مقالات مختارة

التشظي السلفي

بقلم مبارك عامر بقنه

ليست فقط السلفية التي أصابها التشظي والانشطار والتشويه فكل الفرق الإسلامية أصابها نوع من التمزق جعلها مغايرة في بعض أو كثير من أطروحاتها لمنهجها الأساسي السابق، وهذا التغير أمر طبعي يحدث مع مسيرة الزمن لأي حركة دينية أو علمية أو إصلاحية. فالتغير أمر لا مفر منه قد دل النص النبوي على ذلك “لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه” فهذه إشارة تدل أن هناك تغير سلبي سيحدث؛ بل التغير حدث مبكراً منذ الزمن الأموي فظهر الحجاج وقتل من قتل من أهل العلم والفضل فكان ذلك بداية التغير في الفكر السياسي ثم تلاه لاحقاً التغير المفاهيمي.

والسلفية المعاصرة لا يمكن فصلها بتاتاً عن الأحداث الماضية، فهي نتيجة مرحلة زمنية عميقة جداً، مرحلة شهدت كثيراً من الصعود والهبوط، أثرت في المفهوم السلفي، فقراءة السلفية المعاصرة دون ربطها بتاريخ الأمة وما حدث فيها من صراعات فكرية وسياسية، لن يمكننا من فهم هذا التغير الحادث على السلفية المعاصرة.

وليس فقط التغير التاريخي هو الذي أثر في المفهوم السلفي؛ بل أيضا هناك مؤثرات عصرية أخرى قوية وجذرية، فهناك الواقع السياسي المعاصر، وهو واقع لم يسبقه مثيل، فالاستعمار الغربي يتدخل ليلاً ونهاراً في صناعة الفكر الإسلامي وهذا أثر بشكل عام على كل الجماعات والأحزاب الإسلامية بما فيها السلفية، وكذلك التقنيين الحديث الذي سعى في حصر الخطاب الإسلامي وتقزيمه في مواطن ضيقة لا يملك الخروج منها، مع ما تعيشه الأمة الإسلامية من حالة جهل شديدة، بالإضافة للتقسيم الداخلي العميق للسلفية حتى أصبحت سلفيات متقابلة متقاتلة، فالسلفية العلمية نقيض للسلفية الجهادية، والسلفية الجامية مفهومها يختلف عن السلفية السرورية، كل هذا أثر في المفهوم السلفي. فأصبح معنى السلفية الصحيح عائماً مطاطاً، فتجد المتخالفين يدعيان أنهما على المنهج السلفي، وهذه إحدى أسباب التمزق الداخلي للسلفية غياب معنى السلفية الصحيح. وبالتالي غياب المفهوم أدى إلى الاختلاف في الأولويات فحدث التنازع فيما بينهم، ونشأ التعصب وزاد التفرق.

وقد أدى التمزق السلفي إلى دخول السلفية في حالة تقوقع حول ذاتها وعجزت أن تجتاح العالم فكرياً، فرسالة السلفية عالمية ويجب أن تبقى عالمية وكان الأمر لها سانحاً أن تساهم في بناء منظومة فكرية عالمية وخصوصاً في هذه الفترة التي يمر فيها العالم بمرحلة غليان وهيجان في الأفكار، فالعالم يعيش مرحلة سيولة في الفكر، فنرى الغرب تارة يذهب للماضي يستنجد بموروثه ليخرج من آلامه، ثم يعود تارة للحاضر يبحث عن مخرج آخر لهذا المأزق الفكري الذي يعيشه، فلم يترك فكراً إلا وولجه حتى الإلحاد، فتبنى الإلحاد بشكل علني وأصبح للإلحاد جمهوراً كبيراً بصورة غريبة لم يشهدها الغرب من قبل، فالعالم الغربي يبحث عن منظومة فكرية متكاملة تعمل على إخراجه من حيرته.

ونحن نعلم أن التشويه العالمي المتعمد للخطاب السلفي ساهم في رفض السلفية، ولكن الأمر المحزن أن السلفية نفسها قد ساهمت في رفض العالم لها، وذلك لأسباب عدة، منها: الخطاب السلفي لا زال خطاب محلي. الخطاب السلفي لم يستطيع أن يستوعب أطيافه فكيف يستطيع استيعاب غيره. الخطاب السلفي ليس خطاباً واحداً. الخطاب السلفي تصوره للفلسفات الغربية والشرقية تصور ناقص فهو يفتقر لقراءة الفلسفات والمذاهب الفكرية بشكل عام. الخطاب السلفي يفتقر لوجود حلول كلية شاملة يعالج الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالخطاب السلفي يرتكز نحو التصور العقدي بشكل رئيسي دون اهتمام بشكل أساسي للقضايا الإنسانية الأخرى. هذه الأسباب الذاتية جعلت الخطاب السلفي بعيداً عن التأثير العالمي الإيجابي.

ولكي تخرج السلفية من الدائرة الضيقة التي تدور فيها عليها أولاً أن تؤسس لبناء طبقة مفكرة قادرة على التأسيس النظري والتحليل الفكري للفكر السلفي بداية ثم للأفكار الأخرى، فالسلفية تفتقر لوفرة من المنظرين الذين يستطيعون التحليل والتفكيك والربط وبناء النظريات وتأسيس الرؤى، وعلى هذه النخبة المنظرة من السلفية أن تهتم كثيراً بدراسة الفلسفة والمذاهب الفكرية، فنحن نعيش في عصر قائم على الفلسفات والنظريات المنطقية، فتجاهل الواقع يعني أن لا تساهم في التغيير والتصحيح وأن تقبع في إحدى الزوايا ساكناً دون تأثير. وعلى السلفية أن تعيد قراءة الفكر السلفي في التصورات وفي التعامل مع المخالف، فمن شروط الاستمرار الفعال الصحيح هو القرب الدائم من النبع الأساسي، واستمرار المراجعة الدائمة للأفكار والتصورات ومدى قربها من المنهج السلفي الصحيح.

المصدر: صيد الفوائد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى