بقلم د. طه جابر العلواني (رحمه الله)
بقطع النظر عن أقوال الأشاعرة و الماتريديه و المعتزلة او غيرهم في التعليل، فان الله – جل و على – قد علل الكثير من أحكامه صريحا وإيماءً و تنبيها. وعلل رسولُه – صلى الله عليه و آله وسلم – وعلل أصحابُ رسوله من بعده وكذلك فعل المجتهدون. ولا يسع إنسانا أن يقول بالقياس ثم ينفي التعليل حقيقةً أو صورةً.
– إن الله تعالى قد علل إيجاده العبادَ بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
– وعلل ارسال الرسل بقول تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)
– وعلل تشريع القصاص بقوله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ …).
– وعلل أمره لرسوله بالزواج من زينب بقوله: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ …) و غير ذلك كثير جدا.
ومن تعليلات الاحكام في السنة:
– قوله عليه الصلاة والسلام: (كُنْتُ نَهَيْتُكم عن لحومِ الأضاحي، إنَّماكُنتُ نَهَيتُكُم للدَّافَّةِ الَّتي دفَّت، فَكُلوا، وتَصدَّقوا، وتَزوَّدوا)
– و قوله: (لولا أنْ أشُقَّ على أمَّتِي لأمرتُهُمْ بالسِّوَاكِ عندَ كلِّ صلاةٍ).
– وقوله: (يا معشرَ الشبابِ، مَن استطاع منكم الباءةَ فلْيَتَزَوَّجْ، ومَن لم يَسْتَطِعْ فعليه بالصومِ فإنه له وجاءٌ).
وقد علل الصحابة وأثبتوا الأحكام بناء على عللها – منصوصة أو مستنبطة – فعللوا بالمصلحة والضرورة والحاجة ودفع الضرر وأثبتوا أحكاما لم تكن، وأوقفوا بناء على ذلك العمل ببعض ما كان معمولا به لعلة ثم زالت علته. وكانوا في كل ذلك يتفقون أحيانا ويختلفون، والأمثلة على ذلك تجل عن الحصر:
– منها إيقافهم ما كان يعطى للمؤلفة قلوبهم لأن الله قد أعز الاسلام وأغناه.
– ومنها جمع سيدنا عمر الناس على أبي بن كعب في قيام رمضان بعد أن امتنع عن ذلك رسول الله – صلى الله عليه و آله و سلم– لئلا يفرض عليهم.
– ومنها نهي عمر لحذيفة عن الزواج بيهودية من المدائن وعزمه عليه لتطليقها، وحين حاجه حذيفة: (أحرام هي يا أمير المؤمنين؟) قال: (لا ولكني أعزم عليك أن لا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين).
– ومنها موقفهم من قسمة أرض السواد.
– ومنها الطلاق الثلاث.
– وتحديد حد شرب الخمر بثمانين
– وإيقاف عمر – رضي الله عنه – حد السرقة في عام الرمادة..
وكان ذلك كله بناء على علل ذكروها وقد سلك التابعون وتابعوهم والمجتهدون هذا المسلك أيضا.
فالقول بأن نفي التعليل إنما هو تنزيه لله تعالى لأن القول به يعني أنه تعالى مستكمل بالغرض، فهذا إنما هو نوع من الوسواس وقول لا ينبغي أن يخطر على الذهن ولا تقليبه على الألسنة فضلا عن وضعه على السطور، ذلك لأن من البديهي أن المستكمل بالغرض أو العلة إنما هو العبد، لا خالقه الغني تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
هذا وقد تأثرت مذاهب الأصوليين في تعليل الأحكام بمذاهبهم الكلامية، فالذين ساغ في مذاهبهم الكلامية تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه ولم يروا في ذلك ما ينافي التوحيد أو يخدشه، كان للتعليل في نظرهم مفهوم ينسجم مع هذا المذهب، والذين رأوا أن القول بالتعليل هو نفسه القول بالغرض وأنه ينافي التوحيد وقفوا من التعليل ومن حقيقته موقفا آخر يتفق مع مذهبهم ذاك.
و لقد أثرت تلك المذاهب تأثيرا سلبيا شديدا في سنة السببية والأخذ بالأسباب وهيأت العقل المسلم لأزمة تجاهل الأسباب أو عدم ربط الأسباب بالمسببَات، و ألقى ذلك كثيرا من الغبش على قانون السببية وهيأ الأذهان لإنكار قانون السببية أو التقليل الشديد من أهميته والقول بالجبر، وشاعت أمراض فكرية كثيرة بين المسلمين نتيجة لذلك، فكثيرون توهموا أن هناك تنافيا بين السببية والعلية والتوكل وبينها وبين الإيمان بالقضاء والقدر، وألقت تلك الأفكار والمناقشات بظلالها السيئة على مفهوم القدر نفسه وأصبح المسلم يميل الى التواكل والكسل، وإنكار الاختيار الانساني وإنكار تأثير الأسباب، وشاعت تلك المقولات التي تدعي أن الأسباب لا قيمة لها وأن الأشياء تخلق عندها لا بها، فالنار لا تحرق ولكن الله يخلق الحرق عند مماستها، وهم يعلمون أنه مادام الحرق قد حصل بمماسة النار فسواء كان بخلق الله الحرق عندها أو بها فهما سواء وتحصيل حاصل ولم لا يقال إن سنة الله في النار أن تكون محرقة؟! ولله أن يوقفها عن الاحراق خرقا للسنة التي خلقت بها، فقال تعالى: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) .
لكن تلك الوسوسة التي حدثت جرّت إلى ذلك كله، والله تبارك وتعالى قد قال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فهو خالق النار وخالق الإحراق بها وهو جل شأنه القادر على أن يوقفها إن شاء أو يعطلها إلى غير ذلك، لكنهم بجدالهم ذلك وبتناسيهم لكثير مما جاء القرآن به أحدثوا ذلك الشرخ في العقل المسلم وأوقعونا بتلك الأزمة، والله – جل شأنه – حين ذكر قصة ذي القرنين قال ببساطة ويسر: (وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا)، فالسببية قانون إلهي لا يسع مؤمنا بالله واليوم الآخر أن يتجاهله أو يقلل من شأنه أو ينفي آثاره.
ومما يحزن القلب أنه برغم السقوط في هذه الإشكالية من قِبل البعض، إلا أن مَن بعدهم قد تبعوهم في هذه الاشكالية وتبعوا رأيهم هذا دون نقد أو مراجعة من كتاب الله – جل وعلا– ودون إعمال للعقل والفكر في الدنيا واستنباط قوانينها التي بالتأكيد تتسق مع قوانين الكتاب الكريم. وتأثر العقل المسلم بهذه القضية إلى اليوم يجيب على السؤال الكبير وهو كيف وصل حال المسلمين إلى هذا التدهور والانحطاط بين الأمم؟
فهذه هي الاجابة، ترك الأخذ بالأسباب ظنا أنها لا قيمة لها وأنها ليست من الدين، بل وتناقض الإيمان والتوكل على الله. إنا لله وإنا إليه راجعون.
– من تفسير القرآان بالقرآن للشيخ طه جابر العلواني: سورة الأنبياء –
المصدر: موقع الريسوني.