مقالاتمقالات مختارة

الجهاد في عالم متغير

بقلم د. معتز الخطيب – مدونات الجزيرة
سبق أن أوضحتُ في كتابي “العنف المستباح” معنى الجهاد والتطور الذي طرأ عليه في العصر الحديث مفهومًا وممارسةً، وكيف أنه – في التفكير الإسلامي – مفهوم شاملٌ، ولكنه بالمعنى الاصطلاحي الفقهي هو القتال، وهو لا يعمل إلا ضمن نظام عام يمكن تحديده في ثلاثة مستويات: الأول: أن الجهاد كان مقتصرًا على قتال العدوّ الكافر، والثاني: أنه جزءٌ من أعمال الإمامة/السلطة، ويعني هذان المستويان أن الجهاد مرتبط بتحديد مفهومي الأمة التي يتم الدفاع عنها وصيانتها (دار الإسلام) من جهة، والعدو الذي يجب دَفْعه (الكافر المحارب) من جهة أخرى، والمستوى الثالث: أن الجهاد كان مرتبطًا بنظام محدّد للعالم (دار الإسلام ودار الحرب).

ولبيان المستوى الأول نقول: أدخل الفقهاء أنواعًا أخرى تحت الجهاد -اسمًا وحكمًا لا حقيقةً-، مثل “قطّاع الطرق” و”دَفْع الصائل” الذي يَعتدي على الأنفس والأموال والأعراض، ومع ذلك لم تَخرج تلك الأنواع عن مقصود حفظ الجماعة وجودًا وعدمًا، فإنما أعطوها (حكم) الجهاد لا (حقيقته) من جهتين: الأولى: أنه يترتب عليها المخاطرة بالنفس، والثاني: أن المعنى اللغوي (بَذْل المشقة العالية في هذه الأنواع) يَشملها، فالصائل شأنه الخروج والقوة والشوكة، وقطّاع الطريق سُموا “محاربين” أصلاً؛ لأنهم خرجوا على الجماعة، وتحدث ابن تيمية عن “العدو الصائل الذي يُفسد الدين والدنيا”؛ ما يشير إلى مقصود قتال هذه الفئات ومفاسدها على الجماعة ودينها ودنياها. وكذلك الأمر في قتال البغاة؛ لأن البغي – والباغي لا يُسمى باغيًا إلا إذا خرج وعنده شَوكة – مدعاةٌ للاضطراب السياسي والاجتماعي، وكذلك كلمةُ الحق عند السلطان الجائر، فقائلها خاطَرَ بنفسه للحفاظ على الجماعة وصيانة دينها وحقوقها؛ وقَصَد إلى دفع ظلم السلطان عن المجتمع.

ولبيان المستوى الثاني نقول: إنما كان الجهاد الاصطلاحي من أعمال الإمامة/السلطة؛ لأنه مرتبطٌ بمنظومة من المفاهيم المتصلة والمتشابكة، منها مفاهيم الدعوة والرباط والسِّيَر والفيء والسبي وغيرها. فالجهاد لما كان هو القتال لإعلاء كلمة الله وجبت دعوة الكفار إلى الإسلام قبل جهادهم، فكان وسيلةً لحماية الدعوة ومواجهة المتصدين لها والذين يَفتنون الناس عن دينهم. ولما كان الجهاد وسيلة لحفظ دار الإسلام وجَب الرِّباط الذي هو ملازمة ثَغْر العدو، ولذلك اختار كثير من السلف سُكنى الثغور، وقال ابن التين: “الرباط ملازمَةُ المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم؛ بشرط أن يكون غيرَ الوطن”، وعزا ذلك إلى ابن حبيب عن مالك. وقال الحنفية: “المختار أنه لا يكون الرباط إلا في موضع لا يكون وراءه إسلام”، أي أن الرباط مرتبط بحدود دار الإسلام.

