مقالاتمقالات مختارة

الجانب المنسيّ من سير بعض العلماء المعاصرين!

الجانب المنسيّ من سير بعض العلماء المعاصرين!

بقلم سلطان بركاني 

شاع في الأوساط العامّة والخاصّة أنّ أكابر العلماء السلفيين المعاصرين، كالألباني وابن باز وابن عثيمين، قضوا حياتهم كلّها في إذكاء مسائل الفقه الخلافية، والتّأسيس لمذهب جديد يسمّى المذهب السّلفيّ! بإزاء المذاهب الفقهية المعروفة، وهذه النّظرة مردّها كثرة المسائل الفقهية الخلافية التي تُقحم فيها أسماء هؤلاء العلماء، واللّغط الكبير الذي يثار بأسمائهم في المساجد وفي ساحات النّقاش، بينما تغيّب هذه الأسماء في قضايا الدّين الكبرى، وفي قضايا التربية والأخلاق، لأنّ هؤلاء العلماء لم يَخرجوا أبدا من مسائل الفقه المتعلّقة بالصّلاة والصّوم!

 ليس الواقع الحقيقيّ هو وحده الذي يشهد هذه الانتقائية العجيبة، فحتى ساحة الإنترنت، يفاجأ كلّ باحث في مسائل الفقه الجزئية، على صفحات الشّبكة، بأنّ أسماء هؤلاء العلماء السلفيين تتصدّر نتائج البحث في جلّ هذا النّوع من المسائل، بينما تتأخّر أو تكاد تغيب في قضايا الأمّة، وفي مسائل التربية والسّلوك والأخلاق، والحقّ يُقال إنّ هؤلاء العلماء –مع تسجيل مؤاخذات على بعض أقوالهم وآرائهم- ظُلموا كثيرا ليس من طرف مناوئيهم فحسب، إنّما ظلموا أكثر من طرف أتباعهم الذين غيّبوا كلماتهم المتعلّقة بكثير من قضايا الأمّة، وطووا مواقفهم المتعلّقة بالتربية والأخلاق والسّلوك، ونشروا تراثهم المتعلّق بمسائل الفقه الجزئية فقط، بل إنّ سير هؤلاء العلماء التي تنشر هنا وهناك، يغلب عليها هذا الانتقاء، وقلّما تجد ترجمة تهتمّ بالجانب الآخر من حياتهم.

هذا مثلا الشّيخ الفقيه ابن عثيمين، رحمه الله، لا يعرف عامّة المسلمين ولا حتّى أكثر السّلفيين عنه إلاّ أنّه كان شيخ فقه توسّع في الإجابة عن مختلف المسائل المتعلّقة بالعبادات، ولم يكن له اهتمام بالسلوك والتربية! بينما حقيقة الأمر أنّ للشّيخ محاضراتٍ كثيرة في الوعظ والرّقائق، وكلماتٍ غير قليلة في التربية وتقويم السّلوك، وهو نفسه كان قدوة في أخلاقه ومعاملته، وزهده وورعه، لكنّ جلّ الشباب المنتسبين إلى السلفية أهملوا هذا الجانب المهمّ من شخصيته، ولم ينقلوا عنه إلا ما يستهويهم من آرائه في مسائل الدّين الجزئية.

مواقف الشّيخ التربوية كثيرة، نكتفي بذكر بعضٍ منها، لعلّ شباب الصّحوة الإسلامية، يعيدون النّظر في تعاملهم مع موروث الشّيخ ابن عثيمين خاصّة وموروث العلماء المعاصرين عامّة، ليهتمّوا أكثر بالإرث التربويّ لهؤلاء العلماء، لترشيد الصّحوة التي اهتمّت بالمظهر أكثر من اهتمامها بالجوهر وبالفقه الجزئيّ أكثر من اهتمامها بالفقه الكليّ.

من مواقف الشّيخ ابن عثيمين التّربويّة الدالّة على انضباطه وحرصه على تحرّي لقمة الحلال، أنّه “كان إذا غاب عن التدريس أو الإمامة، يحسب نسبة الغياب، ويخصمها من راتبه، ولا يقبل أخذ المقابل مهما كان الغياب قصيرا ومبرّرا”، وكان “إذ اتأخر عن الدوام في المعهد بضع دقائق، أثبت ذلك في سجل الحضور وكتب أمامه “بغير عذر””.. فمَن من السّلفيين المعاصرين يهتمّ بنشر مثل هذه المواقف وإشاعتها والاستشهاد بها بين الشّباب؟

ومن مواقف الشّيخ الدّالة على ورعه أنّ رجلا استقرضه مالا من أجل السفر، فأقرضه، ثمّ إنّ الرّجل طلب من الشّيخ أن يرافقه، فلما بلغا مبلغهما أصر الشّيخ على أن يؤدي مستحقّات السفر، فرفض الرجل، فقال الشّيخ: “لو أني ما أقرضتك لكان هنيئا، لكن أخشى أن يكون قرضا جر نفعا”، ويُروى عنه –كذلك- أنّه استعمل يوما حبر المعهد الذي يدرّس فيه، فلما أراد المغادرة أفرغه وقال: هذا حبر المعهد لا يحل لنا استعماله خارجا.. وإلى جانب انضباطه وورعه، عرف الشّيخ كذلك بتواضعه الجمّ، ومن نوادره في التواضع أنّه ركب يوما مع أحد محبيه، فكانت السيارة كثيرة الأعطال، فنزل وقال للرجل: ابق مكانك، ودفع السيارة حتى تحركت بهما.

أمّا حرصه على الصّالح العامّ، وتأخيره مصلحة نفسه، فقد أُثر عنه في هذا الباب كثير من المواقف، ومن ذلك أنّ أحد الأمراء استأذنه في بناء بيت له، فأجابه بأن المسجد يحتاج إلى إعادة ترميم، فكان سببا في بناء مسجد سمي بعد ذلك باسمه، كما أهدي له سكن من عدّة طوابق، فجعله سكنا للطلاب.

ما قيل عن الشّيخ ابن عثيمين، يقال كذلك عن الشّيخ ابن باز، رحمه الله، الذي اشتهر بين المقرّبين منه بورعه وزهده في الحياة الدّنيا، وقد تقلّد مناصب مرموقة، وكانت كلمته مسموعة لدى المسؤولين، لكنّه لم يستغلّ منصبه في جرّ النّفع لنفسه أو لأحد من أقاربه، بل كان شديد الورع في قبول الهدايا والمكافآت، خاصّة من الجهات الرسمية، وكان عفيف اللّسان لأقرانه من العلماء مواليا لجميع المسلمين ولجُلّ طوائفهم العاملة لدين الله.

وما أثر عن الشيخين ابن باز وابن عثيمين، أثر مثله عن الشّيخ الألباني رحمه الله، الذي عرف –إضافة إلى ولائه للأمّة وللمسلمين- ببعده عن المناصب وعن أبواب الملوك والسلاطين، ومن مواقفه التي رويت عنه أنّه لما أراد زيارة المغرب كلّم بعضُ محبّيه من وجهاء البلد الملك الحسن الثاني في “استضافته استضافة رسمية (ملكية) وذكر للملك منزلة الشّيخ ومكانته، فأمر الملك باستضافته بمعية موكب من ثلاث سيارات ورتّب له نزولا في فنادق الخمسة نجوم على حساب الدولة وأشياء أخرى منها فتح الخزائن الملكية وتيسير دخول خزائن المخطوطات”، لكنّ الشّيخ حينما علم بهذه الترتيبات غضب ورفض جميع المكرمات! باستثناء موضوع المخطوطات، وقال للوسيط: “إذا أردت أن تكرمني فأعطني سيارتك، وأما النزول فسأنزل على بعض المشايخ في المدن التي سأزورها”.

كما عُرف عن الشّيخ الألباني -رحمه الله- أيضا ورعه عن الحرام والمشتبه، ومن مواقفه المنقولة في هذا الباب أنّه توسط مرة لشخص لدى إحدى الشركات، فما كان من الرّجل إلا أن حضر إلى الشّيخ بعد ذلك ومعه تنكة (إناء كبير) زيتون، وكان الشيخ نائمًا، فلما استيقظ أخبر بالهدية، فقال: لا يحل لنا أكلها، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “من شفع شفاعة، وأهدي له هدية فقبلها، فقد أتى بابًا من الربا”، وأمر بإعطائها الفقراء.

أمثال هذه المواقف، وغيرها كثير، يَضرب عنها المنتسبون إلى هؤلاء العلماء صفحا، ولا ينقلونها، بل لا يهتمّ كثير منهم بمطالعتها والنّظر فيها، للوقوف على السّير العملية لهؤلاء العلماء، للاستفادة من أدبهم وتواضعهم وورعهم وسعة صدورهم للخلاف، قبل الاهتمام بآرائهم واختياراتهم في مسائل الفقه الخلافية، ولو أنّ الشّباب السّلفي أخذوا من أدب هؤلاء العلماء قبل علمهم، لانحسرت كثير من قضايا الخلاف الجزئية، وزالت كثير من المشاحنات التي تثار في المساجد وفي المواقع، ولسعدت الأمّة بشباب ينهج نهج رجال السّلف الصّالح الذين كانوا يبنون دينهم على الأدب قبل العلم، وعنهم قال الحسن رحمه الله: “إنْ كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين”، وقال سفيان الثوري رحمه الله: “كان الرجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدب وتعبد قبل ذلك بعشرين سنة”، وقال الإمام مالك لفتى من قريش: “يا ابن أخي، تعلّم الأدب قبل أن تتعلم العلم”، وقال عن نفسه: “كانت أمي تعمّمني وتقول: اذهب إلى ربيعة -هو ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك- فتعلمْ من أدبه قبل علمه”، وقال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: “قال لي أبي: يا بني إيتِ الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنّ ذاك أحبّ إلي لك من كثير من الحديث”. وقال أحد الصّالحين لابنه: “يا بني لأنْ تتعلم بابًا من الأدب، أحب إليّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم”.

(المصدر: بوابة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى