مقالاتمقالات مختارة

التنوير القسري وإعادة إنتاج الاستبداد

التنوير القسري وإعادة إنتاج الاستبداد

بقلم إيمان النمر

غالباً ما نجد ارتباطاً وثيقاً بين تاريخ المشروع التنويري والاستبداد السياسي في المنطقة العربية ودول الشرق الأوسط، إذ صار أداة هيمنة وسيطرة طيعة لإعادة إنتاج دوائر التبعية، وتعزيز التراتبية القبلية والعشائرية.

يتعارض هذا التنوير الاستبدادي بطبيعة الحال مع ما يومئ إليه مفهوم التنوير الكلاسيكي في صورته الديمقراطية الليبرالية، الذي يحض على المساواة والحرية والعقلانية النقدية.

كان يمكن تمرير هذا التنوير الاستبدادي في الماضي، بدافع ” التحديث الدفاعي” المتعجل، الذي تبنته الدولة العثمانية، في ما يُعرف “بدولة التنظيمات” في النصف الأول من القرن التاسع عشر، برضا ومساهمة جماعة المثقفين ورجال الدين الإصلاحيين من الطبقة البرجوازية التابعة للسلطة، للوقوف ضد مطامع المد الغربي الاستعماري.

وإن كانت تلك الطبقة قد تمكنت لاحقاً أن تحول المسألة إلى قضية اجتماعية ذاتية مستقلة -ليس مجال حديثها الآن- فإنها لم تستطع الصمود في وجه صعود الحكم العسكري الاستقلالي الذي تبنى هو الآخر مفهوم التنوير تحت شعار “التنمية والديمقراطية والقومية” في القرن العشرين.

بالقسر والانتقائية واستتباع القوى الاجتماعية، وقبضة المراقبة والاضطهاد لكل ما هو مخالف، قد فرض العسكر تصوراتهم عن التنوير، معتمدين على الكاريزمية الشخصية لا المشروع الفكري الرصين أو متطلبات المجتمع الضاغطة.

وقد سطع نجم كل من أتاتورك وعبد الناصر وبورقيبة، ويمكن القول بأنهم استطاعوا إلى حد كبير اكتساب الدعم الشعبي بفضل الدمج السياسي لبعض القوى الدينية والشرائح الاجتماعية التي كانت مستبعدة من قبل، في عملية توزيع الموارد والامتيازات، وتحديث مؤسسات الخدمة والإدارة ومنظومات إنتاج القيمة.

بالتالي، وجد هذا النموذج من المشروع التنويري ما يسوغه ويمرره، إلا أنه حوى بداخله تناقضات هدمه، وكان عُرضة للانهيار في أي مواجهة، لأنه قد أُسس على الاستبداد الذي قضى على التنافسية المجتمعية، الشرط الأولي لضمان فاعلية الأفكار التنويرية واستمراريتها على مستوى الممارسة، وشدد الحصار على التيار المدني وكل حراك راديكالي نقدي أتي من القواعد الشعبية، بالتالي، لم يجد من يدافع عنه بوعي، كمكتسب ذاتي مستحق، وإنما وسّع من دائرة خصومه. ولعل فيما سُمي بالصحوة الإسلامية نموذجاً يدلل على صحة هذا المآل.

وفي واقعنا الراهن، وعلى الرغم من ثبوت فشل هذا النموذج تاريخياً، تسير على الخطى وعلى نحو هزلي، بعض الأنظمة الاستبدادية، في إعادة تدوير مفهوم التنوير ودلالاته الحداثية كنوع من الدعاية والاستعراض والتمويه على بشاعات قبضتها البوليسية، أمام المجتمع الدولي ومنظماته الحقوقية، غير عابئة بالتغيرات التي طرأت على البنى الاجتماعية، ومستوى الوعي الذي بلغته بعض الشرائح العمرية من الشباب الذي انفتح على منافذ الثقافة الذاتية والإعلام البديل.

وعلى نحو صارخ من التناقض، وتحت وطأة الشعور بالعجز والتأخر التاريخي، تعزز بعض النخب العلمانية المثقفة، دور “الدكتاتورية التربوية”، على الرغم من عدم اختلافه منهجياً في شيء عن وصاية الإسلام السياسي والسلفية المتشددة وتسلطهما؛ إذ لا مانع من فرض التغيير على المجتمع بالقوة والإكراه، بدعوى عدم نضجه وقصوره المادي والفكري الذي يعوق التقدم، حتى لو كان عدم النضج هذا هو ما صنعه الاستبداد السياسي وتوابعه.

يجسد النظام السعودي مستغلاً ثقله الاقتصادي والديني في المنطقة، نموذجاً لهذا التنوير أو التحديث المأزوم ممثلاً في شخص محمد بن سلمان؛ إذ يجمع الشاب الطموح وبثقة غاشمة، بين كل مساوئ التجربة التحديثية، فبداية، هو يحاول أن يصنع من ذاته زعامة، متقمصاً دون كاريزمية دور المستبد المستنير.

وكما بالماضي، وعلى غرار مؤسس الدولة السعودية الحديثة عبد العزيز بن سعود يسير ابن سلمان؛ إذ تحت ضغوط الإملاءات الخارجية ووفق مصالح الاقتصاد البريطاني وعمليات استخراج النفط، وكما يبين نزيه الأيوبي في كتابه “تضخيم الدولة العربية”، قد تخلص ابن سعود من حلفاء النظام القدامى سواء من القوى الاجتماعية أو الإخوان الوهابيين في مجابهة عام 1929-1930، حين امتد نفوذهم واستحواذهم على بعض الأراضي والحقول الحيوية في العراق والأردن والخليج.

ولأنهم كانوا معارضين بشدة الإجراءات الاقتصادية التي اتخذها ابن سعود لإلغاء الإتاوات القبلية “الخوة”، وفرض بعض الضرائب غير الدينية على النجديين، فما كان من ابن سعود وبدعم البريطانيين إلا أن صادر ممتلكاتهم وأسلحتهم، وقمع كل حركة مناوئة بدعوى معارضتهم للإجراءات التحديثية التي شرعت السعودية وقتئذ في تنفيذها.

لا يختلف هذا عن ذاك الحاضر الماثل الذي نعيشه، فالنظام السعودي عاد لاستغلال شعار التنوير والتحديث، على نحو ذرائعي واستعراضي، يُراعي المصالح والعلاقات الاقتصادية الأمريكية وحلفائها بما يتفق وتوازنات القوى الدولية في المنطقة، يسانده في ذلك تقارير المنظمات الدولية الخاصة بالتنمية العربية، التي ارتأت منذ مطلع الألفية الجديدة، وتحت تأثير ما بعد أحداث هجمات 11 سبتمبر/أيلول، ضرورة التدخل الخارجي لإحداث التغيير الديمقراطي والتنموي بالقوة نظراً إلى “استثنائية الشرق الأوسط العربي” الذي عجزت الأنظمة والبنى الاجتماعية المحلية في تغييره.

وانطلق النظام السعودي دفاعاً عن نفسه من ذات القماشة الرديئة التي وصم بها، على الرغم من أن تلك الوصمة كانت من الآليات الاستراتيجية التي اعتمدها النظام الدولي ذاته في معركته ضد النظام السوفيتي، وإذ به اليوم، ينقلب عليها ويعينها مصدر الشر البديل الذي يجب دحضه.

فالفقه الديني الذي استُخدم كموضوع خصومة وأيديولوجية سياسية، يُعاد توظيفه على وجه معكوس تحت دعوى نشر قيم التسامح وقبول الآخر والتعايش المشترك، لكنه تسامح ممجوج لا يمانع من قتل واعتقال وتكميم لفم كل معارض، كي يأتي من يقول بسطحية “التنوير ينطلق من أرض التكفير”!

وهذا العنف المعلن بفجاجة ليس مستغرباً، إذا وُضع في سياقه هذا، فعلى العكس هو يدلل على كفاءة النظام وزعامته، وقدرته على الردع والضبط والاستحواذ، بل إنه جزء من الدعاية الإعلامية التي لا تقل في أهميتها عن الدعاية التنويرية التي تشتغل على العرَضي لا السببي في استغلالها الملف الحقوقي الخاص بالمرأة والشباب.

وفي السياق ذاته يأتي تقمص دور التربوي والمعماري الحضاري، الذي يشيد ويبني هيئة “الترفيه الحلال”، والمشروعات البراقة والعملاقة التي تخفي خلفها إعادة إنتاج القبلية السياسية وتراتبية الشبكات الاجتماعية الجديدة المستتبعة التي يجدد ويرقع بها النظام بنيته على المستوى الشكلي، بغرض صيانته وحفظه من السقوط أو ابتلائه بعدوى ثورات الجيل الجديد.

من المؤكد، أنّ ثمة حراكاً اجتماعياً يمارس بعض ضغوطه بأقصى جهده راجياً فتح المجال العام وإتاحة بعض الحريات العامة، ونسبة من التمثيل السياسي الديمقراطي، ومطالباً الإقرار ببعض الحقوق الفردية التي غدت بدهيات في نسق الثقافة المعولمة.

وقد يمثل هذا التنوير أو التحديث الإجرائي جانباً من الاستجابة لمتطلباته، لكنه بهذا الاحتكار الاستبدادي القسري، تنحصر وظيفته في إنقاذ النظام وتجميله إلى حين، وبذلك يعطل ويؤخر أي حراك اجتماعي جاد في سبيله إلى إحداث تغيير حقيقي وجذري، ويدفع به إلى الخلف، ومن ثمّ إعادة إنتاج أشكال التبعية والعنف وشرعنة التدخل الخارجي في دائرة مفتوحة لا تنتهي.

الأسوأ من ذلك، أنّ هذا الشكل من التنوير الاختزالي والنفعي يُفرغ المفهوم ذاته من جوهره، ويجعله مبتذلاً، عدا أنه يرسخ كل مدى من ارتباطه في الذهنية الشعبية بالمؤمرات الخارجية الهدامة، بل وبنفس الوتيرة السريعة التي فُرض بها، غالباً ما ينهار، مُخلفاً وراءه قوى اجتماعية ناقمة، أكثر عنفاً وتخلفاً مما كانت عليه كنوع من المقاومة والاحتجاج المضاد، ما يتبعه، تراكم وتضخم العديد من القضايا الضاغطة، وما هروب بعض الفتيات وازدياد معدلات هجرة الشباب من ذوي الكفاءات إلا جزء من تمثلاته المؤسفة.

(المصدر: تي آر تي TRT العربية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى