه لا ينبغي الأخذ بأي شيء “يُرى” أنه من خارج النموذج الإسلامي، في أي مجال، بينما النموذج الإسلامي نفسه، شاءت حكمة الله عز وجل، أن يكون على أكبر قدر من العموم؛ لكي يصلح لكل زمان ومكان.
ولكن هذا الجمود أدى إلى إخراج الكثير من مفردات الحياة الآخذة في التطور، والتي لا تستقيم حياة الإنسان والجماعات من دونها، من نموذج العَيْش الإسلامي.

وبطبيعة الحال فإنه مع التسليم الكامل، بشمولية الإسلام، إلا أن هذه الشمولية لا تعني الرؤية التي تقدمها الكثير من الحركات الإسلامية للنموذج الإسلامي، بحيث تقف عند حدود لم يحددها لا قرآنٌ ولا سُنَّة، وإنما رؤى تعود إلى الطرائق التي رأى بها علماء السلف النموذج الإسلامي وفق مقتضى وقتهم.

مع التسليم الكامل، بشمولية الإسلام، إلا أن هذه الشمولية لا تعني الرؤية التي تقدمها الكثير من الحركات الإسلامية للنموذج الإسلامي، بحيث تقف عند حدود لم يحددها لا قرآنٌ ولا سُنَّة

وهنا ثمَّة توضيح شديد الأهمية، وهو أن الأطر والقواعد الناظمة التي وضعها السلف الصالح، لا نقول بخطأها بطبيعة الحال، ولكن النقطة المهمة، هي أنه ينبغي أن يكون هناك عند النظر والأخذ منه، قناعة مفادها أن هذه الأطر والقواعد، إنما هي -أولاً- اجتهادات وليست قواعد شرعية، وثانيًا، أنها ابنة عصرها.

وهو –للغريب– أمر أدركه السلف، ولم ندركه نحن في زمن الفيمتوثانية، وزمن العلم وسيادة العقل؛ حيث إن السلف المتقدمين طوَّروا على ما أتى به الصحابة والخلفاء الراشدون من اجتهادات، ومن المتقدمين مَن طوَّر على المتقدمين الأوائل، ومن المتأخِّرين مَن طوَّر على المتقدِّمين، حتى في قواعد الفقه نفسه، الذي هو تفسير الشريعة ذاتها.

وهو أمر ثابت في سير علماء المسلمين الكبار جُلّهم، أنهم تكلموا عن نسبية الفتوى، وتغييرهم لبعض ما أتى به من سبقوهم بحسب مقتضى الحال المكاني والزماني.

حول “الدولة” كقضية مركزية:

يأتي في صُلب المفاهيم المتصلة بقضية النموذج الإسلامي، قضية الدولة، أو بمعنى أدق، المنطقة الزمنية التي تضع الحركة الإسلامية فيها عملية إقامة الدولة، ضمن المشروع الإسلامي.

فالإيمان بشمولية الإسلام، وبأنه كلٌّ متكامل، ودعوة وسياسة؛ جعل البعض يفرض في حِراكه تزامن الجهد الدعوي مع الجهد السياسي لإقامة دولة إسلامية.

وهو أمر خاطئ في السياقات التي تقوم الحركة الإسلامية –كافة– بالسعي إلى تطبيقه بها.

وهو أمر غريب؛ لأنه حتى في أدبيات الآباء المؤسسين الأوائل للحركة الإسلامية، مثل حسن البنا وأبي الأعلى المودودي، فإن هناك مراحل وأمور عديدة ينبغي تحقيقها أولاً، قبل الوصول إلى مرحلة الدولة الإسلامية.

كما أنه ووفق التحولات الكبيرة التي طرأت على واقع المسلمين الجيوسياسي بعد تفكك الدولة العثمانية، ووجود أقليات مسلمة في دول غير مسلمة، كما تقدَّم القول، ومسلمين في بلدان مسلمة ولكن تحكمها أنظمة علمانية أو مستبدة…إلخ؛ فإن هذه القضية كان من المفترض بحثها بصورة تتفق مع هذا المستجد.

ولذلك، فإنه كان بديهيًّا توقُّع ذلك وفق قواعد العمران والاجتماع السياسي التي هي في الأصل قوانين رب العزة في خلقه، بسبب مزامنة البعض لها مع قضية الدعوة، فتفجرت العديد من المشكلات السياسية والاجتماعية.

بل لقد وصل الأمر إلى حد الصراعات المسلحة، فجعل الحركة الإسلامية مشتبكة في حروب وصراعات أهلية صريحة، أدت إلى انتقاص مساحتها الجماهيرية، والتضييق عليها بشكل كبير في دولها ومجتمعاتها، وجعْلها محل ريبة كبيرة، بل رفض صريح في الدول غير المسلمة، كما يتضح من مستوى “الإسلاموفوبيا” الحالي في الغرب، من المسلمين.

وفي حقيقة الأمر فإن هذه القضايا، وغيرها الكثير، ربما تُعتبر من الأولويات، ولكنها –للأسف– في ظل انشغالات عديدة استغرقت الحركات الإسلامية، ومن بينها تورطها في صراعات مسلحة، وبعضها لحساب أنظمة وحكومات إقليمية داعمة تركت أهم واجب قامت به عبر تاريخها، وهو ملاحقة التطورات والمستجدات بالإنتاج الفكري الذي يشرحها، ويحدد موقف الإسلام منها، ويوجِّه عموم المسلمين إلى ما ينبغي إزاءها.

ولكن للأسف لا نجد في وقتنا الراهن جهدًا وفيرًا ومنظَّمًا كالذي كان يقوم بها شخصيات مثل فتحي يكن، ومحمد الغزالي، وغيرهما من الرموز الصحوية، في هذا الصدد.

إن المطلوب الآن مراجعة المناهج الفكرية التي يتم تعميمها على الصف داخل الحركات الإسلامية الصحوية، وتحديث ما فيها بناءً على مستجدات الواقع ومقتضى الحال ، وإلا فإننا سوف يأتي علينا زمان لن تعرف فيه المجتمعات المسلمة، وغير المسلمة في بلدان الأقليات، ما يمكن أن نطلق عليه مسمى “الصحوة الإسلامية”.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى