مقالاتمقالات مختارة

التطبيع.. مشروعيتُه وآثارُه

التطبيع.. مشروعيتُه وآثارُه

بقلم صالح الدين البسامي

التطبيع (Normalization) هو مصطلحٌ سياسي حديث ظهر بعد اتفاقات كامب ديفيد (مارس 1979م) يشير إلى “جعل العلاقات طبيعية” بعد فترة من التوتر أو القطيعة أو التدابر لأي سبب كان.

بدأ التطبيع بحل الدولتين على أساس حدود 4 جوان 1967م، إذ تم الاتفاق بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني على تطبيع العلاقات بحل الدولتين، وكان ذلك بعمل جسيم من قبل علمائهم في السياسية والفلسفة على غرار نعوم تشومسكي الذي كان من أوائل من اقترح حل الدولتين، وبتقادم القضية وتخاذل الدول الإسلامية عموما في مواصلة ثباتها بعدما حوّلوا القضية الفلسطينية من قضية دينية إلى قضية سياسية.

وحكمُ التطبيع منوط بثلاثة مقتضيات: مقتضى الشرع، ومقتضى العقل، ومقتضى الهوى، وهو منوط أيضا بمقصده، إذ الأمور بمقاصدها.

أولا: التطبيع بمقتضى العقل: بمعنى مقياس المصلحة فيه منوطٌ بالعقل وأوضِّحه بمثالين، المثال الأول يعود إلى تطبيع العلاقات المسيحية اليهودية، إذ عرف ما قبل القرون الوسطى الاضطهاد المسيحي والمتكرر على اليهود الذين نالوا كراهية الشعوب وخاصة منها الأوروبية بسبب ثرائهم الفاحش نتيجة الإقراض بالربا الذي كان متفشيًّا فيهم والذي أحدث فجوة اجتماعية كبيرة أدت إلى صراع الطبقات، ففي القرن الثاني عشر سنة 1190م حدثت مذابح كليفوردس توور بإنجلترا، والتي قتل فيها العشرات من الأثرياء والإقطاعيين اليهود، وفي القرن الرابع عشر وبالتحديد سنة 1347م وبسبب الطاعون الأسود الذي ضرب القارة الأسيوية ثم الأوروبية والتي مات فيه العشرات من الملايين، وفتك بالمسيحيين أكثر من اليهود بسبب سلوكهم المتعلق بالنظافة بدوافع دينية والتي هي من أهم الأسباب الوقائية للأوبئة وإلى يومنا هذا، اعتقد المسيحيون حينها وخاصة في فرنسا وألمانيا بأنّ هذا الطاعون عقوبة من الله عليهم بسبب عدم انتقامهم من اليهود، فأوقعوا فيهم مذبحة نكراء، إذ كان عدد ضحايا اليهود بسبب تلك المذبحة يفوق بكثير عدد ضحاياهم بسبب الطاعون، وفي القرن الخامس عشر وبعد سقوط الأندلس في سنة 1492م تعرَّض اليهود لاضطهادٍ وتهجير قسري جسيمين من قبل الـمَلِكيْن فرنا ندوا وإيزابيلا، وكان ملاذهم الوحيد إلى بلاد المسلمين في المغرب العربي وولايات الدولة العثمانية، وفي القرن التاسع عشر كانوا ضحايا مذابح 1881م في روسيا، وفي القرن العشرين، وأثناء الحرب العالمية الثانية، كانوا ضحايا تصفية النازيين الألمان لهم. ثم بعد كلّ هذا الاضطهاد والتقتيل والتهجير ارتأى دول المحور حينها (بريطانيا، فرنسا، روسيا) بمقتضى العقل تطبيع العلاقات مع الكيان اليهودي الصهيوني لمصالح جيوسياسية براغماتية تخدم كل الأطراف، من أهمها التخلص من اليهود من أراضيهم، وإيجاد دولة لهم وغرسها في قلب العالم الإسلامي لكي لا تقوم له من جديد قائمة، مع العلم أنّه لم يتم احتلال القدس إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية.

والمثال الثاني للتطبيع بمقتضى العقل هو حل الدولتين بحدود 1967م، وهو تطبيعٌ غير متكافئ المصالح، مَنَحَت من خلاله السلطة الفلسطينية جزءا كبيرا من أراضها إلى الكيان المغتصِب بسبب تراجع المواقف من قبل الدول الإسلامية وخاصة العربية منها من جهة وبضغط المجتمع الدولي من جهة أخرى، وكان الأولى -حتى في مرحلة الضعف- أن ترفض السلطة الفلسطينية هذا التطبيع كما رفض من قبل السلطان عبد الحميد كل الاقتراحات اليهودية الـمُجانِبة لمسوغات الشريعة ومن أبرزها المساومات المادية له لكي يتنازل لهم عن شيء من أراضي فلسطين والذي أبى فعل ذلك حتى في مراحل ضعفه عملا بقول القائل: إذا لم تستطع في مرحلتك فلا تتنازل ودع الأمر تاما لمن يستطيع في مرحلته.

