التطبيع بين الأمس واليوم.. من تحت الطاولة إلى الفجاجة
بقلم عمر عياصرة
منذ أن دشن الرئيس المصري الراحل لمسار السلام مع “إسرائيل” ومسلس التطبيع مستمراً ولكنه في هذه الأوقات يأخذ شكلاً آخر أكثر فجاجة عمّا كان عليه الأمر في الماضي.
الرئيس المصري أنور السادات هو من افتتح موسم التطبيع عربياً مع إسرائيل. كان ذلك يوم اعتلى منصة الكنيست في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1977.
يومها غضبت الجماهير العربية والأنظمة كذلك، وتقرَّر مقاطعة مصر من خلال مؤتمر بغداد. وعقوبة على سلوك السادات نُقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس.
ثلاثة وأربعون عاماً مرت على تلك البداية التطبيعية الرسمية تغيَّر فيها الكثير. ومع ذلك لا نزال نجد “إسرائيل” تسلك النهج ذاته في مد الجسور مع دول العالم، من خلال سعي حثيث لنسج العلاقات وتجاوز المحظورات، وإظهار الحفاوة البالغة بأية خطوة تطبيعية.
كما صارت في السنوات الأخيرة تركّز أكثر على تفعيل الأدوات الثقافية والاقتصادية والتكنولوجية وليس فقط السياسية لكسب الأصدقاء. لا سيما بعد اقتران صورتها في أذهان الشعوب بمشاهد النزاع وعدم الاستقرار، والأهم أنها بدت أكثر قدرة على اختراق الساحات العربية وتدشين منطق جديد.
من لاءات الخرطوم إلى توسل إسرائيل لقبول السلام
قمة اللاءات الثلاثة أو قمة الخرطوم هي مؤتمر القمة الرابع الخاص بجامعة الدولة العربية. عُقدت القمة في العاصمة السودانية الخرطوم في 29 أغسطس 1967، على خلفية هزيمة عام حزيران أو ما عرف بالنكسة.
وقد عُرفت القمة باسم قمة اللاءات الثلاثة إذ خرجت القمة بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال لاءات ثلاثة: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق إلى أصحابه.
هنا نفهم أن التطبيع كان محرَّماً على الرغم من الهزيمة واختلال موازين القوى، لكن بعد ذلك تغيرت الظروف والمعادلات، وجاءت اتفاقية كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن وأوسلو مع منظمة التحرير، لتعلن جميعها نهاية المحرمات وبدء التطبيع الرسمي الجزئي.
أما العرب بعمومهم فقد أطلقوا مبادرة السلام العربية في بيروت 2001، التي وعدت إسرائيل بالتطبيع مقابل إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 ويقبل بها الفلسطينيون.
تحولات كبيرة ومريرة في الوقت ذاته حصلت على الموقف الرسمي العربي من النقيض إلى النقيض، إلا أنه بقي متمسكاً بخيط القضية الفلسطينية وملتزماً إياه.
فلسفة إسرائيل وما تريده من التطبيع
تريد إسرائيل أن تكون دولة طبيعية في المنطقة، بمعنى أنها تريد من المحيط العربي قبولها والتعامل معها على أساس من الجيرة والصداقة.
لطالما كان التطبيع شأناً أمنياً إسرائيلياً، بمعنى أنه متطلَّب لتحقيق الأمن لدولة أنشئت على مبدأ اغتصاب الحقوق وخلق العداء مع المحيط. كما بقي التطبيع دوماً شأناً يُدرَّس ويخطط له في الأروقة الأمنية قبل أن يُفوَّض لاعبون سياسيون واقتصاديون وثقافيون من أجل تحقيقه.
لكن ما يحصل اليوم أن التطبيع مع العالم العربي بات يُنفذ عبر أدوات أمنية وعسكرية فاقعة، فلو سألت مجموعة من المواطنين العرب عن أشهر شخصية إسرائيلية يعرفونها ولديهم انطباعات وتصورات عنها ستجيب الأغلبية باسم أفيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال، الذي بات يقتحم فضاءنا العام عبر التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي بأسلوبه الذي يتعمد الاستفزاز وإثارة الجدل.
التطبيع الجديد
التطبيع الجديد مختلف في بنيته وطبيعته وشريحة متعاطيه، فلم يعد رسمياً فقط، ولم يعد متعلقاً بالدول المحيطة بإسرائيل، ولم يعد مرتبطاً باشتراطات المسار الفلسطيني.
لدى “إسرائيل” أسبابها الكثيرة وراء نقل حالة التطبيع العربي إلى هذا المستوى الفج، لا سيما في ظل وجود بعض العرب المستعدين للانحدار إلى هذا المستوى. لكن يجمع هذه الأسباب أن دعاية الاحتلال تتركز اليوم على اللعب على وتر الصراعات التي تعيشها المنطقة بعد الربيع العربي.
لا سيما حالة التوحش التي تمارسها بعض الأنظمة العربية والإقليمية، فتحاول “إسرائيل” القول بأنها أكثر إنسانية وأقل خطراً من هذه الكيانات، كما تحاول تضخيم الخطر الإيراني والتركي لجلب العرب إلى أحضانها الكاذبة.
شيطنة التحرر وأنسنة الاحتلال
يميل الخطاب التطبيعي إلى التنصّل القيمي والمبدئي، وهذه توطئة للتنكّر للقدس وفلسطين، كما يجري في هذا السياق تقديم قضية فلسطين في صورة عبء لا مبرّر لمواصلة احتماله.
مع إبراز التطبيع في هيئة ساذجة تمنح انطباعاً بأنه بوابة التقدم والازدهار ومفتاح اللحاق بركب العصر، من دون مصارحة بعواقبه الفادحة التي ستدفع الشعوب والبلدان أثمانها من كرامتها وأمنها القومي وقوت أجيالها.
وفي مواجهة الوعي الشعبي اليقِظ وروح التمسك بالحقوق والعدالة والمبادئ، يحاول خطاب التطبيع الظهور أحياناً في لبوس الحكمة الواقعية “لقاء البرهان مع نتنياهو” فهو يزعم الوعي بالواقع ويدّعي المرونة في التعامل معه.
هكذا يجري تقديم التطبيع في صورة التحاق برَكب التقدم بما يفرض تصحيح الخطأ والبحث عن مصالح، أسوة بالغير من الأشقاء، مع الإيحاء بأنّ رافضي الهرولة محكوم عليهم بالعزلة والترهّل والخروج من العصر.
إذن الجديد في الخطاب التطبيعي أنه يفصل العلاقة مع إسرائيل عن المسار الفلسطيني، كأنهم يرفعون الراية البيضاء ويشيطنون الكفاح الفلسطيني، ويجري اللجوء إلى مواجهة إيران سياسياً وإلى خطاب إنساني بائس حضارياً.
أحابيل التطبيع وطرقه المكشوفة
لا يكتفي الخطاب التطبيعي بمستوى واحد أو بنبرة واحدة، فقد يأتي بأساليب اقتحامية أو هادئة، صادمة أو تدريجية، صريحة أو مستترة.
من الأسلوب الاقتحامي الصادم أو المفاجيء استقبال السلطان العماني الراحل قابوس لنتنياهو في مسقط ولقاء البرهان مع نتنياهو، فعلى الرغم من المفاجئة فإنه أسلوب له أثر نفسي كبير ودور في دعم المسار التطبيعي.
توجد أساليب فائقة النعومة تتيح تمرير المضمون التطبيعي غير الظاهر في سياق إيجابي يبدو نبيلاً، وهذا من قبيل تغليف السلوك التطبيعي بمقاصد “مبدئية” أو تعبيرات “وطنية” مثل بعض دعوات زيارة القدس تحت الاحتلال بذريعة “الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني على الأرض”، مع إغفال الأبعاد الإشكالية التي ينطوي عليها هذا التطبيق.
الأخطر من كل ذلك تبنِّي بعض الفئات الشعبية الدفاع عن التطبيع وعن سلوك الرسميين. وبالمحصلة، التطبيع اليوم خطير ومختلف ويحتاج إلى مواجهة ثقافية قبل أن تكون سياسية.
(المصدر: تر آر تي TRT عربي)