التحدي الكبير.. تركة المستبد وإرث الطغيان
بقلم د. سعد الفقيه
قد يبدو للوهلة الأولى أن زوال المستبد يتبعه استبدال الاستبداد بالشورى، والظلم بالعدل، والفساد بالشفافية، والعنصرية بالمساواة، وكل أمر سيئ بما يقابله من أمر جيد. ويكفي ضمانا لذلك إخلاص الفريق الذي سعى للتغيير، واجتهاده في تحقيق العدل والشورى والمساواة الخ. لكن الحقيقة أعقد من ذلك بكثير، وإرث المستبد متجذر وعميق ومتشعب، وزوال المستبد لن يكون إلا الخطوة الأولى في إزالة آثار الاستبداد، فما هي حكاية تركة المستبد وإرث الطغيان؟
استبداد القضية واستبداد الامتلاك
الاستبداد سيء بكل أنواعه، لكن قد يكون المستبد صاحب مشروع وقضية حريصا على فرض برنامجه غير آبه بانتفاع شخصي، وقد يكون مستبدا من أجل ذاته وعائلته أو فريقه، دون مشروع ولا قضية، مسخرا ما تحت سلطته من بشر ومقدرات لمتعته الشخصية وعائلته وفريقه، حتى لو أدى ذلك للتفريط بالقيم والمبادئ وخيانة الوطن والشعب.
النوع الأول يحرم الشعب من العدل والشورى والحرية، لكن يعوضه بانتماء وهوية وقضية تدور حولها آلة المجتمع وعقله الجمعي، ويتفوق همّها على الانتفاع الشخصي للحاكم وحاشيته، فعلى سبيل المثال كان ستالين من أشد المستبدين بطشا لكنه لم ينتفع بشكل شخصي وكان يقيم في شقة متواضعة ولم ينتفع أحد من أهله ولا حاشيته بسلطته. وفي المقابل صنع دولة عظمى ونفوذا عالميا خطيرا من أجل مبدأ الشيوعية، ونافس أمريكا وسبقها في ميادين كثيرة وخدمهُ جزء كبير من شعبه بقناعة وحماس.
أما النوع الثاني، الذي ربما يصدق عليه وصف “الاستبداد الامتلاكي”، وهو السائد غالبا في عالمنا العربي، فهو يسخر إمكانات الدولة من أجل تمتع الحاكم وفريقه بأقصى الامتيازات، دون اعتبار للوطن ولا الهوية والانتماء، وكثير من الحكومات العربية وعلى رأسها السعودية والإمارات ومصر ليس لديها مشروع وطني ولا قضية ولا قيمة تخدمها بل الهدف هو بقاء الحاكم وفريقه وحاشيته، وتمثل بذلك نموذجا مثاليا لهذا النوع من الاستبداد الامتلاكي.
النوع الثاني أقل عمرا من الأول، لأنه يناقض مقومات بقاء السلطة بشكل بنيوي، لكنه حين يزول يخلف تركة ثقيلة على كل المستويات وفي كل المجالات. وحين يسعى المخلصون بعد زواله لنهضة البلد وتنميته بشريا وماديا يصطدمون بعقبات كثيرة تسبب بها إرث هذا المستبد، فتستمر المعركة مع التركة الثقيلة مدة طويلة بعد زواله. والمقصود هنا أوسع من مفهوم الدولة العميقة المتداول كثيرا في سياق ما بعد الثورات.
المؤسسات العسكرية والأمنية
في الاستبداد الامتلاكي يدور مفهوم الأمن حول تأمين نفوذ وسلطة ومتعة الحاكم وحاشيته على حساب الوطن، ولذا فمن الطبيعي أن تتشكل المؤسسات العسكرية والأمنية بطريقة لا تخدم البلد ولا الشعب، بل تخدم المستبد وفريقه.
والأجهزة الأمنية التي تحمي المستبد (الطوارئ، الأمن الخاص، التدخل السريع، الدرك، المباحث السياسية، أمن الدولة، الحرس الملكي الخ) تفوق في عددها وعدتها وقدرتها وتدريبها أجهزة الشرطة التي يفترض أنها تحمي الشعب عدة أضعاف. بل إن الجيش والأجهزة الموازية له مثل الحرس الوطني، التي يفترض أن تحمي الوطن من المخاطر الخارجية، تتحول إلى ردء وداعم وتكملة للجهاز الأمني، وتكاد تكون كل الجيوش العربية فيما عدا استثناءات قليلة نموذجا لهذا التوصيف.
ومع مرور الزمن يتطور الأمر من مجرد ترتيب عسكري يحمي المستبد إلى تغيير كامل لمفهوم الأمن وعقيدة الجيش، ثم يترسخ على شكل ثقافة شعبية يتقبل فيها المواطن أن حماية السلطة مقدمة على حماية الشعب. ويدل على ذلك الرضا الشعبي بحملات التفتيش والمداهمات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية من أجل الحاكم بل والتبرع بالتبليغ عن المطلوبين لأسباب سياسية.
هذه التركيبة المؤسسة والثقافة الموجهة لخدمة المستبد لن تزول بعد زواله، ولن يمكن إزالتها بالإقناع أو ببرنامج إعلامي وثقافي ودعوي، ولا يمكن التخلص منها إلا بإلغاء كامل لهذه المؤسسات وإنشاء أجهزة جديدة بكوادر جديدة ونفسية ثورية تكافئ الثقافة السابقة، وهذا ما فعله الخميني (قائد الثورة الإيرانية) حين أدرك أن إصلاح الجيش شبه مستحيل فأنشأ الحرس الثوري حتى يضمن عدم انقلاب بقايا الجيش والجهاز الأمني على الثورة.
المؤسسات المدنية والخدماتية
في موازاة الأجهزة الأمنية والعسكرية تتحول مهمة كثير من المؤسسات المدنية والخدماتية والتعليمية لخدمة الحاكم وحاشيته على حساب خدمة الشعب. تبدأ هذه الممارسة بالفرض رسميا، فيصير الاستحواذ الفوقي غير قابل للاعتراض، ويأخذ المستبد وحاشيته من البلديات والجمارك والمواصلات والاتصالات نصيب الأسد ويترك للشعب الفتات.
ومع مرور الزمن واحتكار الحاكم للإعلام والتعليم والمؤسسات الثقافية يتحول هذا الاستحواذ من فرض بالقوة إلى ثقافة عامة وقناعة شعبية بأحقية الحاكم بنصيبه الأسدي منها. وقد أجرى بعض المهتمين بهذا الأمر عملية حسابية من خلال مصادرهم المحدودة وانتهوا بنتيجة أن نصيب كل فرد من المنفذين يفوق 5000 ضعف نصيب المواطن العادي.
المؤسسات الخاصة بالمستبد
لا يقف الأمر عند المؤسسات الطبيعية في الدولة الحديثة، بل إن الاستبداد الامتلاكي ينشئ مؤسسات ضخمة واسعة النفوذ، ليس لها أي دور خدمي أو شعبي، ومهمتها خدمة الحاكم فقط ومد نفوذه، مثل الديوان الملكي ومكاتب الأمراء والشؤون الخاصة.. إلخ، التي لها من الميزانيات والكوادر ما يفوق البلديات وكثير من الأجهزة الخدمية. ومع مرور الزمن يتكيف الشعب مع هذا الواقع ويستقر في وجدانه أن هذه المؤسسات ضرورية لتسيير الدولة وشؤون الشعب.
وبعد زوال المستبد لا بد من التعامل مع كلا المنظومتين من المؤسسات، فلا يكفي إلغاء المؤسسات الخاصة بالمستبد حتى يزول إرثه، بل لا بد من مراجعة كل مؤسسات الدولة وتطهيرها من الكوادر الفاسدة، وإزالة التنظيمات واللوائح التي كانت توفر له الأفضلية. ثم بعد ذلك لا بد من حملة تقبيح لكل تصرف يحرف المؤسسات العامة عن مسارها لخدمة المتنفذين.
المنتفعون والطفيليون
من الطبيعي أن تدور المصالح تحت حكم الاستبداد الامتلاكي حول المستبد، فيتكاثر المنتفعون والطفيليون، ولا يجد المخلصون فرصة لتجسيد إخلاصهم لدين أو وطن أو قضية. هؤلاء المنتفعون لن ينحصروا في ثلة من الجهلة المحيطة بالحاكم، بل إن ثقافة الانتفاع تخترق كل شرائح المجتمع فتنتشر الطفيلية بين رجال الأعمال وشيوخ القبائل وعلماء الدين وأساتذة الجامعات حتى تكاد النخب تخلوا من الصادق الأمين. ومن العجائب أن هذا التطفل متحقق رسميا بمفهومه الظاهري وهو مجموعة من الطفيليين المحيطين بالأمير يسمونهم رسميا “أخوياء” لهم وصف وظيفي ورواتب رسمية وهم ليسوا إلا مؤنسين ومرافقين للأمير.
ومع مرور الزمن يصبح هذا الانتفاع هو الأصل ويصير الإخلاص للوطن والدين هو الاستثناء. هذه الكثرة للطفيليين والمنتفعين رخيصي الذمة وقليلي الهمة، لا يمكن علاجهم من التطفل بمجرد سقوط المستبد، بل لا بد من هزة اجتماعية وثورة نفسية تصاحب برنامج التغيير، تصنع إرهابا مضادا يجعل كل من يفكر أو يتصرف بطريقة طفيلية منبوذا في المجتمع إلى أن يتم استئصال الظاهرة.
مفاهيم تحت ظلال المستبد
حين يجعل علماء السلطة الدين مطية لتطويع الشعب، وحين يتحول التعليم إلى أداة لتربية النشئ على تعظيم المستبد وتحقير خصومه، وحين تكون مهمة الإعلام والمثقفين إثبات عصمة المستبد وتجريم المصلحين، فمن الطبيعي أن تسود المفاهيم الوضيعة التي يريدها المستبد، وتنحسر المفاهيم الراقية التي تمنع تعبيد الناس له.
هذه المفاهيم قد يكون لها أصل ثم تُزوّر، مثلما زوّر علماء السلطة مصطلحات البيعة والطاعة والخروج والفتنة، حتى صار من يحاول إعادتها لمسارها الصحيح هو المنحرف الضال. لكن المستبد، مع احتكاره للإعلام وسيطرته على التعليم وتحكمه بالنخب، قد لا يحتاج أن يحرف مفاهيم موجودة، بل ينشئ مفاهيم جديدة لا أصل لها، ثم يتشربها الناس في وجدانهم دون شعور.
ومن هذه المفاهيم أن “الجدران لها آذان” وأن “الحاكم أعرف بالمصلحة” وأن “من السياسة ترك السياسة” و”دع الخلق للخالق”. هذه الظاهرة ليست محصورة على العرب والمسلمين، بل هي موجودة في كل الثقافات، وتجربة أوروبا أيام سلطة الكنيسة كانت أسوأ من العرب والمسلمين بكثير.
وزوال المستبد لا ينزع هذه المفاهيم تلقائيا من وجدان من تشربها، بل لا بد من حملة متواصلة بجدل ساخن فوق كل المنصات الممكنة، ينهزم فيه من يروّج هذه المفاهيم هزيمة مذلة أمام الجمهور، تزيح آثارها وتغسل أدرانها من أعماق قلوب المتأثرين بها.
أخلاق الاستبداد
مع كثرة الطفيليين تتفوق العلاقات والمنافع الشخصية على المبادئ والمصلحة العامة، ومن ثم تموت الكرامة والمسؤولية وتنتعش الأنانية. إضافة لذلك فإن سطوة الأمن تجعل الوسيلة الوحيدة للسلامة هي الكذب والنفاق والغش، فتندثر الأمانة ويتلاشى الصدق. ثم تتراكم الهزيمة الأخلاقية للمجتمع بانتعاش الأنانية والنفاق، فتنحسر المروءة والنخوة والكرم والغيرة ويسود الذل وخذلان المظلوم والمحتاج.
وأخطر مقياسين لأخلاق الشعوب هي الأمانة والمسؤولية في مقابل النفاق والأنانية، وكلما سادت الأمانة والمسؤولية كلما كان المجتمع متعافيا وكلما ساد النفاق والأنانية كلما كان المجتمع مريضا.
وإذا طال أمد المستبد، فلا مفر أن يتغلب النفاق على الأمانة، وتتفوق الأنانية على المسؤولية، ثم تترسخ المشكلة وتتشعب إلى أمراض اجتماعية مزمنة متجذرة في كل طبقات الشعب.