ثانيا: التطبيع بمقتضى الهوى: وهذا ما فعلته الإمارات يوم الخميس 23 ذو الحجة 1441هـ/ 13 أوت 2020م بإعلانها عن التطبيع الرسمي لعلاقاتها مع الكيان الصهيوني والتي تطوّرت على مدى أعوام، وعزمهما توقيع اتفاقيات تعاون في مجالات عدة. فأين هو ضامن المصلحة لهذا التطبيع؟ الإمارات دولة غنية ولكنها ضعيفة بل تعد في السياسة الدولية من الدُويلات المجهرية، والتي لا تستطيع أن تضمن مصالحها مع كيان نووي وذي نفوذ، ولا يقاس على ما فعلته دول المحور الأوروبية (إنجلترا، فرنسا، روسيا) التي طبّعت علاقاتها مع اليهود بعد الحرب العالمية الثانية، فبالنسبة إليهم أنّ الكيان الصهيوني الذي أنشأوه مهما بلغت قوته فهو تحت السيطرة، لأن ضمان مصلحتهم منوط بقوّتهم.

ثالثا: التطبيع بمقتضى الشرع: وهنا نعود إلى قاعدة الأمور بمقاصدها، فإذا قُصد بالتطبيع الهدنة أو الصلح، فالتطبيع هنا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: صلح (تطبيع) مُـحَدّد أو مؤقت بمدة، وهذا جائزٌ باتفاق أهل العلم، والدليل على ذلك صلح الحديبية (6هـ) الذي هادن فيه النبي صلى الله عليه وسلم أعداءه عشر سنين، وهذا ما فعله صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين في مهادنتهم ثلاث سنوات في معاهدة الرملة لمَّا فشلت الحملة الصليبية بقيادة ملوك أوروبا (ريتشارد، فيليب…) في استرداد القدس.

القسم الثاني: صلح (تطبيع) مطلق، وهو صلحٌ غير مقيد بمدة، وفيه اختلاف بين أهل العلم، والراجح جوازُه إذا رأى الحاكم فيه مصلحة للإسلام والمسلمين كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة والكثيرَ من قبائل العرب اتقاء شرِّهم بغير مدة، وهذا ما ذهب إليه ابن تيمية وغيره بناءً على قاعدة البراءة الأصلية، وللحاكم نقضه إذا رأى ما يستوجب ذلك بعد إعلام الطرف الثاني.

القسم الثالث: الصلح (التطبيع) المؤبّد، وهو -حسب اطّلاعي- بإجماع العلماء المسلمين الـمُعْتبرين غير جائز، بل يُعدُّ خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، لما فيه من تعطيل مقاصد الدين وتعطيل شعيرة الجهاد التي هي ذروة سنام الإسلام، وكلامي هنا حول الجهاد الشرعي، لا الجهاد الإيديولوجي (الأمريكي…).

وخلاصة المسألة أنّه إذا قُصد بالتطبيع الصلحُ المؤقت أو المطلق فهو جائز وقد يكون واجبا خدمة لمصلحة الإسلام والمسلمين من باب قاعدة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، أما إذا قُصد بالتطبيع الصلحُ المؤبد كحلّ الدولتين بحدود 1967م، فهذا تطبيعٌ بمقتضى العقل لا يحلُّ شرعا بل يعدُّ خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين لما فيه من تسليم لجزء من أرض المسلمين وبغير مسوغ شرعي للمغتصِب الصهيوني، والأسوأ منه تطبيع دولة الإمارات الأخير الذي تم بمقتضى الهوى.

آثاره: إذا كان التطبيع بمقتضى الشرع فالعواقب والمآلات حتما تكون آمنة وخادمة لمصلحة الإسلام والمسلمين حتى وإن كان في ظاهره شيء من الإضرار على المسلمين كما جرى في صلح الحديبية، قال تعالى: (والعاقبة للمتقين) [القصص: 83]، أمّا إذا كان التطبيعُ بمقتضى العقل المناوئ للشرع فالعواقب حتما ستؤول إلى الأسوأ، قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [الشورى: 30]، أما إذا كان التطبيع بمقتضى الهوى فحدث ولا حرج، قال تعالى: (ومن يُهِن اللهُ فما له من مكرم) [الحج: 18]. وعلينا أن نعلم أنّ واقع أمة الإسلام بعامة والعربي بخاصة لا يتغير ولا يتحرر من هوانه بالتطبيع… إلاّ إذا حرر نفسه من موجبات الهوان بتغيير نفسه أولا، قال تعالى: (إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغييروا ما بأنفسهم) [الرعد:11].

(المصدر: بوابة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى