الثورة السودانية.. تساؤلات مشروعة
بقلم رمضان أحمد بريمة
مضى قرابة الأسبوعين على سقوط نظام الرئيس عمر البشير إثر إحتجاجات شعبية عارمة اجتاحت طول البلاد وعرضها على مدى أربعة أشهر متتالية. والساحة السياسية السودانية تموج فرحاً يشبه فرحة الاستقلال. غير أنه فرح ممزوج ببعض القلق المشروع. ذلك لأن التحولات السياسية الراهنة في السودان وما يصاحبها من أصوات صاخبة كانت مكبوتة وإطلالات من دول المحاور المعروفة جعلت المواطن العربي يطرح تساؤلات وفي عقله الباطني مشاهد مآلات الربيع العربي! ومن بين هذه التساؤلات:
هل ما حصل في السودان حقيقة أم مجرد انقلاب داخلي على النظام؟ هل صحيح أن تجمع المهنيين الذي كان ينسق المظاهرات ذو توجهات يسارية، وبالتالي فإن الثورة السودانية ثورة يسارية بخلاف ثورات الربيع العربي التي كان في مقدمتها الإسلاميون؟ إلى أين يقود اللقط حول الشريعة الإسلامية والعلمانية؟ ما هي عوامل نجاح الثورة السودانية مقارنة بثورات الربيع العربي؟ سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات في هذه المدونة إستناداً إلى رصدنا ومتابعاتنا لتطورات الوضع في السودان ساعة بساعة، وإلى قراءتنا للتحليلات السياسية للفاعلين في الميدان من مختلف أصحاب التوجهات الفكرية.
أولاً: ما حصل في السودان حقيقة وليس مجرد انقلاب داخلي، بل هو ليس إنقلاب أصلاً. الاحتجاجات بدأت أصلاً نتيجة انعدام رغيف الخبز في الأفران والوقود، فضلاً خواء أجهزة السحب الآلي من البالغ النقدية وغير ذلك من الصعوبات المعيشية التي كانت تواجه المواطن السوداني، غنياً كان أو فقيراً فضلاً عن الفساد الحكومي الذي أزكم الأنوف. طريقة تعاطي الحكومة مع الاحتجاجات هي التي أعطتها الزخم وأدخلتها في تحدي واضح من خلال التصريحات المستفزة للمسؤولين الحكوميين، كأن هؤلاء المسؤولين ليسوا سودانيين ملمين بطبيعة الإنسان السوداني الذي يستجيب للاستفزاز بطريقته الخاصة.
الدليل على حقيقة أن الثورة السودانية كانت سوانية خالصة أن الإعلام العربي ارتبك حيالها كثيراً وكانت التغطية خجولة بالمقارنة مع تغطية الثورة الجزائرية مع أن الحدثين كان متزامنين! وهذا يدل على أن رعاة هذه المحطات الفضائية كانوا غائبين تماماً عن حقيقة المشهد.
ثانياً: تجمع المهنيين السودانيين كان المنسق للثورة السودانية والحق يقال فقد أدار المشهد بمهنية عالية. ومع أن هذا التجمع ينفي عن نفسه التهمة بانتمائه للفكر اليساري، وكاتب المقال لا يستطيع أن يثبت أو ينفي لأن هذا التجمع كان يقود الحراك الجماهيري من وراء الستار وبيس بأشخاص معروفين. وحتى لو افترضنا يسارية هذا التجمع فلا ينفي هذا أن جماهير الحراك الشعبي ضمت كل شرائح الشعب السوداني.
القاسم المشترك بين الجميع هو كراهية نظام الإنقاذ الذي أكثر الفساد والاستبداد والظلم باسم الإسلام. ومن هنا فإن التهمة الموجهة لتجمع المهنيين السودانيين لا يختلف عن التهمة الموجهة للتظيمات السياسية المحركة للربيع العربي. فلا الربيع العربي إسلامي ولا الربيع السوداني يساري. وإنما القاسم المشترك هو رفض الظلم والفساد والاستبداد بصرف النظر عن مصدره. المنشورات التي تصدر من تجمع المهنيين تلقى هوىً في نفوس المواطنين السودانيين العاديين وهي الحرية والعدالة والعيش الكريم.
ثالثاً: بالنسبة لموضوع العلمانية والدين فمن السابق لأوانه الآن الحديث عن هذا الموضوع، وحتى تجمع المهنيين نفسه لا يستطيع أن يتكلم عن العلمانية علناً لسببين: الأول أن هذا الموضوع حساس جداً بالنسبة للثورة السودانية ويؤدي إلى إثارة جدل كبير قد يحرف الثورة عن مسارها في هذا الوقت الحساس بالذات. والسبب الثاني أن السودانيين لم يثوروا أصلاً على الإسلام أو حتى على الإسلاميين وإنما على الظلم والاستبداد والفساد المستشري باسم الإسلام. المسألة التي يعمل من أجلها الشعب بكل طوائفه وقواه السياسية حالياً هي مسألة بناء دولة المؤسسات، الدولة التي تقوم على المواطن لا على نخبة سياسية أو عسكرية أو عائلية، الدولة التي تتيح الحريات العامة وتوفر العدل والمساواة على أساس المواطنة وتحفظ الحقوق، الدولة التي يخضع فيها الحاكم للمساءلة ويتم فيها التداول السلمي للسلطة. إذا كانت هذه هي الدولة العلمانية فقطعاً هي دولة إسلامية بمقاييس الإسلام ولا يمكن أن يُفرض فيها شيء يخالف إرادة الجماهير. ومن هنا فإن جدل العلمانية والدين لا قيمة له.
رابعاً: وأما بالنسبة لعوامل نجاح الثورة السودانية، فكلها متوفرة على الرغم من وجود التحديات، وأبرز التحديات الداخلية وجود غبن دفين بين الإسلاميين والعلمانيين/اليساريين تعود جذوره إلى أيام الجامعة في الستينيات والسبعينيات، ويشتد لهيبه اليوم بعد سقوط نظام الإنقاذ الذي اختطف مشروع الإسلاميين وطبقه بطريقته الخاصة بما أساء للتجربة برمتها وترك آثاراً سالبة. وعندما يُخرِج هؤلاء لسانهم للإسلاميين شامتين يزداد التوتر. لذلك فإن الجهة التي ستتولى الحكم في الفترة الانتقالية مطلوب منها ممارسة الحنكة السياسية لضبط إيقاع الحراك السياسي ومنع تفجر الوضع إلى ما لا يحمد عقباه.
ما يجب التنبه له أن تنظيم المؤتمر الوطني الحاكم سقط ولكن من الخطأ القول بأن الإسلاميين في السودان انتهوا بناءً عليه، ذلك لأن أغلب الإسلاميين كانوا خارج حكومة الإنقاذ سواءً أكانوا معارضين أو واقفين على “الرصيف” بعد المفاصلة. وربما كانوا أكثر فرحاً بسقوط النظام الذي حكم باسمهم مستعيناً بما يعرف في السودان تهماً بأحزاب “الفكة” التي ضمت كثير من المنشقين من الأحزاب التقليدية.
الخبر السار أن الجيل الذي قاد الثورة هو شباب مسلم نشأ أغلبه إن لم يكن كله في كنف النظام البائد وعرف معنى الظلم والفساد والاستبداد ويتطلع إلى التخلص منه ولا علاقة له بالتنظيمات السياسية وتوجهاتها الفكرية. وفي نهاية المطاف هؤلاء هم الذين سيحسمون محصلة العمل السياسي في البلاد.
وأما التحدي الخارجي فيتمثل في المحاور الإقليمية التي بدأت تتلمس مواطئ أقدامها في الخارطة السياسية الجديدة. ولكن من البكر لأوانه القول بأن أياً من المحاور قد كسب شيئاً. ذلك لأن المشهد السياسي ما يزال يتبلور وليست هناك جهة حتى الآن تملك تفويضاً شعبياً يمكنها من اتخاذ قرارات مصيرية. ولكن في كل الحالات من الصعب جداً على المحور المعادي لثورات الشعوب أن يجد موطيء قدم في السودان لأن مستوى وعي الشعب أعلى مما قد يتصورون.
نحن موعودون بما ستتمخض عنه الانتخابات الديمقراطية بعد سنتين من الحكم الانتقالي الذي سيتشكل في الأيام القادمة. السودان موعود بتطور سريع جداً بإذن الله إذا حصلت تنازلات حقيقية من القوى السياسية خاصة تلك التي كانت جزءً من النظام البائد، بحيث يفوض تجمع المهنيين باقتراح شخصية وطنية لمنصب رئيس الوزراء ويقوم هو بتشكيل حكومته بالتشاور طبعاً مع القوى الثورية والمجلس العسكري، على أن يبقى المجلس العسكري الحالي بتشكيلته القائمة للإشراف على عملية الانتقال الديمقراطي وحفظ النظام والأمن حتى نهاية الفترة الانتقالية وانتخاب رئيس الجمهورية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)