بقلم : د. محمد بن لطفي الصباغ
سُئِلَ أميرُ المؤمنين في الحديث عبدالله بن المبارَك المتوفَّى سنة 181هـ، سئل: مَن الناس؟
فقال: العلماء.
فقيل: فمَن الملوك؟
قال: الزُّهَّاد.
قيل: فمَن السَّفِلَة[1]؟
قال: الذين يأكُلون الدُّنيا بالدِّين.
فجعَل الناس الذين يستحقُّون منزلةَ الإنسانيَّة هم العلماء، وقد صدَق!
وما أروع جوابَه عن السَّفِلَة! إنَّ أسقَطَ الناس هم الذين يَبِيعون دِينهم من أجل الدُّنيا، هؤلاء هم عُلَماء السوء.
ويقول رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ العالِم لَيستغفِرُ له مَن في السَّماوات ومَن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فمَن أخَذه أخَذ بحظٍّ وافِر))؛ رواه أبو داود برقم 3641، والترمذي برقم 2682، وابن ماجه برقم 223.
ورُوِي: إذا مات العالِمُ انثَلَم في الإسلام ثُلمة لا تُسَدُّ إلى يوم القيامة.
وهذا الأثَر معناه صحيحٌ جدًّا؛ ذلك أنَّ العوامل التي اشتركَتْ في تكوين إنسانٍ – من البيئة والوضع الصحِّي والاقتصادي، والموهبة وعَوامِل الوراثة والأساتذة، وغير ذلك – يستحيلُ أنْ تتكرَّر في آخَر.
ومنزلة العالم في الإسلام منزلةٌ عالية؛ قال – تعالى -: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
وقال – سبحانه -: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9].
ويقول رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس منَّا مَن لم يجلَّ كبيرَنا، ويرحَمْ صغيرَنا، ويَعرِفْ لعالِمِنا حقَّه))؛ رواه أحمد والحاكم، “صحيح الجامع الصغير” 5443.
إذًا؛ فالمفروض في المسلم أنْ يعرف للعالم حقَّه فيُوقِّره ويرجع إليه في أمر دِينه.
إنَّ ظاهرةً منحرفةً لمستُها عند بعض الشَّباب المستَعجِلين للحُصول على المكانة والسُّمعة العلميَّة… فقد اطَّلعتُ على كلامٍ مكتوب أملاه الغرورُ والتعالُم، يتطاوَل فيه أحدُهم على أئمَّةٍ كبارٍ مُتقدِّمين، وعُلَماء أعلام مُعاصِرين أفنَوْا عمرهم في البحث والعِلم، يتسقَّط ما يعدُّه أخطاء لهم، ويشنع عليهم بها، ويسلُبهم بكلامه هذا فضلَهم الكبير، وخِدمتَهم للعلم والدِّين، يفعَلُ ذلك ليُثبِت تقدُّمه في العلم وتحصيله للمعرفة، وقد يكون هو المُخطِئ!
أقول: إذا كان هذا مُتوقَّعًا من قِبَلِ الذين لا يُقِيمون للدِّين وزنًا ومن المُسرِفين على أنفُسهم، فمن الغريب جِدًّا أنْ يظهَرَ ذلك ممَّن يدَّعون أنهم من الملتزِمين للخطِّ الإسلامي في الفِكر والسُّلوك، والجريمة تَبقَى جريمةً بغضِّ النظَر عمَّن صدرَتْ عنه، فالقائم بالعمل القبيح المحرَّم مجرم،ٌ سواء كان ممَّن عُرِفُوا بالإجرام، أو كان ممَّن يدَّعون محاربة الإجرام، فهما سَواء.
وهذا التطاوُل على العلماء السابقين والمعاصرين جريمةٌ في حَقِّ العلم؛ إذ لا بُدَّ من الاعتراف بالفضل للمتقدِّمين من العلماء الأوَّلين، وللمتميِّزين من العُلَماء المُعاصِرين.
والتطاوُل على العلماء تشكيكٌ للناس بأئمَّة الدِّين ونقَلَة الشريعة، ولا يُخفِّف من عظمة الجريمة أنْ يُغلِّف هذا المتطاوِل هُجومَه بالثناء على مَن يتطاوَل عليه؛ ليجعل ذلك مقدمة لطَعنِه، وليدَّعي أنَّه قال ما له وما عليه، وهو في الحقيقة لم يفعلْ.
