إصدارات دينية وشرعيةمقالاتمقالات مختارة

الحاجة إلى تجديد الفقه السياسي الإسلامي (الجزء الأول)

بقلم د. المختار الأحمر – مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق

المنهجية والأسس

مقدمة منهجية

لا بد في البداية من الإشارة إلى مسألة غاية في الأهمية، تحدد هوية الباحث المنهجية في التعاطي مع موضوع التراث عموما والتراث السياسي الإسلامي على وجه الخصوص.

هذه المسألة تتعلق بالمقاربات والمنهجيات المتبعة في قراءة التراث الإسلامي والتعامل معه، والنظرة المعرفية والإيديولوجية التي تؤطر هذه المنهجيات. وقد انشغل بهذه القضية رواد الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، حيث كتب فيها الكثيرون منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، وما زال النقاش ممتدا إلى يومنا هذا، سواء داخل الحقل الإسلامي أو خارجه. ويمكن رصد أهم المنهجيات التي شكلت مسلكيات أطرت حركة التقييم وأساليب التعامل مع هذا التراث، وهذه المنهجيات تتمثل في:

منهجية تقليدية، ينظر أصحابها إلى التراث بنوع من التقديس ويجردونه من صفته التاريخية والنسبية، ويقتصر دورهم في إعادة إنتاج ورواية ما أنتجه السابقون دون القدرة على النقد أو التجاوز والإبداع، آخذين بمقولة: ليس في الإمكان أحسن مما كان، أو إن الأولين لم يتركوا شيئا للآخرين!! وهذه المنهجية نجدها عند العديد من العلماء والباحثين التقليديين والسلفيين، وهي التي يسميها عابد الجابري: الفهم التراثي للتراث.. ويتميز هذا المسلك المنهجي بطابع الاستنساخ، حيث يتعامل أصحابه مع تراث الأقدمين كما هو، فيسقُط هؤلاء بحسب الجابري في “آفتين اثنتين: غياب الروح النقديّة، وفقدان النظرة التاريخيّة. وطبيعيّ والحالة هذه، أن يكون إنتاج هؤلاء هو: التراث يكرّر نفسه، وفي الغالب بصورة مجزّأة ورديئة”[1].

إن من نتائج هذه المنهجية شلّ وتعطيل قدرة العقل المسلم على الدخول في حوار نقدي مع معطيات التراث ومكوناته، وبالتالي غياب القدرة على الاجتهاد والتجديد، وهو ما يدفع بالعقل المسلم إلى نوع من الانغلاق والنكوص.

منهجية حداثية، تتعامل مع التراث الإسلامي بنوع من التبخيس، تؤطرها ثنائية التعالي والاحتقار، ويمثل هذا المنهج، التيار الاستشراقي والعلماني والماركسي، حيث يتعامل هؤلاء مع التراث ومكوناته بمنطق المركزية الغربية، الذي ينظر إلى تاريخ العلوم بكونه تاريخا أوروبيا بامتياز، وأن المعرفة والعلم والحقيقة وحتى الجمال هي من منجزات الحضارة الغربية، أما التراث الإسلامي فلا يعدو أن يكون تابعا في أحسن الأحوال، أو امتدادا منحرفا أو مشوها للتراث اليوناني والروماني.

إن هذه المنهجية التي تتنكر لمنجزات الحضارة الإسلامية وتقلل من شأنها بجعلها تابعة للحضارة الغربية، إنما تهدف إلى خلق نوع من القطيعة المعرفية والتاريخية مع التراث من منطلق أن الحداثة لا تتم إلا بتحقيق ذلك، كما تهدف إلى إذكاء روح التبعية للمنظومة الحضارية والتاريخية للغرب.

منهجية تجديدية، تنظر إلى التراث الإسلامي ومنه التراث السياسي بموضوعية وبروح نقدية تجديدية، وهي منهجية تحتفظ بنوع من التوازن بين القديم والحديث، فهي وسط بين المنهجية التقليدية والمنهجية الحداثية، أي منهجية ترفض منطق التقديس للتراث وإعطائه صفة الإطلاقية، وفي نفس الوقت لا تسقط في منطق التبخيس الذي لا يعترف بإنجازات العقل المسلم مقابل الانبهار بالعقل الغربي والاعتراف بمنجزاته.

ولذلك فالتجديد الذي يقصده أصحاب هذا المنهج هو الذي يتعامل مع التراث باعتباره مصدر تراكُمٍ معرفيٍّ واستلهام، لا مصدر تقليد وإلزام، فالتراث في نظر هؤلاء هو صيرورة تاريخية لحركة العقل الفقهي في تفاعله مع النصوص الدينية الإسلامية، ولذلك تنبع عملية المراجعة والتجديد لهذا التراث من كونها عملية إعادة تأهيل وتفعيل لدور العقل الفقهي من جديد في تعامله مع النصوص من جهة، ومع ما تراكَمَ من منجزات العقل التاريخية من جهة أخرى. فالتجديد ليس هو إبراز القدرة على تحدّي التراث وتجاوزه، كما أن الغرض منه ليس هو خلق نوع من الإشتباك معه ونقده فحسب، بما يؤدي أحيانا إلى غمط السابقين حقهم وفضلهم، بل هو تجديد ينطلق من مسلّمة منهجية وأخلاقية هي الاعتراف أولا بما أنجزه العقل الفقهي عبر التاريخ من تنظيرات في مجالات شتى، والوقوف على مواطن الخلل والإخفاق الذي سقط فيه هذا العقل في تنظيره، وبالتبع تنقية هذا التنظير ممّا علق به بحكم الواقع والضرورات التاريخية التي حكمته، وذلك من خلال إعادة تفعيل وتجديد دور العقل الفقهي في تعامله مع النص، باعتماد قراءة واعية له ولمجمل القضايا الفقهية، ومن ذلك قضايا الفقه السياسي.

أسس التجديد في الفقه السياسي[2]

إن مراجعة وتجديد الفقه السياسي، أضحت عمليةً ضروريةً يمليها الفقه نفسه وتمليها الإشكالات والتحديات التي يطرحها الواقع المعاصر على العقل المسلم. وأيضا التجديد تمليه طبيعة التنظير السياسي التاريخي.

ولذلك فإن هذا التجديد يجب أن يتأسس على جملة من الأسس التي تضمن انسجامه مع الأطر والقيم الإسلامية، وألا يسقط في إشكالية التناقض أو الانحراف عن التوجيه الإسلامي في الشأن السياسي من جهة، وألا يتحول هذا التجديد إلى نوع من الخضوع والاستسلام لمغريات وضغط الواقع من جهة ثانية. فهو تجديد يجمع بين استلهام التراث الإسلامي الثري وبين ما أنتجه العقل البشري في مجال علم السياسة.

ومن أهمّ تلك الأسس التي يجب أن تُبتى عليها عملية التجديد ما يأتي:

1. التأصيل

لقد عرف موضوع التأصيل عدة مناقشات وكتابات حول مفهومه وماهيته، وقد نتج عن هذه المناقشات بروز رؤى واتجاهات متعددة، ولا تعدو هذه الرؤى تخرج عن أمرين أساسيين: تصحيح وتقويم وضع أو مسار قائم، أو إعادة بناء نسق ما أو علم في ضوء التصور الإسلامي ومبادئه. ومن هنا يمكن القول إن التأصيل الذي نقصده في مجال الفقه السياسي هو عملية تجمع بين التصحيح  والبناء وفق أصول الوحي المتمثلة في القرآن والسنّة الصحيحة باعتبارهما أصولا حاكمة لفعل الإنسان، فهي مصدر الأحكام الفقهية السياسية، والأساس الأول والمعيار الرئيسي في بناء التصورات واستنباط القواعد، كما أنها المرجعية الحاكمة في تقويم التراث السياسي ومراجعته، ودونها اجتهادات وآراء.

إن التأكيد على التأصيل في عملية تجديد الفقه السياسي تمليه طبيعة هذا الفقه، ذلك أن “الكثير من الأحكام في السياسة الشرعية انبنت على الاجتهاد، ولكنّها لثباتها في مؤلّفات هذا العلم، وتناقلها جيلٌ عن جيل اكتسبت في الثقافة الإسلامية ما يشبه المصدرية التي تعلو بها على المراجعة والتغيير، والحال أنّها باعتبارها اجتهادا مرتبطا بظروف معيّنة تحمل قابلية التغيير ليكون النصّ هو المرجع الذي تنبني على أساسه المراجعة لكلّ اجتهاد”[3] أي أن القصد من عملية التأصيل هاته هو إخضاع الاجتهاد إلى المرجعية الحاكمة (القرآن والسنة)، أو إلى مقاصدها الشرعية.

2. الشمولية

إن إحدى المشكلات التي يعاني منها الفقه السياسي التقليدي هي مشكلة الانتقائية في التعامل مع نصوص الوحي، والتجزيئية في التعامل مع الأحداث التاريخية، ذلك أن العديد من التنظيرات القديمة وأيضا بعض المحاولات التجديدية تأسست على نصوص مفردة وأحداث تاريخية معزولة عن سياقاتها، أي أن الهدف من أصحاب هذا المنهج التجزيئي ليس بلورة تصور متكامل مبني على كل النصوص المتعلقة بظاهرة سياسية معينة، وبالتالي استنباط قواعد عامة حاكمة للفعل السياسي عبر عمليتي التتبع والاستقراء، بل يكتفي هؤلاء بالاستدلال الانتقائي لنصوص مختارة لتأييد فهم معين أو تبرير اتجاه محدد.

إن مصدرية الوحي أو النص المنزل لا تعني بأي حال أن يقوم المنظّر بسوق اتفاقي لنصوص مختارة دعماً لمقولاته وأطروحاته، بل لابد من ارتكاز تنظيره على منظومة من المبادئ والقواعد العامة مستخرجة من النصوص عبر عملية استقراء شامل لكافة النصوص المتعلقة بالظاهرة المدروسة، وتمر عملية الاستقراء هذه عبر عدد من الخطوات المتعاقبة والمترابطة، تنطلق من حسن اختيار النصوص المناسبة للظاهرة المعنية، وتمر عبر فهمها فهما صحيحا يوافق ما تقتضيه قواعد اللغة العربية ويراعي معاني ومقاصد هذه النصوص، وتنتهي عملية الاستقراء هذه بمعرفة علة النص من أجل استخراج الحكم العام الذي ينظّم أفعال الناس التبادلية[4].

3. التأسّي بتجربة الخلفاء الراشدين

تعدّ تجربة الخلفاء الراشدين رغم قصر زمنها مرجعا مهما ورصيدا تاريخيا في مجال الفقه السياسي، فقد كانت أقرب إلى روح الدين وفلسفته في المجال السياسي، وقد تشكّلت في هذه التجربة قيم ومفاهيم سياسية مرجعية حاكمة خاصة فيما يتعلق بأنماط ومسالك الحكم، تجربة تبلورت فيها عمليا أشكال وصيغ تداول السلطة واختيار الحاكم المعتبرة شرعا، وقد شكّلت مصدر إلهام لبعض التنظيرات الفقهية إلى أن ظهر النموذج “السلطاني” فيما بعد باعتباره النموذج الشاذ عن المعايير الشرعية.

إن هذه القيم المرجعية التي تشكّلت تاريخيا من خلال تجربة الخلفاء الراشدين لم يتم استصحابها في عملية التنظير أو الاستهداء بها عمليا في الممارسة السياسية التي أعقبت الخلافة الراشدة، حيث أدَّى بروز الحكم القائم على التغلب إلى تحوّل التنظير الفقهي إلى نوع من التبرير المتكيف مع هذا النموذج الجديد (بغض النظر عن حيثياته وظروفه)، حيث لم تعد الكتابة السياسية وفية لجوهر المفاهيم والطرق القائمة على الاختيار الحر والنزيه كما كان في التجربة الراشدية، بل أصبحت هذه الكتابات حبيسة لمفاهيم وممارسات وافدة مستقاه جوهريا وفعليا من الثقافة القيصرية والكسروية التي تمنح الحاكم قدرا من القداسة، لكن تم تسويغ هذه المفاهيم وتسويقها اسميا وصوريا تحت أنماط الاختيار والتولية، مع أن اختيار الخلفاء الراشدين على تنوعه الشكلي الثري، كان في جوهره: حرا وشوريا ونزيها، وهو ما انعدم تماما فيما بعد سواء في التنظير أو في الممارسة.

إن الدعوة إلى التأسّي بتجربة الخلافة الراشدة فيما مارسته من شؤون الحكم والسياسة، ليس الغرض منها إعادة إنتاج نفس التصرفات السياسية، فهي ليست ملزمة في الاجتهاد الفقهي، وإنما الملزم هو النص، فيبقى الهدف من الرجوع إليها هو تحديد المبادئ أو القواعد العامة التي وجهت سلوكهم السياسي، وهذا هو معنى التأسي.

4. التأسيس المقاصدي

ويعني ذلك بناء فقه سياسي أو مراجعة الفقه الموروث وفق رؤية مقاصدية، تكون فيها مقاصد الشريعة حاكمة للفعل السياسي، وذلك بأن تصبح المقاصد إطارا عاما في بناء الفكر السياسي وتقييم تاريخه، لأن المقاصد العامة والمبادئ الكلية هي القادرة على الانفكاك من سلطة الزمان والمكان في قراءة التجربة السياسية التاريخية، ولذلك وجب على العقل المسلم وهو يقوم بقراءة التراث السياسي للأمة أن يستكشف المقاصد العامة والقواعد الكلية التي حكمت الفعل السياسي لدى المسلمين خاصة في التجربة الأولى للأمة، وذلك من أجل بلورة رؤية تجعل من هذه المقاصد والقواعد قيما معيارية وتشريعية.

وتزداد الدعوة إلى هذا التأسيس المقاصدي بالنظر إلىأسيأ أنّ “الفقه السياسي الموروث لم تتأسّس بعض آرائه وأحكامه على مقاصد شرعية بيّنة، وإنّما خضعت لظروف طارئة وأحوال جزئيّة”[5]، فكان الفقه السياسي في مجمله خاضعا لإفرازات الواقع الذي عاشته الأمة أكثر من خضوعه لقواعد ومقاصد الشريعة، كما أن بعض الآراء الفقهية اكتست صفة المعيارية والمصدرية نظرا لثباتها وحضورها القوي في كتب السياسة الشرعية بغض النظر عن مدى مطابقتها أو مخالفتها لمبادئ الوحي ومقاصده، مما يستدعي هذا الوضع القيام بمراجعة هذا الفقه مراجعة مقاصدية.

5. الاستفادة من الخبرة الإنسانية في مجال السياسية

ذلك أن التجربة الإنسانية قد راكمت في المجال السياسي الشيء الكثير، حيث عرف الفقه السياسي الوضعي تطوّرا كبيرا سواء ما تعلق بالجانب النظري الفلسفي أو ما تعلق بالجانب الإداري التنظيمي، وأصبح الواقع السياسي المعاصر يدار بناء على هذا الفقه ومكوناته، وهو ما جعل التجربة الإنسانية المتراكمة في هذا المجال تحقّق نجاحات مهمة لا يمكن إنكارها، خاصة في مجال تداول السلطة، ومراقبة القائمين عليها ومحاسبتهم.

وبالرغم من أن الفقه السياسي الوضعي لا يخلو من حمولات إيديولوجية، باعتبار أن أي فعل سياسي لأي مجتمع لا بد وأن يكون مرتبطا بالقيم الثقافية والاجتماعية التي تحكم أفراده، فإنه يمككنا أن نلحظ بُعدًا آخر في هذا الفقه، وهو المتعلق بالجانب الإجرائي والإداري، وهو جانب يخلو من تلك الحمولات، كما أن بعض الأدبيات والمبادئ الواردة في هذا الفقه لا تتناقض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، كمبدأ تداول الحكم، وفصل السلط، والأنظمة الانتخابية، وغير ذلك، بما يجعلنا نستعين بهذا الكسب الإنساني في عملية تجديد ومراجعة فقهنا السياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى