التيار الليبرالي في السعودية ومآلات الانفتاح
بقلم عنتر محمد النمر
تشهد المملكة العربية السعودية تحولات أقل ما يمكن وصفها بأنها كبرى. فليست ظاهرية تقتصر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها عميقة وتشمل ما هو أبعد من ذلك بكثير. بدءاً بتعريف الذات وتحديد الهوية الوطنية والنظرة إلى الدين وعلاقته بالحياة مروراً بالتموضع الحضاري وإعادة فلسفة العدو والصديق، وانتهاء بالسياسات الداخلية والخارجية وطرق تنفيذهما.
غني عن القول أن هناك قيادة شابة وطموحة لديها قدرة على تبني وطرح رؤى جديدة وقد تشكل سبباً لهذه التحولات ولكن هذه القيادة هي نفسها مظهر من مظاهرها. فلأول مرة تتولى شخصية شابة بهذا العمر كمحمد بن سلمان القيادة الفعلية للمملكة، ولأول مرة يتغير البناء غير الرسمي في توزيع السلطة في المملكة لتتكدس في يد رجل واحد بهذا الشكل. ولأول مرة تظهر شخصية قوية بهذا الشكل تتبنى رؤى جديدة ليس فقط تعاكس رؤى تبناها ملوك سابقون في الأسرة الحاكمة بل وتجرمها.
إن هناك ثورة على الماضي في المملكة، أو بشكل أكثر تحديداً على حقبة من حقبه. يتضح ذلك بشكل جلي من خلال تصريحات ولي العهد محمد بن سلمان ورؤاه، حيث بدا منفتحاً تجاه عصرنة المملكة على الطريقة الإماراتية واقترابه من القيم الغربية أكثر مما يمكن لأي مراقب أن يتوقعه، وأكثر تشدداً تجاه ماضي المملكة المحافظ بنفس القدر تقريباً. وفي كلمات مثل “سندمرهم” و”لن نقضي 40 سنة أخرى” شواهد على ذلك.
تبرز هذه التحولات من خلال الانفتاح في المجال الثقافي بما يبدو وكأنه إبعاد الصبغة الدينية النمطية عن المجتمع السعودي حيث تم استحداث هيئة الترفيه وتجميد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسماح للنساء بقيادة السيارة والسماح بإقامة الحفلات الغنائية المختلطة، واستضافة الفعاليات الرياضية التي لم يكن مجرد التفكير فيها ممكناً، وهو مؤشر على الانتقال السريع من الطرف الى نقيضه.
كما أن التحولات تبرز من خلال التوجيه السلبي للخطاب الإعلامي في المملكة، والسلبي لا تعني الحكم القيمي على سلبية الإعلام بل سلبية آلية التوجيه، حيث يتم التغاضي عن كتابات وأصوات إعلامية تدعوا الى ما يشبه نقض العقيدة في المجتمع السعودي كالأصوات المطالبة بالتطبيع مع إسرائيل وتحرير المرأة من الحجاب والتخلي عن الخطاب الديني، بينما يتم اعتقال اصوات أخرى لمجرد كتابة تغريدة باتجاه معين.
لا تبدو هذه التحولات من حيث خصائصها استجابة طبيعية للتغير الثقافي في المجتمع السعودي، بل تأتي بما يشبه الفرض. أي أن صانع القرار السعودي لديه رؤية حول ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع السعودي ويسعى لفرضه عليه قسراً، دون مراعاة مدى توافقها مع معتقدات السعوديين وبنيتهم الثقافية التأريخية، ودون أن يكون هذا التحول تدريجي وعلى مدى زمني معقول. فمثلاً قيادة المرأة للسيارة جاءت استجابة لانتقادات غربية كثيرة، لا استجابة لمطالبات مجتمعية داخلية، بل على العكس تم معاقبة أفراد أدعوا أنهم ساهموا في تلك الجهود.
