بقلم د. البشير عصام المراكشي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
ما أكثر ما يروج اليومَ مصطلحُ “الحرية” عموما، و”حرية الرأي والتعبير” خصوصا، في كلام السياسيين والإعلاميين والمفكرين ..
وما أكثر ما يطالب الناس عندنا بمضمونه، ويَعِد صُناع القرار بتحقيقه في الواقع، دون أن يكون لتلك الوعود كبيرُ وجود فعلي ..
ثم ما أكثر ما تختلطُ هذه المطالب المشروعةُ في أصلها، بأفكار مستوردة من خارج المنظومة الإسلامية، فتقع المطالبة بحق ملتبس بباطل، وتغرق أصول الحق بين أمواج الأباطيل المزخرفة برنّان الشعارات!
لذلك سأقصد في هذا المقال إلى تأصيل مشروعية حرية الرأي والتعبير، ثم بيان الفرق في هذه الحرية بين النظام السياسي الإسلامي والنظام السياسي الغربي، المهيمن اليوم على العالم كله.
تمهيد في المراد بحرية الرأي والتعبير
يراد بحرية الرأي والتعبير قدرة الفرد على الاختيار بين الآراء المختلفة دون إكراه، واعتناق ما يشاء منها دون تدخل خارجي، ثم قدرته على التعبير عنها بمختلف وسائل التعبير الممكنة دون رقابة أو قيود. وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – وهو الأصل الذي يستند إليه المعاصرون في هذا المجال: “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”.
فهنالك إذن تلازم تام بين حرية الرأي وحرية التعبير، إذ ليس المقصود بحرية الرأي: عملية التفكير الباطني المجردة عن حركة التعبير ونشر الأفكار.
وتشمل حرية الرأي والتعبير مجالات مختلفة، منها على الخصوص: المجال السياسي والفكري والاعتقادي.
والذي يلائم موضوع هذه المقالات، هو حق المحكوم – أي: الفرد – في التعبير عن رأيه – في أي مجال كان – دون أن يتعرض له الحاكم – أي: السلطة السياسية – بعقاب أو تضييق أو تهديد. فلا ينحصر الرأي المقصود هنا في الجانب السياسي، بل في كل فكرة يمكن للفرد التعبير عنها، ويمكن أن يكون للسلطة السياسية فيها نظر مخالف لنظر الفرد.
أقسام الرأي في النظر الشرعي
يمكن تقسيم الرأي الذي يتبناه الإنسان، بحسب حكمه الشرعي إلى أقسام خمسة، هي أقسام الحكم التكليفي. كما يمكن اختزالها في ثلاثة أقسام:
●المشروع، وهو الواجب والمندوب.
●وغير المشروع، وهو الحرام والمكروه.
●والمباح، وهو المخيَّر فيه.
أما القسم الأول، فلا يجوز للحاكم أن يمنعه، بل عليه أن يمنع تركَه والتفريط فيه. ويدخل في هذا النوع الرأيُ السياسي المشروع، كمحاسبة العمال والحكام، وانتقاد عملهم وتقديم النصح لهم، وعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. كما تدخل الآراء الفقهية الاجتهادية، فليس للحاكم أن يحمل الفقهاء على قول واحد، أو يمنع أقوالا فقهية مخصوصة، ما دامت تدخل في دائرة المشروع.
والدليل على عدم جواز تعرض الحاكم لهذا النوع بالمنع: النصوص الدالة على فضل قول كلمة الحق، مثل قوله عليه الصلاة والسلام حين سئل: أي الجهاد أفضل؟ فقال: “كلمة حق عند سلطان جائر” (أحمد والنسائي)؛ وحديث: “ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن” (مسلم)؛ وحديث: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه” (أحمد والترمذي وأبو داود).
ويدل عليه أيضا ما جاء في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه علامة خيرية الأمة، وما جاء في فضل الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الإسلام.
