التدين الرقمي ومشيخة التقنية!
بقلم رانية نصر
مع ظهور ثورة التكنولوجيا الرّقميّة، التي صاحبها ثورة معرفيّة وثقافيّة ضخمة؛ أصبح الإنترنت بتطبيقاته الهائلة وإمكاناته الّلامتناهية، وبخدماته التي تتميز بالسرعة والدّقة وسِعة التخزين العالية؛ جزءاً لا يتجزأ من مكون مجتمعاتنا المعاصرة، حيث بسط نفوذَه وسلطَته على جميع مناحي الحياة، فصار المرتكز الأساسي لتشكيل وعي الأفراد والمؤسسات والمجتمعات على اختلاف انتماءاتها الجغرافيّة والثقافيّة والدينيّة. وبهذا التطور غير المعهود استطاعت التّقنيات الوليدة إعادة إنتاج بُنْيَة الثقافة الدينيّة، ونَحَتْ بها منحىً مختلف عما كانت عليه في السابق، إذ صارت المعلومة الدينيّة على بُعد نقرة زر من المُستخدم، وفرضت أنماطاً جديدة من العلاقة بين الدّين وأتباعه الافتراضيين، ممّا أدّى إلى الاستغناء عن خدمات المؤسّسة الدينيّة التقليديّة والاستعاضة عنها بالّلجوء إلى العالم الافتراضي استجابةً للاحتياجات الدينيّة، وتماشياً مع إيقاع الحياة اليومية.
خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون بكيفيّة تتواسق والمشيئة الإلهية، واسْتَنَّ القوانين والقواعد والأنظمة الضّابطة لسلامة عيش هذا الإنسان، والناظمة لسلوكه مع الآخر ومع البيئة المحيطة به بما يضمن حقوق كل فرد فيها. وكان من المنطقي لسلامة سيرورة هذه الحياة؛ ابتعاث الأنبياء والرسل مُبلّغين ومُرشدين وناصحين، من خلال شرائع سماويّة يتلقّاها الرسول ويبلّغها قومه. فقد تلقى سيدنا موسى الألواح -حاضنة الوصايا العشر- من ربه عند جبل الطور، فالألواح هي “الجسم الماديّ” الناقل للرسالة السماويّة، ويقال أنها كانت مصنوعة من الحجر، وكذلك أمَرَ ربُ العزة سيدنا يحيى بأخذ الكتاب فقال: “يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ “، وقال: “ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ” و“فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ” و“وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ”.
وكل هذه المعاني تشير إلى أن كلام الله عز وجل قد حفظه الجسم المادي بالماهيّة التي أرادها سبحانه،
وقال تعالى: “ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ” و“الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ”.. فالقلمَ أيضا هو أحد الوسائل الناقلة للرسائل السماوية إضافة إلى الكتب والألواح لحفظ كلام الله ووصاياه لأنبيائه ورسله.. إذن؛ فكل هذه الوسائل؛ كانت الأدوات الفاعلة لتوثيق الكلام المُبَلّغْ من رَبِّ العزة للبشر، وبِلُغةِ العصر؛ هي الوسائل الاتصاليّة ما بين السماء والأرض لتبليغ الرسالة ونشر الدعوة. وعليه؛ من خلال ما استعرضناه من تاريخ العلاقة ما بين الدّين والآلة “المَكَنة” نستطيع القول بالفم الملآن أنّ العلاقة بينهما كانت علاقة أزلية ووثيقة توظيفية ومتلازمة، حيثُ تمّ تسخير وتذليل هذه الآلة بكافة أشكالها وأنواعها، بسيطة كانت أم معقّدة لخدمة الأديان ونشر الشرائع السماويّة.