ولما كان عمل الجهاد جماعيًّا لا فرديًّا استلزم منظومة من الأحكام والإجراءات ولذلك ارتبط بباب السِّيَر التي غلَبت -في لسان الفقهاء- على الطرائق المأمور بها في غزو الكفار، وما يتعلق بها، وهذه لا تنضبط إلا بقيادة موحدة ومرجعية، وكذلك قرار الجهاد والإعداد له والمصالح والمفاسد المترتبة عليه، كما ارتبط بالفيء وقسمته وأحكامه وهو أحد ثمار الجهاد، والسبي والرق وما يترتب على ذلك ضمن منظومة كانت سائدة تاريخيًّا، إلى غير ذلك من الصلاة على قتلى الجهاد ونحوها من الأحكام الشرعية.

فهذه المنظومة كلها لا تتحقق بأنواع القتال الأخرى التي يقاتَلُ فيها المسلمون البغاةُ أو الصائلون أو غيرهم، ولذلك قلنا: إن تلك الأنواع أُعطيت اسم الجهاد دون حقيقته، أي أنها ليست جهادًا بالمعنى الاصطلاحي؛ لأن منظومة الجهاد الاصطلاحي قاصرة على الكفار المحاربين ودار الحرب فقط، وهو ما يوضح مبلغ التحريف الذي أحدثته جماعات العنف في منظومة الجهاد، حيث حوّلت الجماعة المسلمة إلى هدف للجهاد بعد تكفيرها والحكم بردتها؛ لرضاها بالتحاكم إلى القوانين.

ولتوضيح المستوى الثالث نقول: إن الجهاد في النظام الفقهي مفهومٌ لا يعمل إلا ضمن منظومة كلية دينية وسياسية، مرتبطة بنظام محدد للعالم، فهو مرتبط بثلاثة مفاهيم كبرى: تقسيم العالم (دار إسلام ودار حرب)، ونظام الإمامة/الخلافة، ومفهوم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. وهذا كله مبني على أمرين رئيسين:
الأول: أن الرابطة بين البشر هي (رابطة دينية)، فالناس إما مسلمون أو كفار، والكفار ينقسمون إلى (11) كفار من أهل دار الإسلام (أ. أهل كتاب: ذميون، ب. من غير أهل الكتاب: زنادقة ووثنيون، ت. مرتدون)، (22) وكفار من غير أهل دار الإسلام (أ. محاربون، ب. معاهَدون، ت. مستأمَنون).

الثاني: أن الأصل في العلاقة بين الدول هو الحرب لا السلم، وفق منطق العالم القديم، ولذلك كانت دار الكفر في الغالب هي دار حرب.

ولكن في الزمن الحاضر انقلب هذا التصور كليًّا مع إرساء نظام دولي جديد (الأمم المتحدة)، ومع نشأة الدولة القطرية/القومية، المرتبطة بحدود جغرافية وجنسية وقوانين محلية ودولية، بل إن الرابطة بين البشر تحولت إلى رابطة مدنية/مواطنة بعد أن كانت رابطة دينية، وينظمها دستور وقوانين قُطرية، وخاضعة لميثاق حقوق الإنسان الأممي، ولقوانين قطرية ودولية على تفاوت في التطبيقات، كما أن العلاقة بين الدول أصبحت قائمة على السلم في الأصل استنادًا إلى مواثيق الأمم المتحدة التي تنظيم العلاقة بين الدول، واستنادًا إلى المواثيق والقوانين الخاصة بذلك، أي أننا أمام انقلاب كلي في نظام العالم، ما يعني أن النظام الفقهي القديم لم يَعد ملائمًا للواقع الجديد أو بات مناقضًا له مناقضةً كلية، ولهذا اختلفت الاستجابات في التعاطي مع هذا التغير فكان منها الاستجابة الجهادية العنيفة، كما كان منها العمل السياسي من أجل التغيير من داخل النظام السائد، بالإضافة إلى نموذج التسليم بالأمر الواقع الذي يسلكه مفتو الأنظمة ويعطونه صفة الشرعية الكاملة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى