التحولات الاستراتيجية الهندية تجاه القضية الفلسطينية – دراسة وتأصيل
بقلم برهان أحمد الصديقي (خاص بالمنتدى)
“الرحلة” من الهجرة إلى الاحتلال:
وراء المحيط، لما ضاقت أوروبا الشرقية على سكانها اليهود مع وسعتها في نهاية القرن التاسع عشر وأحاطت بهم ظروف قاسية وأحوال مدهشة، هاجروا إلى بلدان مختلفة بحثا عن حياة آمنة، فبدأت هجرة اليهود في نطاق واسع إلى فلسطين عام ١٨٨٢م. فكلما اقتحمت المصائب حولهم هربوا من مناطقهم وهاجروا إلى الأراضي الفلسطينية ولجأوا في طولها وعرضها آمنين غانمين ولكن كانت هذه الهجرة اليهودية من الأحداث الدرامية التي غيرت الشعب اليهودي في العصر الحديث؛ لأنهم لما هاجروا إلي الأراضي الفلسطينية نهبوا ممتلكات سكانها حتي بيوتهم ومنازلهم الشخصية التي كان يسكن فيها الشعب الفلسطيني من الأزمان القديمة غصبوها وجعلوها مسكنا ومبيتا لهم كأنهم هم أصحابها الحقيقيون الذين بنوها من عرق جبينهم وكسب جهودهم، حرموا أصحاب المنازل من أراضيهم ومساكنهم والتي لم يتمكنوا من غصبها دمّروها وخرّبوها بل قاموا بكل الإجراءات الشنيعة والافعال القبيحة مع الشعب الفلسطيني. لأنهم من أول يومهم من الهجرة كانوا يتبعون خطوات الإمبراطورية البريطانية التي أينما دخلت احتلت البلد وللوصول إلى السلطة لم يترددوا أبدًا في تطبيق كل أنواع الاستبداد على شعب البلد. كما وضّحها الكاتب الشهير ششي تهرور أثناء حديثه عن قسوتهم واستبدادهم قاموا بها على الهنود في زمن احتلالها:” كان العنف والعنصرية حقيقة التجربة الاستعمارية، ولا عجب أن الشمس لم تغرب أبدًا على الإمبراطورية البريطانية لأنه حتى الإله كان لا يستطيع أن يثق بالإنجليز في الظلام” وكيف نتوقع الرحمة والرأفة من المحتلين ماتوا ما بين ١٥-٢٩ مليون هندي جوعا في المجاعات التي اتوا بها بأياديهم السوداء”[i]
فعندما بريطانيا استوطنت اليهود في أراضي فلسطين بقوتها علمتهم إستراتيجياتها الماكرة الظالمة لتحقيق السلطة فاختارها اليهود كلَها وانفذ في أراضي فلسطين وعلى شعبها فلاقت فلسطين كلها من البحر إلى النهر مأساة قتيلة وأزمات مهلكة بأياديهم السوداء حتى سار النهب والقتل والاغتصاب من الأنشطة اليومية للمحتلين في أراضي فلسطين.
وهم لم يكونوا قادرين على كل ما فعلوا وامتلكوا من دون دعم تلك البلدان المتطورة التي تزعم بأنها رائدة لقيام الجمهورية ومهتمة في مجال الحقوق الإنسانية فصدق الصحفي الشهير والكاتب السياسي “مهدي حسن” حينما قال “عندما تحدث العنصرية أو العنف في الأراضي المحتلة، خاصة عندما يحدث ذلك للفلسطينيين، يفضّل عدد كبير من الديمقراطيين المنتخبين غض البصر منها، وأسوء ما يفعل هو بأنهم يدافعون جرائمه، ويقدمون العذر له وبالطبع يوفرون التمويل له”[ii] وكما “تتلقى إسرائيل حوالي ٣ مليارات دولار في المساعدات الخارجية المباشرة كل عام، والتي تمثل ما يقرب من خمس المساعدات الأمريكية ميزانية المساعدات الخارجية. من حيث نصيب الفرد، تمنح الولايات المتحدة لكل إسرائيلي قيمة دعم مباشر بقيمة حوالي ٥٠٠ دولار في السنة.”[iii]
وكان غاندي من أبرز الناقدين مثل هذا العون المدمّر فقال في عام ١٩٤٦ “لقد أخطأ [اليهود] بشكل خطير في السعي إلى فرض أنفسهم على فلسطين بمساعدة أمريكا وبريطانيا والآن بمساعدة الإرهاب العاري”.[iv]
موقف الهند في القضية الفلسطينية قبل التطبيع مع إسرائيل:
في الواقع، إذا استغرق ٤٥ عاما للحصول على سماح سفارة الإسرائيلية في نيودلهي فذلك بسبب التضامن الهندي المبدئ مع القضية الفلسطينية لأنها تعارض الاستيطان القسري للإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية بكلمات جلية وكما قال غاندي ” كل تعاطفي مع اليهود… لكن تعاطفي لا يجعلني أعمي عن متطلبات العدالة. الصرخة من أجل الوطن القومي لليهود لا تروق لي كثيرًا…. لماذا لا يجب عليهم، مثل شعوب الأرض الأخرى، أن يجعلوا ذلك البلد وطنهم حيث ولدوا وحيث يكسبون رزقهم؟ … فلسطين ملك للعرب، بمعنى أن إنجلترا ملك للإنجليز وفرنسا ملك للفرنسيين وفرض اليهود على العرب، هو خطأ وعمل غير إنساني “.[v]
ولم تبخل الهند في تأييد وتسنيد لفلسطين أبدا. كما كان في عام ١٩٤٨ كانت الهند هي الدولة لوحيدة غير العربية من بين١٣ دولة صوتت ضد خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في الجمعية العامة التي أدت إلى تأسيس إسرائيل، وفي عام ١٩٧٥ مرة أخرى أصبحت الهند أول دولة غير عربية تعترف ب “منظمة التحرير الفلسطينية” كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، ودعتها إلى فتح مكتب في دلهي.
وفي عام ١٩٨٨ عندما أعلنت “منظمة التحرير الفلسطينية” دولة فلسطين المستقلة واختارت القدس الشرقية عاصمتها، استقبلت الهند قرارها بدون تأخيرٍ وصارت أول دولة غير عربية تعترف بـ “دولة فلسطين” بينما دعت في عام ٢٠١٢ إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل الأمم المتحدة.
وفي عام ٢٠٠٣ صوتت الهند في تأييد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد بناء إسرائيل الجدار الفاصل. وفي عام ٢٠١٥ دعمت الهند تثبيت العلم الفلسطيني في مقر الأمم المتحدة.[vi] وغيرها من خطوات أخذتها الهند لتأييد فلسطين تشهد بأن الهند دائما كانت في طليعة من يروج للقضية الفلسطينية. ولكن لماذا بدأت تحويلها الإستراتيجي في القضية الفلسطينية بعد التطبيع مع إسرائيل؟ أترغب الهند في تحسين علاقاتها مع الاثنين؟
اتخاذ تصرفات متوازنة في القضية الفلسطينية والعلاقات المزدهرة مع إسرائيل:
خلال الحرب الباردة، كانت العلاقات بين الهند والاتحاد السوفيتي (اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية) قوية في المجال العسكري، الاقتصادي، والدبلوماسي، والاستراتيجي وأثبت الاتحاد السوفيتي صداقته مع الهند في عدة قضايا واجهتها الهند في زمنه وتلقت مساعدات هامة من حليفها الصدوق- الاتحاد السوفيتي-حتى لما كانت الحرب مع الصين أو باكستان أو قضية كشمير أو قضية الجيوب الساحلية البرتغالية مثل غوا (هي اليوم ولاية الهند مجاورة مدينة ممباي) قام الاتحاد السوفيتي مع الهند. فعندما انهار الاتحاد السوفيتي بدأت الهند تبحث عن الحليف الذي يعززها في المجال الاقتصادي والعسكري وفي نفس الوقت الذي لا يتمتع بالعلاقات مع اعداءها السياسية. فاكتمل بحثها مع قيام العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
اعترفت الهند بإسرائيل في عام ١٩٥٠ولكن لم تقم بالعلاقات الدبلوماسية في ذلك الحين واستغرق قيام هذه العلاقات ٤٢ سنة، حتى في ٢٩ يناير١٩٩٢ أقام الاثنان- الهند وإسرائيل- فيها علاقات دبلوماسية كاملة، وخلال هذه السنوات، “تنامت علاقاتهما بصفقات جديدة وعلاقات قوية في العلوم والتكنولوجيا والزراعة وأما الصفقات الدفاعية فبرزت إسرائيل كالشريك الدفاعي الأكثر موثوقية للهند والهند كأكبر سوق دفاع لإسرائيل ولكن الهند لم تعترف قط بالعلاقة بشكل كامل.”[vii]
وأثناء هذه السنوات عندما فازت “التحالف الوطني الديمقراطي” بقيادة “حزب بهاراتيا جانتا” وحكمت الهند تسارعت في اتخاذ المشاريع والصفقات مع إسرائيل لأن “حزب بهاراتيا جانتا” تتعامل معها كصديقها الحميم ويفضلها على التضامن الهندي المبدئ مع القضية الفلسطينية ولكن لم تقرها ذلك قط وفي فبراير عام م[viii]. وفي أيام حكم ” التحالف التقدمي المتحد” بقيادة “المؤتمر الوطني الهندي” تزداد تصرفات متوازنة كما زار محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية التي تدير الضفة الغربية، في الأعوام ٢٠٠٥ و٢٠٠٨ و٢٠١٠ و٢٠١٢عندما كان “التحالف التقدمي المتحد في المنصب.
ولكن في عام ٢٠١٧، أصبح مودي أول رئيس وزراء الهندي يزور إسرائيل. ولم يشمل مسار رحلته رام الله، إشارةً بأن الهند “فصلت” العلاقة بين إسرائيل وفلسطين وستعامل مع كل واحد منهما على حدة. فقال نيتنياهو في استقباله ” نحن نحب الهند يا سيد مودي” مضيفًا أن إسرائيل كانت تنتظر الزيارة من فترة طويلة، ٧٠ عامًا بالضبط”.
فهذا التقدم في علاقاتهما يدل على التحول الاستراتيجي في شأن أطول صراع في العالم من حيث كونها مؤيدة لفلسطين بشكل صريحٍ على مدى العقود الأربعة الأولى إلى تصرفات متوازنة، كأنها تسعي للحفاظ على التوازن بين علاقات الهند التاريخية مع فلسطين وعلاقاتها المزدهرة مع إسرائيل. كما يتجلى في تصريحات الرئيس الهندي برنب مكهرجي عندما قال في زيارته القصيرة التي استمرت ثلاثة أيام إلى فلسطين في أكتوبر ٢٠١٥ “أن تضامن الهند مع الشعب الفلسطيني ودعمها المبدئي للقضية الفلسطينية متجذر في نضالنا من أجل الحرية”. وأضاف أن الهند كانت “دائما في طليعة الدفاع عن القضية الفلسطينية”. وعندما وصل إلى إسرائيل، أقر الرئيس دعم إسرائيل خلال الحرب وشكرها على توفير “الإمدادات الدفاعية الهامة”.[ix] فأقنع الإثنين بأن الهند تحترمه وتبقى في جانبه.
هل تؤدي تصرفاتها المتوازنة إلى تدخلها المثمر لحل الصراع أو لقيام الأمن وحقوق المواطن في المنطقة أو هي ليست مستعدة لها ولا عندها خطة واضحة في هذا المجال؟
ربما تأتي الأيام المقبلة مجيبة لهذه الأسئلة المطروحة التي لاتزال بعيدة عن أنظار المسؤولين والقائدين. ولو كان رئيس الوزراء الأول راغبا في أداء دوره يوما كما قال مخاطبة لكبار وزراءه في عام ١٩٤٨قبل سنتين من اعتراف إسرائيل كدولة ” نقترح عدم اتخاذ أي إجراء في هذا الشأن [أي الاعتراف] في الوقت الحاضر. لا تستطيع الهند أن تلعب دورًا فعالاً في هذا الصراع حاليا سواء دبلوماسياً أو غير ذلك. يمكننا فقط مشاهدة الأحداث في الوقت الحالي، الأمل على أن تأتي الفرصة عندما نستخدم نفوذنا لمصلحة السلام”. فتم قيام علاقات دبلوماسية ولكن لا يعرفه أحد، كم يطول الوقت في مشاهدتها الأحداث بدون تحقيق الفرصة الراغبة؟
وما زال كَلْم فلسطين يَثعَب دما دون أي توقف:
لا يزال يعاني الشعب الفلسطيني بالاحتلال والفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني والتطهير العرقي من يوم دخل عليهم اليهود من أوروبا الشرقية مهاجرا، وتسلط عليهم بالدعم الأمريكي والبريطاني حتى وصل الحال إلى أن الأبصار لا تدرك أين غابت فلسطين وأراضيها من خريطتها وولدت دولة إسرائيلية عليها تعترفها الأمم المتحدة والدول الأخرى من الغرب إلى الشرق ويقول رئيسها ” إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها … إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي ولهم وحدهم”![x] ونسي بأن أجداده لجؤوا في هذه الأراضي مهاجرين بعد ما ضاقت عليهم صفحة الخضراء والزرقاء. وأصبح أصحاب الأراضي الحقيقيون مجبرين على العيش بلا حقوق في أراضيهم وأراضي أباءهم وأجدادهم.
ويعتصم مساندوها بتعبيرات تخفي نياتهم في طياتهم. ونسوا بأن الدولة الجمهورية المزعومة التي يدعموها عمياء، لا تمتلك أحدا من العملية الانتخابية العادلة أو المشاركة السياسية أو الحريات المدنية ولا يبالهم بأن مؤشر الديمقراطية العالمية الصادر عن مجلة The Economist لعام 2019، يُدرج إسرائيل على أنها “ديمقراطية معيبة”[xi].
