التَّقوى والصَّبر سِلاحَان أمام مِحن الدُّنيا ومصائبهَا.. دُرُوس مُستفادة من قصَّة يُوسُف (عليْه السَّلام)
بقلم د. علي محمد محمد الصَّلابي (خاص بالمنتدى)
لا شك أن ملازمة الإنسان المسلم لتقوى الله تعالى، وتَسلُّحه بسلاح الصبر في حياته الدنيا ورحلته إلى الدّار الآخرة، لخير ما يواجه به مصائب الدنيا ومحنها، وهذا طريق سار عليه أنبياء الله تعالى، واستعانوا به في دعوتهم ومواجهة أعدائهم؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وإن المسلم في زماننا لفي حاجة ملحّة، وضرورة بالغة للسير على هذا النهج الربّاني والهدي النبويّ، لا سيما وأننا نعيش في زمن عظمت فيه المحن، وتتابعت فيه الابتلاءات، وكثرت فيه المصائب، ولا تزال جراح زلزال مراكش، وفيضانات درنة تنزف دماً، وآلامها تضرب، وآثارها تتتابع. إن النظر في سير أنبياء الله تعالى وأحوالهم مع المحن والابتلاءات، لهو الدواء الشافي بإذن الله تعالى؛ فيه نُسلّي أنفسنا، ونصبّر أفئدتنا، ونداوي جراحنا، والحول والقوة والمعونة – أوّلاً وآخراً – من الله سبحانه وتعالى.
1- أهمية التقوى والصبر في التمكين ليوسف (عليه السلام):
من مشاهد قصة يوسف (عليه السلام) كما ذكرتها سورة يوسف، أنَّ إخوته ذهبوا إليه مرّة أخرى بعد ما قدموا إليه أول مرة، ورجعوا من عنده بغير أخيهم الأصغر فأمرهم أبوهم بالرجوع مرة أخرة إلى مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه، بعدما ابيضت عيناه من شدة الحزن لقساوة وقع الخبر في نفسه، قال تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 88 – 90].
إن من شروط التمكين المهمة التي حققها يوسف (عليه السلام)، واتصف بها في حياته تقوى الله عز وجل، وإن تقوى الله عز وجل تجعل بين العبد وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهي أن نعمل بطاعة الله على نور من الله نرجو ثواب الله، وأن نترك معصية الله على نور من الله نخاف عقاب الله. وهذا ما قام به يوسف (عليه السلام)، وظهرت ثمرات التقوى العظيمة في حياته.
– كالمخارج من كل ضيق وشدة.
– والسهولة واليسر في الأمور.
– تيسير العلم النافع.
– إطلاق نور البصيرة.
– محبة الله وملائكته والقبول في الأرض.
– ونصرة الله وتأييده وتسديده.
– والبركات من السماء والأرض.
– والحفظ من كيد الأعداء ومكرهم وغير ذلك من الثمرات… (فقه النصر والتمكين، 6/37)
وقدم التقوى للأهمية: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ﴾؛ فهي الأصل والأساس الذي يبنى عليه الصبر الإيماني، فصبر دون تقوى دنيا بلا آخرة كالذي يصبر عن الزنا خشية الفضيحة والأمراض، لا خوفا من الله. وأردف الصبر، لأن تقوى الله في عبادته والتزام نعمه والاستقامة على ذلك تحتاج إلى صبر دائب. (يوسف أيها الصديق، ص 386)
والصبر لا بد منه على أمر الله وعن معصية الله وعلى كل مصيبة قدرها الله عز وجل. فالتقوى والصبر سلاح المؤمن وعدته في كل أحواله وتقلباته وخاصة في أوقات المصائب والمحن. وقد جاء ذكر الصفتين لمناسبتهما في المعنى، فقد اتقى وصبر يوسف (عليه السلام) على كيد إخوته وعلى مراودة امرأة العزيز. (التفسير الموضوعي، 4/220)
وقال: ﴿إنه﴾ لتعم كل متق وصابر. وجاء بصيغة المضارع لتفيد الحاضر والاستمرار، فقد يتوقف المرء عن التقوى والصبر وتتقلب حاله ويختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله (يوسف أيها الصديق، ص 386).
2- ثُلاثية التقوى والصبر والإحسان:
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾:
– ﴿فَإِنَّ﴾: الفاء للتعقيب القريب أو للسببية، أي بسبب التقوى والصبر لله لا يضيع أجر المحسنين.
– و (إن) للتأكيد ﴿اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ قدم الأجر للأهمية ليدل في هذه المناسبة على ما صار إليه يوسف من أجر كريم وإحسان في الدنيا والآخرة.
إن يوسف u يقرر حقيقة إيمانية يعلل بها لإخوته المدهوشين السبب من إنعام الله عليه، وفي إيصاله إلى ما وصل إليه، فيقول: ﴿إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
هذه القاعدة الإيمانية الربانية التي قررها يوسف (عليه السلام)، والتي علل بها سر توفيقه ونجاحه لقد تحققت فيه هذه الصفات الثلاثة، فأهلته لنيل فضل الله وإنعامه وهي: التقوى، والصبر والإحسان ولم تفارق هذه الصفات يوسف في أي مرحلة من مراحل حياته، فصاحبته هذه الصفات عندما كان في بيت العزيز، وعندما راودته اِمرأة العزيز، وعندما راودته نسوة المدينة، وعندما أخل السجن، وعندما تعالم مع المساجين وعندما دعاهم إلى الله وعندما قابل الملك، وعندما ولي منصب عزيز مصر وعندما استلم اقتصاد البلاد، كان في كل هذه المراحل والمواقف تقياً صابراً محسناً قد كافأه الله على صبره وتقواه ولإحسانه أحسن الله له الجزاء في الدنيا فصار في هذا المنصب الكبير: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وهذا في جانب يوسف (عليه السلام) الذي عرّف إخوته على نفسه وعل سير نجاحه.
وأما من جانب إخوته فإن الموقف أحرجهم وأخجلهم، حيث تذكروا ما فعلوه به وهو صغير، فشعروا بالندم، ثم ها هم يقابلون يوسف عزيز مصر ثلاث مرات، وهو يعلم أنهم إخوته وأنهم فعلوا به ما فعلوا، ومع ذلك كان يكرمهم ويحسن إليهم في كل مرة، ولم يعاقبهم أو يحاسبهم أو يعاتبهم، لقد قابل إساءتهم بالإحسان وجهلهم بالعلم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
المراجع:
- التفسير الموضوعي لسور القرآن، عبد الحميد محمود طهماز، دار القلم، دمشق، ط1، 1435ه.
- فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، ط1، 2005م.
- النبي الوزير يوسف الصديق (عليه السلام)، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، ط1، 2023م.
- يوسف أيها الصديق، محمد عاطف السقا، دار المكتبي، ط1، 1429ه – 2008م.