وممَّا يتَّصل بهذا المعنى أنْ يعمد رجلٌ من هؤلاء الناشئين إلى مسألةٍ جزئيَّة هي محلُّ خِلافٍ بين العُلَماء، ويشنع على بعض الأئمَّة الذين يُخالِفون ما يراه، ويُؤسِفني أنْ أُقرِّر أنَّ كثيرًا من هؤلاء المغرورين يفعلون ذلك ابتغاءَ الظُّهور بمظهر العالم الذي يُخطِّئ الشافعيَّ ومالكًا، وابتغاءَ التميُّز؛ فيَنال من أئمَّة الهدى والفقه ويقول: نحن رجالٌ وهم رجالٌ.. كَبُرتْ كلمة يقولها، إنَّه مُدَّعٍ مغرورٌ بعيدٌ عن الحقيقة، وهناك مَن يفعَلُ ذلك في مجال الأدباء والشعراء، قال أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة أبي تمام: “وفي عصرنا مَن يتعصَّب له فيفرط، حتى يُفضِّله على كلِّ سالفٍ وخالفٍ، وأقوام يتعمَّدون الرَّدِيء من شِعره فينشُرونه، ويطوون محاسنَه، ويستَعمِلون القحة والمكابرة في ذلك؛ ليقول الجاهل بهم: إنهم لم يبلُغوا علمَ هذا وتميُّزه إلا بأدبٍ فاضلٍ، وعلمٍ ثاقب، وهذا ممَّا يتَكسَّب به كثيرٌ من أهل هذا الدهر، ويجعلونه وما جرى مجراه من ثَلْبِ الناس وطلب معايبهم، سببًا للترفُّع، وطلباً للرِّياسة، وليست إساءة مَن أساء في القليل وأحسن في الكثير مسقطةً إحسانَه، ولو كثُرت إساءته أيضًا ثم أحسن، لم يقلْ له عند الإحسان: أسأت، ولا عند الصواب أخطأت، والتوسُّط في كلِّ شيء أجمل، والحق أحقُّ أنْ يُتَّبعَ”[2].
والعلماء بشَر من البشَر مُعرَّضون للوُقوع في الخطأ بِحُكم بشريَّتهم، ونحن – أهلَ السنَّة والجماعة – ليس عندنا معصومٌ إلا رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيما يُبلِّغ عن ربهِّ، والمحقِّقون من أهل العلم يغتَفِرون خطأَ العالم لكثرة صَوابه، ولا يتَّبعونه إلا فيما أصاب فيه، وهو مأجورٌ فيما أخطأ به.
قال بعضُهم: العلماء سُرُجُ الأمَّة، كلُّ واحدٍ مصباحُ زمانِه يستضيء به أهلُ عصره، وقال يحيى بن مُعاذ: العلماء أرحَمُ بأمَّة محمد من آبائهم وأمَّهاتهم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأنَّ آباءهم وأمَّهاتهم يحفَظُونهم من نار الدنيا، والعلماء يحفَظُونهم من نار الآخِرة.
فلا يحقُّ لنا أنْ نبخَسَهم شيئًا من فضلهم وعِلمهم وهدايتهم.
يقول الله – تعالى – على لسان شعيب وهو يَعِظُ قومه: ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 85].
إنَّ قوم شعيب – عليه السلامُ – كانوا يُطفِّفون المكيال والميزان، وذكَر – سبحانه – أنهم لم يستجيبوا للنُّصح، بل أصرُّوا على كُفرهم وسُلوكهم الظالم، فكانت عاقبة أمرهم الخسران والعَذاب الأليم في الدنيا، ولعَذابُ الآخِرة أشدُّ لو كانوا يعلمون، يقول – تعالى -: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 91-92].
فأنت – أيُّها الإنسان – إذا ذكرتَ عالمًا فاضلاً، فتجاهلتَ فضائلَه ومحاسنَه، وقلبتَها إلى مَساوِئ، وافترَيْت عليه الكَذِبَ، أو هوَّنت من فضائله، وضخَّمت عيوبه… إنَّك إذًا من الظالمين؛ لأنَّك بخستَه حقَّه، وقد يكونُ هذا أشدَّ من تطفيف الميزان والمكيال في السلع التجارية.
إنَّ هذا المعنى يجبُ أنْ يستقرَّ في أذهاننا، إنَّ كثيرًا من الناس يبخَسون الآخَرين حُقوقهم المعنويَّة.
فلنُحاسِب أنفُسَنا، ولنكفَّ عن تتبُّع أغلاط العلماء.. والحمد لله ربِّ العالمين.
*المصدر : موقع الألوكة