بتطور المجتمعات سوسيولوجياً، وبمرور الزمن؛ تَطَوّرَ الإنسان وتطوّرت أفكاره وتطوّرت الآلات والمكائن والأدوات، وتسارعت عجلة التّقنية بظهور الثّورة الصناعيّة؛ التي كانت الوقود لظهور الثورة الفكريّة حيث ساهمت بشكل فاعل وعلى مدى قرون مُمتدة في نشر الدين وذُيوعه. وإذا استعرضنا تاريخ بداية الآلة الطّابعة كأحد المرتكزات المهمّة لإحداث نهضة أوروبا في العصور الوسطى؛ نجد أنّها دَأَبَتْ على تسريع عجلة النِتَاج الفكري وانتشار العلوم والثقافة والمعرفة وانتشار الدين (المسيحي)، وكذا ساعدت على ظهور الصّحوة والتيّارات الفكريّة، في حين نجد أنّ هذه الحركة الفكريّة والثورة المعلوماتيّة تباطأ ظهورها كثيراً في المشرق العربيّ لأسباب تتعلق بفقه التعامل مع المُخْتَرعْ وكل جديد!
حقيقةً؛ كان لفتوى الحاكم العثماني آنذاك -إبّان دخول الحملة الفرنسيّة- الأثر البالغ في حجب النور عن الأمّة الإسلاميّة لفترة طويلة من الزمن، حيث أفتى بعدم جواز دخول الآلة الطّابعة إلى مصر، مُتعلِلاً بِـ: “إنّ هذا رِجسٌ من عمل الشيطان” ظناً منه أنها آلة يسكنها الجنّ والشياطين أو ما شابه، حيث لم يتصور عقله البسيط ولم يستوعب إداركُه المحدود ماهيّة هذه الآلة التي تُخْرِج هذا الورق بطريقة ديناميكية باهرة! فالإنسان عدو ما يجهل.. وتكرّرت التجربة مع دخول اختراع المذياع إلى البلاد العربيّة والإسلاميّة؛ اختلف العلماء حينها على مشروعيّة قراءة القرآن عبر الإذاعة، وقد تأخر صدور الفتوى بالجواز، وكانت كل فتوى تتأخر؛ تتأخر معها مجتمعاتنا الإسلامية والعربية مئات السنين عن ركب الحضارة الغربية، فكان التّأخر بمثابة جَلْد بالسوط على ظهر جسد الأمة، وغمسها في ظلام الجهل والتخلف والتبعية -المقيتة والمُعيبة- للآخر.
من خلال هذه النماذج وأمثال تلك الفتاوى؛ التي لم تُصِبْ وجهاً من الحق ولا ضرباً من الحكمة؛ نجد كيف أن الآلة كانت عاملاً مؤثراً في تأخر نمو الوعي الثقافي والمعرفي والديني، ولو أن المُفْتِينَ أعملوا القياس قليلاً؛ لَّبَانَ لهم أن هذه التقنيات المُتمثلة في الأدوات والوسائل هي المكون الأساسي والقنوات الاتصالية الأهم في إيصال الرسالة الدينيّة منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، ولما تَجَرّأُوا على تحريم هذه الأدوات التي أخّرَتْنا مئات السنين عن الآخر! مع زيادة سرعة وتيرة التقدم التكنولوجي والتطور التقني وانفجار المعلومات وازدهار المجتمعات ودخول هذه المخترعات إلى بلاد المشرق العربي والإسلامي؛ أصبحت تمارس هذه المجتمعات ما يُسمى “بالتدين الرقمي”، وهو مصطلح حداثي ظهر بظهور من يمارس الدّعوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خلال الأدوات والتقنيات الرقميّة.
إن التّدين الرقمي، مصطلح يشير إلى دلالة معناه من خلال مفرداته، فالتّدين هو ممارسة نشر الدين وطرح المعلومات المتعلّقة بهذا الدين من خلال الأجهزة الإلكترونية والبرامج والتطبيقات التي أصبحت مُتاحة بوفرة وتجاوزت حدود المكان والزمان بتكاليف يستطيعها الجميع. فالتدين الرقمي؛ ما هو إلّا عملية اتصالية تتبلور في ممارسة نشر الدين والدّعوة من خلال الشاشات الإلكترونية ما بين مُرسل ومُستقبل ورسالة (مضمون) لإحداث تأثير مُتوقع، وعادة ما تكون عبر مقاطع سمعبصريّة أو مقالات مكتوبة أو منشورات قصيرة أو اقتباسات مجتزئة.. الخ.
وقد نحى هذا التوجه بالدّعَوِيين من علماء وأشباه علماء ومؤسسات دينيّة وشركات تجاريّة وحتى كأفراد عاديّين إلى تكريس استخدام التقنيّة والتكنولوجيا في نشر الدعوة والثقافة الشرعيّة؛ لكسب أعلى قدر من الجماهير وتحقيق نسبة مشاهدات عالية لأسباب وأهداف ربما تكون سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو شخصيّة. فكل شخص أصبح بإمكانه من خلال هذه التقنيّات الرقميّة أن يكون مُنْتِجَاً للمعلومة ومُصَدِّراً للفتاوى ومُنافِحاً عن الدّين من خلال تصوره وفهمه هو! فغدا الدين يُنظر إليه من خلال عيون هذا المُنْتِجْ، وذاك المُصَدِّر، دون رقيب ودون حارس بوابة أمين يسمح أو يمنع، حتى غدَت المعلومات تسبح في نهر من الفوضى، وأصبح لزاماً على المُسْتَقْبِل تفَحّص المعلومة والسؤال عن مصدرها والتوثق من صحتها، في ظل فضاء مفتوح غير محكوم وغير مقيد.
بالرغم من كثرة الإيجابيات للتّديّن الرقمي، وقدرته على إحداث وعي ديني حقيقي لدى عامة الناس -كانوا سابقا عاجزين عن الظفر به- إلا أن هناك سلبيات طاغية عليه، لا يمكن إغفالها، وتشخيص المرض هو أول مراحل العلاج، وأذكر هنا -على سبيل المثال لا الحصر- بعضاً من الحلول التي تساعد على تجاوز هذه السلبيات؛ ضرورة التأكد من موثوقيّة المعلومة، والتّثبت من قوة المصادر والمراجع، وعدم الانخداع بالخطابات الإعلاميّة الدعويّة والتي أصبحت منتشرة على وسائل التواصل بكثرة، وتجنب الولوج في نقاشات حواريّة من شأنها أن تتسبب في الفتنة، والابتعاد عن الصفحات التي تستغل الدين للتّرويِج للسّياسة ،وعدم إعادة نشر المعلومة الدينيّة “إلا بعد التثبت من مصداقيتها”، والابتعاد عن الصفحات المشبوهة، وعدم الانبهار بالشخصيات المشهورة الزائفة…الخ.
إذن؛ نحن أمام تحدٍ كبير وخطير؛ بين تقَبُّل كل جديد من أفكار وتقنيات ومخترعات من شأنها أن تُعْلِي من انتاجية الصناعة الدعوية ومحاولة توظيفها لخدمة الدين، وبين الغرق في فوضى المعلومات الدينيّة “مشيخة التقنية” والكم الهائل من الرسائل التي لا ترقى دائماً لدرجة المصداقية العالية. إن شُح المصادر وحداثة الموضوع؛ تُبْقِى الأسئلة المحوريّة في موضوع التديّن الرقمي مفتوحة، وتحتاج إلى إجابات دقيقة عبر معالجات موضوعيّة حثيثة؛ لمَا للموضوع من أهميّة بالغة في تغيير نمط وسلوكيات مجتمعات كاملة، وتحول ثقافات فكرية عميقة، فهل فعلاً أن التقنيّة عملت على التّقليل من قداسة المحتوى الديني والسمو الروحي به؟
وهل التّديّن الرقمي حَال دون التعمق في فهم الفلسفة الأخلاقية للإسلام؟ وهل الحصول على المعلومة الدينيّة من فقيه أو شيخ أو مسجد أو مؤسسة دينيّة تساوي في التأثير والإشباع الحصول عليها من مصادر العَالَم الافتراضي؟ وهل التّديّن الرقمي أفقد الداعية جزءا من مصداقيته وإخلاصة باستخدامه الصورة الرقمية؟.. كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير من الاستفسارات تحتاج إلى دراسات عميقة وبحوث مُكثّفة وعقد المؤتمرات الأكاديمية، واللقاءات والندوات القادرة على تشخيص الظاهرة بدقة، ورصد الإيجابيات وتعزيزها وحصر السلبيات وتحيِيدها، ووضع حلول منهجية فاعلة لكل المشاكل والصعوبات والتحديّات.
(المصدر: مدونات الجزيرة)