كما أن هذه التحولات تبدو انتقائية وغير متزنة، فهي وإن كانت تهدف الى تغيير الصورة النمطية عن المجتمع السعودي لدى الغرب باعتباره مجتمع منغلق، إلا أنها تقتصر على التحديث الموجه لأخلاقياته وذلك برفع الوصاية الدينية عنها. لكنها في المقابل لا تقترب من الجانب السياسي فهي لم تلمس توسيع المشاركة السياسية وحرية الرأي والتعبير بل حتى حق المجتمع في اختيار الثقافة التي يريد. على العكس فقد شهدت المملكة انتكاسة في مجال الحقوق والحريات خلال هذه الفترة. فهل ستتحمل البنية الثقافية للمملكة هذه التحولات، وكيف ستسير الأمور فيها بعد ذلك؟
تمثل المملكة قلب العالم الإسلامي ورمز هويته الدينية. ليس فقط لاحتضانها الحرمين الشريفين أو لكونها مهبط الوحي ولكن أيضاً لأن من جغرافيتها الحالية خرجت أكثر الشخصيات تأثيراً في التأريخ الإسلامي. هذا الإرث الديني جعل سكان هذه البقعة من الأرض الأكثر تشدداً دينياً والأكثر فخراً بالانتماء الإسلامي لدرجة انتقاد البعض لما بدى وكأنه جعْل الإسلام سعودياً. ذلك جعل الدولة -أياً كانت هذه الدولة- في هذه المنطقة من العالم مقترنة بالدين وجعل معيار بقاءها واستمرارها قربها أو بعدها عنه.
لذلك فإن القول الشائع حول التزاوج بين الجانب السياسي والديني في بناء المملكة يبدو دقيقاً الى حد كبير. ومع تفجر الثروات من باطن هذه الأرض استطاعت المملكة ليس فقط أن تحتل موقعاً مهماً في السلطة السياسية للعالم الإسلامي بل وأن تنشئ وتمول تياراً فكرياً وسياسياً غير مسبوق من حيث خصائصه الفكرية والشكلية ومن حيث امتداده في كثير من بلدان العالم كقوة ناعمة بيد المملكة وهو الدعوة السلفية.
هذه الدعوة وهذا التأريخ بالإضافة الى احتضانها لأبرز المقدسات الإسلامية جعل السعودية ملتزمة أدبياً بالتمسك بتمثيل الهوية الإسلامية، وجعل مسألة الانفتاح مسألة بالغة الحساسية، فما يبدو منه مقبولاً لدى الغير، يصبح غير مقبول في المملكة. وجعلها تتعرض للانتقادات على أي ممارسات تتعارض ومبادئ الهوية الإسلامية، ولنذكر – مثلاً – الحملات التي شُنت في وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بتغيير العلم السعودي ومسح عبارة التوحيد منه، عندما قامت فتيات سعوديات بالرقص وهن حاملات له في اليوم الوطني السعودي مؤخراً. وللتخلص من هذه القيود أثير مؤخراً موضوع فصل الهوية الدينية عن السياسية في المملكة، بداية بفصل لقب خادم الحرمين الشريفين عن لقب الملك، وربما مستقبلاً فصل إدارة مكة والمدينة كأماكن إسلامية مقدسة عن بقية المملكة، وربما لا يعيق ذلك إلا دعاوى تدويلهما.
إن الرغبة الجامحة لدى ولي العهد في تحديث أخلاقيات المجتمع السعودي لتقترب أكثر من القيم الغربية، سيصطدم حتماً بالمعتقدات الدينية المترسخة لفترات طويلة لدى السعوديين. وسيتمايز السعوديون الى تيارين أحدهما محافظ وأكثراً تشدداً ويمثل المجتمع، والآخر ليبرالي وأكثر انفتاحاً ويمثل الدولة. لذلك سيكون من المتوقع تفجر صراع بين التيارين مما ينشئ حالة من عدم استقرار داخل المملكة. فإذا انتصر التيار المحافظ ربما لا تستمر طريقة حكم ولي العهد السعودي كثيراً، وإذا انتصر التيار الليبرالي سيكون ولي العهد السعودي بمثابة أتاتورك السعودية وسننتظر 80 عاماً حتى تعود المملكة إلى موقعها الطبيعي كما عادت تركيا.
(المصدر: مدونات الجزيرة)