الحج بين الصبر والخضوع
بقلم عبد الرحمن بن محمد النذير
الحج هو قصد الأماكن الشريفة لأداء المناسك الشرعية، استجابة لأمر الله جل جلاله، وفرض لازم من الفرائض الإسلامية مصداقا لقول الله “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا”، حيث يلتقي المسلمون من مختلف الأجناس ومن كل بقاع المعمورة في رحاب البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا. يلتقي الحجيج في تلك البقاع ليطوفوا بالكعبة المشرّفة، ويسعوا بين الصفا والمروة، ويقفوا في ذلك الصّعيد الطّاهر، صعيد عرفات، حيث تتساوى خلائق الرحمن وهي ترجو من مولاها الحنان المنان العفو والغفران، “الحج عرفة”، ثمّ يذكروا الله عند المشعر الحرام، ويفيضوا من حيث أفاض الناس وليقضوا تفثهم ويوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق، وذلكم مسك ختام أركان الحج المبرور. الحجّ رحلة للطهر والعبادة، يلتقي في موسمه الحجيجعلى ذلك الثرى الطاهر، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله، وقد صفت نفوسهم وخلصت نواياهم وتركوا أضغانهم، بعد أن تسابقوا إلى الحج وتوافدوا في شوق وامتلأت قلوبهم بالإيمان واشتد عود أجسادهم بالقوة والصبر امتثالا لله وأحكامه الشرعية. إن حقيقة الإسلام أنه رسالة إنسانية، ودين اجتماعي، يهتم بتربية النفس وتقوية الجسم وتعزيز الروح الأخوية والجماعية، فإذا تأملنا الحكمة من أهمية الصلاة وفرضيتها ندرك أنها تبعد الإنسان عن المحرمات وتطهر المجتمع من الفساد والانحلال الأخلاقي ما يحقق الفضيلة السامية لإنسانية الإنسان ويثبت قلوب المسلمين ويوثق صلتهم بمولاهم سبحانه على مدار يوم كامل، في طهر وطهارة. وإذا نظرنا إلى الحكمة من الصيام فإننا نجده مدرسة للقيم الروحية، فهو العبادة المتفردة بالسرية والمحجوبة عن الناس، لا يشهدها إلا المولى عز وجل، والصائم يتخلق بأخلاق الملائكة فيكف عن الشهوات بحسب الإمكان، شهوات الأثرة وحب الذات، ويزهد في الدنيا وملذاتها ويتحرر من سطوة الجسد إلى سيطرة الروح والعقل. من خلال هذه الوقفات، نحط الرّحال لنعيش سويا مع بعض مقاصد الحج الهامة؛ فالحج يستوجب أول ما يستوجب من المسلم الحاج استحضار النية الخالصة بقلب مفعم بالإيمان، والتهيؤ الروحي والجسدي لمكابدة الصبر على المشقة التي لا يخلو منها منسك من مناسك الحجّ، طلبا لسموّ الرّوح إلى العلياء، ما يجعل الغاية الكبرى من الحج هي تعويد المسلم الحاج على الصبر والامتثال لأوامر المولى عز وجل. الصبر في الحج من علامات العظمة ومن سمات الكمال، لذلك كان لفظ الصبور من أسماء الله الحسنى، والصبر والمصابرة في الأسفار وسائر الأعمال في غاية الأهمية والصعوبة، كما ورد في الحديث النبوي “السفر قطعة من العذاب” فهو الألم المتأتي من المشقة، لما يحصل في الحل والترحال ومن ترك المألوف والمعتاد عليه، وهذا ليس بغريب على الحاج، حيث الانتقال المفاجئ من بيته الأصلي ومن الراحة التي كان يتمتع بها والخيرات التي تحيط به إلى مكان آخر، حيث الحرارة المرتفعة والرطوبة الخانقة والازدحام المتواصل، والإقامة في أماكن متعددة، الوافدون عليها لم يألفهم الحاج من قبل في سالف أيامه في بلده، يتحمّل بعض تصرفاتهم ومعاملاتهم، ويصبر على ما يلقاه من الأذى المقصود وغير المقصود، وبين عينيه قول الله تعالى: ((فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج))، وهذه الآية تتضمّن نهيا إلهيا ورد بصيغة النفي القاطع عن أمر واقع ومقرّر في نفوس كثير من النّاس، حبّ الجدال والخصام، وهو النهي الذي يحتّم على الحاجّأن يضع لجاما لنفسه، ويتحمّل كلّ ما يلقاه من أذى حتى لا يفسد حجّه، وحتى يعود إلى بلده بحجّ مبرور وذنب مغفور وسعي مشكور. وهذا الصّبر الذي يتحلّى به الحاجّ على العوائق المادية والمعنوية، يعلّمه الامتثال لأوامر المولى عز وجل والانتهاء عند نواهيه في كافّة العبادات والمعاملات، خاصّة الأعمال والعبادات التي فرضها الحقّ سبحانه ولا تظهر للنّفس الحكمة الكامنة وراءها، لأن الأعمال التي تظهر حكمتها للإنسان ويعرف نتائجها ربّما يندفع إليها اندفاعا لاقتناعه التام بفائدتها الواضحة، بعكس الأعمال التي لا تتضح أسبابها والحكمة منها، فإنه يمتثلها طاعة لمولاه سبحانه وطلبا لرضاه.
(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)