الحج … هجرة القلوب؛ لتكفير الذنوب
بقلم كارم الغرابلي
الحج رُكنٌ من أركان الإسلام الخمسة، فرضه الله تعالى على من استطاع إليه سبيلاً، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران، الآية:97]، وهي الفريضة التي يقضي كثيرٌ من المسلمين سنين طويلة في الشوق إليها، ومحاولة أدائها، فللحج فضائل كثيرة، ربما من أبرزها أن الله يغفر للحاج ذنوبه، إن حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه، فكيف له أن يحافظ على هذا الفضل العظيم؟
يقول الشيخ “عبد الباري خلة” في حديث لبصائر: “نعم الله علينا كثيرة لا تُعدّ ولا تُحصى، أجلُّها وأعظمُها الهداية لدين الإسلام، والتوفيق للطاعة، والإعانة على أدائها والقيام بها، ومن أجلّ الطاعات وأفضل القربات حج بيت الله الحرام، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَجَّ هذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّه) (رواه الشيخان)”.
ويذكّر “خلّة” بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام، الآية: 162]، وقوله أيضًا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر، الآية:99]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة الأحقاف، الآية:13]، وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [سورة النحل، آية:92].
ويشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من ترديد دعاء: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي وغيره)، وكذلك: (اللهم إني أعوذ بك مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ) (رواه الترمذي وغيره).
* علامات قبول الحج:
ويبين أن المقصود هو النقصان بعد الزيادة، وقيل: هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، أو الرجوع من شيء إلى شيء من الشر، أو الرجوع عن حالة مستقرة جميلة.
ويضيف “خلة”: “لابد للمسلم أن يستمر على الطاعة بعد الحج، فإتباع الطاعة بطاعةٍ دليل على قبول الطاعة الأولى -لافتًا إلى- أن العمل المُداوم عليه محبوب لله، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلّ) (رواه الشيخان).
وعن علامات قبول الحج يقول: “أمارة الحج المبرور حفظ الجوارح عن المعاصي، وقد سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: “ما الحجُّ المبرور؟”، قال: “أن تعودَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة”، فليكن حجُّك حاجزًا لك عن مواقعِ الهلكة، ومانعًا لك من المزالقِ المُتلفة، وباعثًا لك إلى المزيد من الخيرات وفعلِ الصالحات، واعلم أن المؤمن ليس له منتهى من صالحِ العمل إلا حلولُ الأجل، فما أجملَ أن تعود بعد الحج إلى أهلك ووطنك بالخُلُقِ الأكمل، والعقلِ الأرزن، والوقارِ الأرْصَن، والعِرض الأصون، والشِيَمِ المرْضية، والسجايا الكريمة! ما أجملَ أن تعود حَسَنَ المعاملة لقِعادك، كريمَ المعاشرةِ لأولادك، طاهرَ الفؤاد، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد، المُضْمَرُ منه خيرٌ من المظهر، والخافي أجملُ من البادي! فإن من يعُد بعد الحج بهذه الصفات الجميلة والسمات الجليلة فهو حقًّا من استفاد من الحجِ وأسراره ودروسه وآثاره”.
ويضيف: “يظن بعض الناس أن من حجّ فليفعل ما يشاء، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا خطأ، ويظن بعضهم أن من حجَّ فإنه معصوم من الذنوب، لا تقع منه معصية بعد حجه، وهذا خطأ فقد يذنب الحاج، لكنه عليه ألا يُصرَّ على معصيته، بل يبادر إلى التوبة، فإن حج ثم عصى ثم تاب رجع له كمال إيمانه”.
*فرائص لمصلحة الانسان:
من جانبه أوضح عضو رابطة علماء فلسطين “مصطفى أبو توهة” أن الله فرض على الإنسان فرائض وأركان، وألزمه بواجبات؛ لاستمرار العلاقة بين الإنسان الضعيف والخالق المطلق الغني.
وقال “أبو توهة” في حديث لـ”بصائر”: “إن من هذه الفرائض التي لها علاقة بمصلحة الإنسان هي فريضة الحج، حيث قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة المائدة، الآية:97]”.
وأضاف “أبو توهة”: “وعليه فإن الحج يؤدي في النهاية إلى مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، وأن الله لم يفرض الفرائض إلا إذا توافرت شروطها، وإمكانات فعلها، واستطاعتها عند الإنسان، وذلك لقوله عز وجل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا} [سورة آل عمران، الآية:97].
وأشار إلى أن فريضة الحج لا يمكن أن تكون إلا إذا استطاع الإنسان الاستطاعة المادية، العقلية والأمنية ومن لم يستطِع إليه سبيلاً فلا حج عليه، أما إذا استطاع أداءها، وتوافرت الإمكانات، أصبحت عليه فرض عين، لا يمكن أن تسقط عنه، وإلا سيكون العقابُ الأليم جزاءَه.
وذكر “أبو توهة” أن فريضة الحج استوعبت كل طاقات الإنسان المالية، والبدنية والعقلية، لذلك استطاعت أن تحقق الأفضلية المطلقة من بين العبادات كلها، حتى الصلاة والزكاة التي استوعبت البدن والمال، لافتًا إلى أن الحج هو الفريضة الوحيدة التي يمكن أن تكفر الكبائر كلها، ما عدا حقوق العباد.
وبيّن أن الصلاة والصيام تُكفّر صغائر الذنوب، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفّرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر) (رواه مسلم)، أما فريضة الحج تأتي على الذنوب من أولها إلى آخرها.
وأوضح أن ذلك لحديث عمرو بن العاص عندما أقبل مبايعًا مسلمًا، ومدّ يده ليبايع الرسول عليه الصلاة والسلام، وعندما مدّ الرسول يده، قبض عمرو يده، واستغرب الرسول صلى الله عليه سلم من تصرف عمرو بن العاص الذي اشترط على الرسول أن يغفر له ذنبه.
وأردف: “فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألم تعلم أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله) (رواه مسلم)، وبالتالي فهذه إشارة واضحة أن الإنسان إذا حج حجًا كاملًا تامًا فهذا من شأنه أن يخلقه من جديد، ويؤدي إلى صفاء ونقاء في روحه”.
ونوّه “أبو توهة” إلى أنه عندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أي الأعمال أفضل؟” فقال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: “ثم ماذا؟” قال: (جهاد في سبيل الله)، قيل: “ثم ماذا؟” قال: (حج مبرور) (رواه الشيخان)، وبالتالي فإن الحج المبرور إذا أُدّي على الشكل الصحيح، فإنه يعيد صياغة الإنسان من جديد، ويزيد القرب من الله.
وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحجاج والعُمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألهم فأعطاهم) (رواه الطبراني)، متابعًا: “ومن هنا نقول أن الوقوف على الأجر والثواب لهذه الفريضة تقف بالإنسان على ضرورة معرفة سر قبولها، وجعلها بهذه المثابة من الأجر العظيم”.
وأكّد “أبو توهة” أن الحج ليس نقلاً للأبدان والأجساد من مكان لآخر، وتغيير مواقع، وإنما الحج هو هجرة للقلوب، وانتقال للمشاعر من حال إلى حال، وهذا ما أشار إليه دعاء سيدنا إبراهيم الذي قال: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات} [سورة إبراهيم، الآية:37]”.
وأوضح أن “الهوي” ليس انتقال أبدان وإنما هي رحلة قلوب، حيث قال ابن عباس رضي الله عنه -حين رأى أفواج الحجيج من كل فج عميق-: “ما أكثر الركب، وما أقل الحجيج”، أي ما أكثر الركب ولكن الصادقين والمقبلين على رحمة الله هم قليل، مشددًا على ضرورة أن تكون هذه الرحلة هجرة لله تعالى وليست هجرة إلى بيته عز وجل!
(المصدر: موقع بصائر)