التوتاليتارية ضد العقل البشري.. كيف يتمدد الاستبداد؟ (1من2)
عرض توفيق المديني
الكتاب: اغتصاب العقل : سيكولوجيا التحكم في الفكر، وتشويه العقل ،وغسل الدماغ
الكاتب: د.جوست إبراهام ماوريتز ميرلو، ترجمة أدهم وهيب مطر
الناشر: دار تموز ـ ديموزي للطباعة و النشر و التوزيع ، دمشق،2020.
(454صفحة من القطع الكبير).
منذ عام 1933 وعندما لم يكن قد تبقى أحد ممن كانوا من ضمن حطام المجتمع البشري، كامل التخدير، والمدمج بالمحاكمات، وبعد أن كانت قد اندلعت شرارة نيران الحرائق، ودمار نظام الرايخستاغ Reichstag الألماني النازي في مدينة “برلين” العاصمة، قام الدكتورجوست أم ميرلو. Joost Meerloo A.M” وعلى مدى سنوات، بدراسة الطرق التي يؤدي بها الضغط العقلي المنتظم، إلى جلب الناس إلى حالة الخضوع المفرط، وإلى مدى سيطرة “الاستبداديين” على تفكير العقل البشري الخاضع لتلك السيطرة ، وعمق تأثير بصمات الاستبدادين الذاتية،وفرضها على توجيه حقيقة عمل عقول ضحاياهم.
فقد عاصر المؤلف عصر الثورات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وانطلاقة الحركات الفاشية في أوروبا وتهافت النظام البرلماني، ثم كل أنواع الاستبداد الجديد، الفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا، والستالينية في الاتحاد السوفييتي، وديكتاتوريات النظام الواحد والجيش، وآخر المطاف نشوء كيان صلب في ظاهرة من الأنظمة التوتاليتارية.
ومثال ذلك ما حصل في روسيا عام 1929، وعام “الثورة الثانية” كما اتفق على تسميته في الغالب، وفي ألمانيا، عام 1933 مع صعود هتلر إلى السلطة. كان موقف، ونتائج الدكتور”ميرلو” تشير إلى أنه، ومن خلال الضغط المحدد، والمركز، على نقاط الضعف في بنية عقل الإنسان، فإنه يمكن للطرق الاستبدادية، في أن تحول أي شخص كان، الى مجرد تابع “خائن”.
في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: “اغتصاب العقل، سيكولوجيا التحكم في الفكر، وتشويه العقل، وغسل الدماغ، للباحث الدكتور”جولست أم ميرلو Joost Meerloo A.M ، والمتكون من مقدمة وأربعة أجزاء، وثمانية عشرة فصلا، يتعرض الكاتب فيه للآثار العسكرية المباشرة للتعذيب النفسي، ليصف كيف تظهر الثقافة والسياسة الشمولية، وبشكل غير ملحوظ، أعراض الضغط على عقول الناس. كما ويقدم تحليلاً منهجياً لأساليب غسل الدماغ، والتعذيب، والإكراه، العقليين ويظهر كيف أن الاستراتيجية الاستبدادية الشمولية، ومع استخدام علم النفس الجماعي، تؤدي إلى “اغتصاب العقل” المنظم.
كما ويصف عقلية تفكير، وممارسة الاستبداد في العصر الجديد للحرب الباردة، وفي الرعب الناتج، والضباب الدلالي، استخدام الخوف، كأداة شاملة، ومشكلة الخيانة والولاء، والمحملة بحالات الارتباك الخطيرة.
الديناميات النفسية للاعتراف الخاطىء
يُعَدُّ اغتصاب العقل، والقهر العقلي الخفي، يعتبران من بين أقدم الجرائم البشرية. بل ولربما تعود بداياتها إلى أيام ما قبل التاريخ، وذلك عندما اكتشف الإنسان، ولأول مرة، من أنه يستطيع استغلال الصفات الإنسانية، من أجل التعاطف والتفاهم، ومن أجل ممارسة السلطة على بقية إخوانه من البشر.
أما مشتق كلمة “اغتصاب” في اللغة اللاتينية الأصلية فيعود الى كلمة rapere والتي تعني “الخطف ـ الاختطاف” ولكنها تعني أيضا في بعض الاشتقاقات “الهذيان” و”النهب” وإلى “الغراب الأسود” أيضا. كما أنها يمكن أن تعني “الغزو” أو الاغتصاب أو السرقة والسلب.
كما أن الكلمات الحديثة غسل الأدمغة، والتحكم في الفكر، وتشويه العقل العمد تعمل على توفير تصور أوضح للطرق الفعلية التي يمكن بها انتهاك سلامة الإنسان.
يستشهد الكاتب جوست إبراهام بحادثة تاريخية جرت مع الفيلسوف سبينوزا، فيقول: “في أحد الأيام في عام 1672 اضطر أصدقاء، وجيران الفيلسوف العقلاني الوحيد سبينوزا، إلى تقييده قسرًا. فقد أراد أن يهرع إلى الشوارع، ويصرخ عن استياء من الغوغاء الذين قتلوا صديقه الجيد “جان دي ويت” رجل الدولة النبيل في الجمهورية الهولندية، والذي اتهم بالخيانة ولكنه في الوقت الحاضر، كان قد هدأ، وتراجع إلى غرفته حيث يقوم، كالمعتاد، بوضع عدسات بصرية، وفقاً لروتين يومي غير منتظم حتى ذلك الوقت. وبينما كان يعمل، كان يفكر في سلوكه الخاص، والذي لم يكن أكثر عقلانية، أو منطقية، من سلوك الحشود التي قتلت صديقه دي ويت.
وعندئذ، أدرك سبينوزا وجود الوحش العاطفي المخبأ تحت العقل البشري والذي عندما يثار، يمكن أن يتصرف بطريقة متهورة، بل ومدمرة، ويمكن أن يستحضر آلاف المبررات والمبررات لسلوكه. ولأنه، كما شعر سبينوزا وكما أوضح عالم النفس العظيم “سيغموند فرويد” في وقت لاحق، كجميع الناس، ليسوا تلك المخلوقات العقلانية التي يعتدون بأنها موجودة.
ففي اللاوعي، يقع هذا المخزن الشاسع للذكريات والعواطف، والاجتهادات المدفونة العميقة، وعبر العديد من السنين الطفولية، وغير المنطقية، والتي تؤثر باستمرار على الأفعال الواعية.
كما أننا كلنا محكومون، والى حد ما، بقدرة هذا الطاغي الخفي، وبالصراع بين عقلنا وعواطفنا.
وإلى الحد الذي نصبح نحن فيه ضحايا محركات غير واعية، وبدوم رقابة، وإلى هذا الحد الذي قد يجعلنا نصبح عرضة للتلاعب العقلي”( ص 104 ).
وعلى الرغم من أن هناك سحراً مروعاً في فكرة أن المقاومة النفسية لدينا ضعيفة نسبياً فإن الجودة ذاتها، والتي تميز إنسانا عن آخر ـ الفرد الأول ـ يمكن أن تتغير، وبشكل عميق وذلك بسبب الضغوط النفسية. ولذلك فإن مثل هذه التحولات، ليست سوى مجرد تطورات عملية للعثور على المشغل المنطقي في الحياة الطبيعية.
ومن خلال اقتراح منظم، ودعاية خفية، والتنويم المغناطيسي الجماعي العلني، يتم تغيير العقل البشري في تعبيراته يوميا في أي مجتمع. كما أن الإعلان يغوي المواطن الديمقراطي، في استخدام الدجل، أو علامة تجارية خاصة لنوع صابون بدلا من آخر على سبيل المثال. كما ويتم تشجيع رغبتنا في شراء الأشياء باستمرار، حيث يسعى السياسيون المتنافسون للتأثير علينا، من خلال بريقهم وكذلك من خلال برامجهم. في حين أن خبراء الأزياء يضعون أمام أعيننا تغيرات دورية، حول معايير الجمال والذوق الرفيع. كما أنه في حالات تشويه العقل، يكون هذا الاعتداء على سلامة العقل البشري أكثر مباشرة وتعمداً.
تكمن إيديولوجية اغتصاب العقل في تدمير تعددية الناس، بوساطة الإرهاب الأيديولوجي المنظم، ودائرة الرقابة الحديدية، وخلق الرأي “الواحد” بدءاً من المتعدد، وابتداع “الواحد” الذي قد يتصرف وكأنه صانع التاريخ. إن المنظرين الأيديولوجيين لا غتصاب العقل، لا يتحملون تشغيل العقل (أو الذكاء) إلا إذا كان في خدمة السلطان، بوصفه الرجل الذي يملك الحق على الدوام. ولا يمكن لأي مثقف أو صحافي أو مفكر أن يكون على حق إلا إذا كان مع السلطان وكأن التاريخ لم يوفر لنا وسائل أخرى لنكون في صف المدافعين عن الحق والحقيقة.
لما كانت الدولة التوتاليتارية تخاف من الثقافة والإعلام، بوصفهما يمتلكان القدرة على تهديم تلك المنظومة الإيديولوجية المتماسكة من الأفكار التي تدعي أنها تحتوي، في ذاتها، على الواقعي، وعلى خلق عقلانية جديدة في التفكير ومناهضة اتجاه الإيديولوجية التوتاليتارية الذي يقود إلى الانغلاق على صورة مذهب متحجر في شكل دين جديد، فإنها ما انفكت تصم معارضيها بالخونة، وذلك يتطلب والحال هذه معاقبتهم.
في الواقع، إن هدف اغتصاب العقل هو خنق التعددية التي تفسح في المجال للنقاش الفكري والسياسي والثقافي، وخنق الثقافة واستئصال معانيها أو سلبها أيضاً، وهو ما يعني غياب الرأي والرأي الآخر في القضايا الوطنية الكبرى التي تهم واقع أي بلد ومستقبله. وحيثما تتم عملية خنق الثقافة والإعلام والرأي الآخر، تتم السيطرة الكلية الاستبدادية على المجتمع وتطوره الداخلي، ذلك لأن الثقافة والإعلام الديمقراطي في جوهرهما نقيضان للتحكم التوتاليتاري بالمجتمع.
الثقافة والرأي الآخر يمكنان المجتمع من ترسيخ حرية الحقيقة واكتشافها، حيث أن مصلحة الحقيقة تستلزم تعدد الآراء حتى لا تظل الديمقراطية حبيسة قاع بئرها، فكيف لدولة توتاليتارية تقوم على قمع هاتين القيمتين أن تنظر إلى الثقافة والرأي الآخر بعين الرضا؟
وفي هذه اللحظة التاريخية، وانسجاماً مع خطها الأيديولوجي وسياسة الإعلام الخشبي، تقدم الدولة التوتاليتارية نفسها على أنها أعلم الناس بقانون التاريخ، وأجدرهم معرفة بمن ينبغي معاقبتهم من المعارضين الذين يمتلكون تصوراً جديداً، ورؤية فكرية وسياسية ديمقراطية، يشكلان اقتحاماً واقعياً لمنظومتها الإيديولوجية التي تنزع إلى أن تحل نفسها محل الواقع،أو تنزع إلى احتواء الواقع في قاعدتها الخاصة.
ولما كانت الدولة التوتاليتارية تخاف من الثقافة والإعلام، بوصفهما يمتلكان القدرة على تهديم تلك المنظومة الإيديولوجية المتماسكة من الأفكار التي تدعي أنها تحتوي، في ذاتها، على الواقعي، وعلى خلق عقلانية جديدة في التفكير ومناهضة اتجاه الإيديولوجية التوتاليتارية الذي يقود إلى الانغلاق على صورة مذهب متحجر في شكل دين جديد، فإنها ما انفكت تصم معارضيها بالخونة، وذلك يتطلب والحال هذه معاقبتهم.
تقول حنة أرندت في كتابها (أسس التوتاليتارية): “يعول الحكام التوتاليتاريون بخاصة على الإكراه، الذي يسعنا أن نفرضه على أنفسنا، من أجل أن يحفزوا الناس، جزئياً، الذين لا يزالون بحاجة إليهم، وذلك الإكراه الداخلي إنما هو الاستبداد المنطقي الذي لا يقوى على مقاومته شيء سوى قابلية الإنسان الكبرى لأن يبدأ عملاً من جديد. والحال أن الاستبداد المنطقي، يبدأ مع خضوع النفس للمنطق باعتباره مساراً دونما نهاية، والذي يعتمد عليه الإنسان حتى يولد أفكاره. وبهذا الخضوع، يتنكر لحريته الداخلية أبداً كما يتنكر لحرية الحركة، إذ ينحني إزاء حكم استبدادي خارج عنه…
فمن جهة أولى، يضغط إكراه الإرهاب الكلي على جماهير الناس المعزولين ويحفظهم في عالم بات لهم صحراء، ومن جهة أخرى، فإن قوة الاستنتاج المنطقي القاسرة ذاتياً، إذ تهيء كل فرد في عزلته المقفرة لمواجهة كل الآخرين، ما تعتم أن تطابق الإرهاب الأوَّل، فيصيران (الإرهاب وقوة الاستنتاج القاسرة ذاتيا) الواحد منهما في أمسّ الحاجة إلى الآخر في سبيل أن يسيّرا الحركة المحكومة بالإرهاب ويحولا دون أن تتوقف. وعلى هذا النحو فإن الإرهاب، حتى في شكله السابق لصفة الكلية، والاستبدادي المحض، يعمد إلى القضاء على كل العلاقات بين الناس، مثلما يقضي الإكراه ـ الذي ينطوي عليه الفكر الإيديولوجي على كل العلاقات مع الواقع “( حنة أرندت ـ أسس التوتاليتارية ـ ترجمة أنطوان أبو زيد ـ دار الساقي ـ الطبعة الأولى 1993 بيروت (ص 267 ـ 268 ).
المصدر: عربي21