إعداد : الشيخ وليد بن فهد الودعان
رغم وجود شيء من الاضطراب في الناحيتين السياسية والاجتماعية، فإن الناحية العلمية كانت مختلفة تمامًا؛ إذ كانت في مرحلة من التطور المصحوب بالنضج، ولعل ذلك كان نتيجة الحاجة الملحة لطلبة العلم الشرعي؛ إذ كثرت النوازل، وضعف الوازع الديني ببلاد الأندلس، مما جعل الناس بحاجة إلى العلم الشرعي؛ إذ هو المعين الصافي، والمنبع الوافي لصلاح الدين والدولة.
كما أن من أهم بواعث النهضة العلمية اهتمام سلاطين دولة بني الأحمر بالعلم؛ فقد اشتهر عن مؤسس دولتهم حمايته للعلم وأهله، وتبعه في هذا الاهتمام والاعتناء أبناؤه، ومن تولى بعده، ومنهم ابنه محمد الفقيه، حيث كان عالمًا ضليعًا، يعشق مجالس العلم، ويؤثر العلماء بعطفه، وكذا كان ولده أبو عبدالله محمد، كان عالمًا شاعرًا، وبلغت الحركة العلمية ذروتها وازدهارها في عصر أبي الحجاج يوسف وابنه محمد، وقد كان أبو الحجاج عالمًا أديبًا شغوفًا بالعلم، محبًّا لأهله، وتبعه أيضًا على ذلك ولده محمد، حيث كان محبًّا للعلم، وكان الأمير أبو الوليد إسماعيل بن السلطان يوسف الثاني بارعًا في أدبه ونثره.
كما حظِيَت الدولة بجماعة من الوزراء المحبين للعلم وأهله، بل والمنتظمين في سلك الأدباء الشعراء، كأبي عبدالله بن زَمْرك، ومن قبله شيخه لسان الدين بن الخطيب، وهو في الشهرة والعلم ذو مكان لا يخفى[1].
وقد كانت غرناطة في ذلك العصر منبعًا للعلم، ومركزًا للعلماء، ومن المراكز المهمة التي كانت تحظى باهتمام طلبة العلم واعتنائهم، وتعتبر مقصدًا لطلبة العلم: الجامع العظيم الذي تنتظم فيه حلقات العلم، ويقصده طلبة العلم من كل صوب وحدب، وقد اشتهر بالتدريس فيه جمع من العلماء النابغين؛ كابن لُب[2]، وابن مرزوق[3]، وجماعة من العلماء.
كما أن المدرسة النصرية التي أنشأها أبو الحجاج يوسف كانت مشعلًا للعلم، ومنارًا لطلبة العلم في القطر الأندلسي، وكانت كما وصفها ابن الخطيب: “نسيجة وحدها؛ بهجة وصدرًا، وظرفًا وفخامة”[4].
وكانت لها مكانة بارزة عند طلبة العلم، حتى وصفت بأنها: “أَنْوَه مواضع التدريس بغرناطة”[5]، وقد قام جماعة من الأجلاء بالتدريس والتعليم في هذه المدرسة؛ كابن الفخار[6] والزواوي[7]، وغيرهما.
وقد كان للعلماء دور بارز في الواقع، وصلة واضحة بالمجتمع، وفتاوى العلماء وأجوبتهم عن النوازل شاهدة بذلك، كما أن لهم أثرًا بارزًا في ميادين الحياة، وفي محاولة إصلاح المجتمع، وللشاطبي يد بارزة في مقاومة البدع التي أنشبت أظفارها في المجتمع[8].
وفي ساحة الوغى كانت لهم مشاركة بارزة أيضًا، إضافة إلى حث الناس وإشعال هممهم، قال المقري الحفيد، وهو يتحدث عن ذلك: “لما تقلص ظل الإسلام بالجزيرة – أعادها الله للإسلام – واسترد الكفار – دمرهم الله – أكثر أمصارها وقُراها، على وجه العَنوة والصلح والاستسلام، لم يزلِ العلماء والكتَّاب والوزراء يحركون حميات ذوي البصائر والأبصار، ويستنهضون عزماتهم في كل الأمصار[9].
وهذا ولا شك مما أخَّر سقوط الأندلس ردَحًا من الزمن، قال محمد الطاهر بن عاشور: “بيد أن الانحطاط الذي أصيب به جسم الأندلس لم يؤثر تأخرًا سريعًا، بل كانت القوة السالفة شديدة المقاومة له، وكان العلماء من سائر الفنون متوافرين في بلاد الأندلس، وهذه طائفة كانت في عصر واحد أواخر القرن الثامن من سنة 772هـ حتى سنة 800هـ، ما منها إلا إمام يعنى إليه، ويعتمد في علمه عليه، مثل ابن جزي، وابن لب، وابن الفخار، وابن عاصم في الفقهاء، والشَّاطبي في الأصول وفلسفة الشريعة، وابن الخطيب، وابن زَمْرك في رجال العلم والسياسة، وإنما كان القضاء الأخير على العلم بالأندلس في القرن التاسع”[10].
—————————————————
[1] انظر: دولة الإسلام في الأندلس (6/ 460 – 461).
[2]انظر: الإحاطة (4/ 254).
[3]انظر: برنامج المجاري (119).
[4] الإحاطة (1/ 509).
[5] انظر: رحلة القلصادي (167).
[6] انظر: الإحاطة (3/ 36).
[7] انظر: الإحاطة (3/ 325).
[8]وهذا واضح من كتابه الاعتصام، وانظر منه مثلًا (1/ 19 وما بعدها).
[9] أزهار الرياض (1/ 63)، ثم ذكر بعض الرسائل التي يطلب أصحابها استنهاض الهمم.
[10] أليس الصبح بقريب (79) بتصرف واختصار.
*المصدر : شبكة الألوكة