فكل هذه التصرفات والسيناريو لم تترك أمام الشعب الفلسطيني سبيلا غير المقاومة فبدؤوا الانضمام إلى حركة “حماس” وهي حافلة طافحة بالشعوب الفلسطينية المناضلة والمقاومة لمشاريع الاستبداد والاحتلال ولغارات العدوانية ولهجمات العنيفة فأصبحت حركة حماس محبة لدي شعب الفلسطينيين سواها وهذا أمر طبيعي للغاية لأن أي انسان عندما يتعب من ظلم الأقوياء يلجأ لا محالة في ظل من يحميه ويدافع عنه كما اعترفها غولدمان، رئيس “المؤتمر اليهودي العالمي” وقال “لو كنت زعيما عربيا، كنت أنا لن أصالح مع إسرائيل. هذا طبيعي: لقد أخذنا بلدهم….. نعم! نحن من إسرائيل منذ الفي عام فما شأنهم بها؟ كانت هناك معاداة للسامية في أيام النازيين، وهتلر، وأوشفيتز، لكنهم كانوا كذلك، هل هذا خطأهم؟ إنهم يرون شيئًا واحدًا فقط: لقد جئنا إلى هنا وسرقنا بلدهم. لماذا يجب أن يقبلوا ذلك؟”[xii]
فلا يناسب للهند أن تغمض عيونها من كَلْم فلسطين وأن تنسي تضامنها المبدئ مع القضية الفلسطينية حتى لو تقدمت إلى التحول الإستراتيجي في الوقت نفسه، “لا يمكن للهند تجاهل الأهمية المتزايدة لحماس في السياسة الفلسطينية. لئلا يمكن تحقيق تنمية ذات مغزى – حرب أو سلام – بدون المنظمة الفلسطينية المسلحة. وكانت تُعد منظمة “التحرير الفلسطينية” و”السلطة الوطنية الفلسطينية” من المعتدلين والأصدقاء للهند منذ عقود، ولكن حماس هي اللاعب الأكثر فاعلية اليوم في السياسة الفلسطينية وقد تغلب على جميع أصدقاء الهند”.[xiii] . وأصبحت محبة لدي شعوب الفلسطينيين.
على الجميع أن يفهم أن القضية الفلسطينية ليست ب “نداء” من أجل “حقوق الإنسان” فحسب بل كفاح حازم من أجل العدالة والكرامة والحرية. فيا للعجب! من يحرّم نفسه من مشاركة في الكفاح النبيل.
لتحميل المادة بصيغة PDF يرجى الضغط على الرابط: التحولات الاستراتيجية الهندية تجاه القضية الفلسطينية-دراسة وتأصيل
_______________________________________________________________
[i] An Era of Darkness: The British Empire in India by Shashi Tharoor
[ii] [ii] Mehdi hasan his twitter account
[iii] According to the “Greenbook,” Israel received about $3.7 billion in direct aid from the United States in 2003. Israel’s population according to the International Institute for Strategic Studies [IISS] and the CIA is 6,276,883. IISS, The Military Balance: 2005‐2006 (Oxfordshire: Routledge, 2005), p. 192; http://www.cia.gov/cia/publications/factbook/.
That averages out to $589 per Israeli. If one assumes the same population size and $3 billion in total aid, then each Israeli receives $478.
- THE ISRAEL LOBBY AND U.S. FOREIGN POLICY John J. Mearsheimer
Department of Political Science University of Chicago
[iv] [iv] Harijan, 21-7-1946
[v] Harijan on 11 November 1938
[vi] https://indianexpress.com/article/explained/palestine-israel-conflict-india-unsc-jerusalem-clashes-aqsa-7320652/
[vii] https://www.indiatoday.in/india/story/mahatma-gandhi-israelis-palestine-modis-israel-visit-1021894-2017-07-01
[viii] https://www.thehindu.com/specials/narendra-modis-israel-visit/article19203329.ece
[ix] https://indianexpress.com/article/india/how-indias-relationship-with-israel-has-been-a-diplomatic-see-saw-since-1948/
[x] https://www.aljazeera.com/opinions/2021/5/9/should-palestinians-be-mad-at-aoc
[xi] https://www.lowyinstitute.org/the-interpreter/israel-s-democracy-systemic-problem
[xii] Nahum Goldmann, The Jewish Paradox, trans. Steve Cox (NY: Grosset and Dunlap, 1978), p. 99
[xiii] Should India recognise Hamas by P R Kumaraswamy