ومن الدليل على ذلك أيضا فعل الصحابة. فقد ثبت في عصر الخلافة الراشدة، أن جماعة من الصحابة أنكروا وبينوا وحاسبوا، ولم يتعرض لهم الخليفة بالمنع. فعدم المنع – مع قيام المقتضي لذلك وهو مخالفة الرأي المنشور لرأي الحاكم – برهانٌ على أنهم لم يكونوا يرون جواز التعرض بالمنع للآراء المشروعة.
وأما القسم الثاني، فيندرج فيه جميع الآراء المنهي عنها شرعا، وعلى رأسها: الكفر والبدع والطعن في شعائر الله ونشر الفواحش والقذفُ والسب وما أشبه ذلك. فهذا النوع يجب على الحاكم منعه، ويدل على ذلك أمور، منها:
●وجوب النهي عن المنكر على عامة المسلمين – والحاكمُ منهم. فهو مخاطب بهذا الوجوب، بل هو أول المخاطبين به، لتوفر شرط القدرة لديه.
●فعل الصحابة وهو كثير مستفيض. من ذلك قصة تأديب عمر بن الخطاب لصبيغ بن عسل؛ ومن ذلك قول علي رضي الله عنه: “لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري”؛ ومن ذلك أن عمر قال في خطبته: “ومن يضلل فلا هادي له”، فقال نبطي: “إن الله لا يضل أحدا”، فقال عمر: “والذي نفسي بيده لئن عدت لها لأضربن الذي فيه عيناك”؛ ومن ذلك ما جاء عن الصحابة من تطبيق عقوبة المرتد، أو الدعوة إلى تطبيقها، وهو كثير.
وجاء نظير ذلك عن عمر بن عبد العزيز، قولا وفعلا؛ فقد قال عن القدرية: “أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا”، وضرب رجلا سبّ معاوية رضي الله عنه ثلاثة أسواط.
●ما تقرر في الفقه السياسي الإسلامي من أن أعظم مسؤوليات الحاكم: حفظ الدين. ولا شك أن مِن حفظ الدين منع الآراء التي تناقض الشرع، وتفسد أديان الناس. ولذلك نص الفقهاء على عدد كبير من العقوبات التي يجب على الحاكم أن يوقعها في باب الآراء المبتدعة، أو نشر الشبهات والضلالات.
وأما القسم الثالث، فالأصل فيه عدم جواز تعرض الحاكم للناس في ما يرون من الآراء المباحة. وذلك لحرمة دم المسلم وعرضه وماله، فلا يجوز التعرض له بالعقوبة بغير حجة. وعلى هذا عمل المسلمين في زمن النبوة وعصر الخلافة الراشدة.
على أن للحاكم أن يقيّد بعض المباحات، إذا كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك، وعلى هذا تأصيل الفقهاء المصنفين في السياسة الشرعية، وعليه عملُ السلطات السياسية في الغرب اليوم. إلا أن هذا التقييد، لا ينبغي أن يتحول إلى ذريعة يتخذها الحاكم لمنع الآراء المخالفة لسلطته. والسبيل إلى ذلك ألا ينفرد الحاكم بهذا القرار، بل لا يقيّد المباح لدرء الضرر العام أو مراعاة المصلحة العامة، إلا من خلال مجلس شوري يجمع أهل الاختصاص، من علماء الشريعة والمختصين في الموضوع الذي يراد تقييد المباح فيه.
وتفصيل ذلك يدور على الصيغة الشورية الإسلامية لتقييد السلطة السياسية للحاكم. ولتفصيل ذلك مقام آخر.
من سد الذرائع
بعد أن قررنا آنفا أن من واجب السلطة السياسية أن تمنع الآراء والأفكار المخالفة للشرع، فإن المتماهين مع الحضارة الغربية الحديثة يعترضون بأن تسويغ هذا المنع، يفتح الباب أمام كل منع، ويعطي الحاكم ذريعة للتضييق على ما شاء من الحريات متى شاء، بزعم أنها مخالفة للشريعة. ولن يعدم لذلك تأويلا مناسبا!
والجواب على هذا الاعتراض من أوجه:
أولها: أن من أهم ما يميز النظام السياسي الإسلامي، وجود مرجعية متجاوزة يعرف من خلالها الممنوع، ويميز عن المشروع. والخوف من عدم انضباط المنع، إنما يرد في حالة غياب هذه المرجعية العليا؛ فالناس حينئذ يرجعون إلى محض أهوائهم وتقلبات آرائهم.
والثاني: أن المخالِف حين يدعو نظريا إلى نظام سياسي لا تمنع فيه الآراء مطلقا، فهو يعلم يقينا أن ذلك غير ممكن عمليا، لغلبة شهوات النفوس على المتحكمين في السلطة. فإن قال: لدينا القدرة على تقييد الحاكم، بالضمانات والمؤسسات، فلا يمكنه التعرض للآراء بالمنع، وإلا حوسب على ذلك. فجوابنا: وكذلك ما الذي يمنع أن نضع من الضمانات والمؤسسات ما يجعل الحاكم لا يتعرض بالمنع إلا لآراء مخصوصة لمخالفتها للمرجعية الشرعية، فإن تجاوز الحد إلى ما لا يحلّ له منعه حوسب على ذلك أيضا؟
والثالث: أن الأنظمة السياسة المعاصرة لا تبيح جميع الآراء، مع تبجحها باحترام حرية الرأي والتعبير. بل ما أكثر الآراء التي يمنع نشرها في الغرب، تحت طائلة المحاسبة القانونية. غاية ما في الأمر، أن الغرب – لتخليه عن مرجعية الدين منذ زمن – لم يعد يمنع رأيا ما لاعتبار ديني. أمّا لغير الدين من الاعتبارات السياسية والفكرية والفلسفية، فالمنع عندهم وارد دون اعتراض.
الفرق بين المنظور الإسلامي والغربي
وهذا يجرنا إلى الفرق بين النظرة الإسلامية والغربية إلى حرية الرأي والتعبير. وملخص الفرق أن المرجعية الإسلامية تعدّ حفظ الدين أول المقاصد الشرعية وأعظمها. ولأجل ذلك فإن الرأي الذي يعارض هذا المقصد، معارضة صريحة لا تحتمل التأويل، هو رأي مرفوض، لا حرية في إبدائه، ولا ضير في منعه.
كما أن “الضرر” الذي ينحصر في الثقافة السياسية الغربية في الأذى المادي الذي يلحق الفرد أو مجموعة من الأفراد، يتوسع مفهومه في الإسلام فيشمل الضرر على أديان الناس وعقائدهم. فسبّ الله تعالى ضرر ديني ما بعده ضرر، وجرم ليس بعده جرم؛ أما في الثقافة العلمانية الغربية، فحرّية فردية لا ينكر على صاحبها! وشتم النبي صلى الله عليه وسلم أخطر – في نظر الفقيه المسلم – من شتم أي إنسان آخر، كائنا من كان؛ لكنه في ثقافة العصر لا يقتضي تجريما، بخلاف شتم شخص معاصر!
كما أن الإسلام حين يحرم تصرفات عملية معينة (كشرب الخمر والزنا)، فإن من الطبيعي أن يحرم الرأي الذي فيه دعوة إلى فعل هذه التصرفات. ومن التناقض تحريم السلوك، وإباحة الدعوة إليه، لا لشيء إلا لأن الأول فِعلٌ، والثاني رأي! والغربيون أنفسهم يمنعون الدعوة إلى ما هو مجرّم عندهم من الأفعال، كالقتل والسرقة والتهرب الضريبي ونحو ذلك.
فهذا ملخص الفرق بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية لقضية حرية الرأي والتعبير، وهو فرق لا بد من استحضاره عند مناقشة هذه القضية.
وإلى لقاء مقبل في موضوع آخر من موضوعات العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام.
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)