فالنفاق والأنانية من أخطر أسباب نجاح الثورة المضادة بل ربما تكون سببا في فشل الثورة الأصلية حتى دون جهد من فلول المستبد المهزوم ودون مشروع ثورة مضادة. والوسيلة الوحيدة للإسراع في علاج هذه الأمراض هي ثورة أخلاقية تستنفر الحيل التي تعجل بعودة الأخلاق الحميدة وتغلّب المكنون من خير الناس على الشر الذي زرعه فيهم طول أمد المستبد.
الذوق والنظر والتقويم
بعد الأخلاق والمفاهيم يخترق الفساد الامتلاكي أعماق الوجدان البشري فيصل تأثيره إلى الذوق والنظر والتقويم، ويجد المستبد نفسه قادرا على السيطرة عن بعد على قلوب الشعب وتحديد الحسن والقبيح والمهم والأهم والصواب والخطأ. وتبعا لذلك يرتفع شأن المنافق الفاشل وينحط شأن المبدع الناجح، ويصبح الجاهل الأحمق رمزا عظيما والعالم المتفوق تافها لا يلتفت له أحد، ثم ينجرف الشعب إلى قضايا تافهة تصبح أولويات قصوى ويتجاهل أولوياته المبدئية والوطنية.
والاختراق يتجاوز ترميز الفاشلين والحط من الناجحين إلى تغيير مفهوم الإبداع والنجاح والرمزية سواء للأشخاص أو للقضايا والشؤون. وجملة النقاش الشعبي سواء الذي يدور في أروقة خاصة أو وسائل التواصل أو في الإعلام الرسمي يعكس مستوى مخجلا من انحطاط الذوق العام في ترميز الأشخاص والأوليات والاهتمامات، ويكفي أن تشاهد الإعلام المصري بكل نوافذه ليوم واحد لترى تجسيد هذه الظاهرة.
هذا الانحطاط في الذوق والتقويم والنظر معضلة اجتماعية لا تزول بعد زوال المستبد ولا علاج لها إلا بتغيير نمط حياة المجتمع اقتصاديا وأمنيا وعسكريا وإعلاميا وإجباره على تحمل مسؤولياته الطبيعية. والإجبار هنا ليس المقصود به الفرض بل إيجاد البيئة التي تعيد برمجة العقول إلى الذوق السليم بعد أن كان المستبد قد برمجها على هواه.
العلاقات الإقليمية والعالمية
لا يأبه المستبد الامتلاكي بوطنه ولا شعبه في علاقاته الإقليمية والعالمية، ويقيمها على أساس مصلحته الشخصية وحاشيته فقط، ومن ثم تتورط الأمة بعده بتركة من العلاقات التي أُسست ضد مصلحة الشعب والوطن.
فثوابت السياسة الخارجية في دولنا مثلا تدور على ثلاث قضايا: حماية وانتفاع المتنفذين، والدوران في فلك القوى العظمى، والتعاون مع الطغاة الآخرين في منع أي تمرد ضد الاستبداد، ويندرج تحت هذه البنود الثلاث تفاصيل خيانية مريعة. ويتبين بعد زوال المستبد أن كثيرا من العلاقات العسكرية والأمنية والاقتصادية فيها ضرر قد يصل لدرجة الخطر المباشر، بل ربما تكون تركيبتها سببا في عودة الاستبداد الامتلاكي رغم الجهد الذي بُذل لإزالته.
هذه الشبكة من العلاقات من أخطر التحديات التي تواجه فريق التغيير، والتعامل معها يحتاج مهارة دبلوماسية ودهاء سياسيا وبذل كل جهد لتفكيكها دون مجازفة. ولكن مهما كان دهاء فريق التغيير لا يمكن التعامل مع هذه المعضلة إلا بجبهة شعبية متماسكة خلف هذا الفريق وتفويض قوي للقيادة في اتخاذ القرار. ويبقى السؤال الصعب: كيف يمكن ضمان هذه الجبهة مع كل التحديات السابقة؟
الشرط الجامع
عودا على بدء، فإن تركة الاستبداد الامتلاكي ثقيلة ومتعددة المستويات والجوانب وإزالتها مهمة كأداء، ولا يمكن تنفيذ ما ذكر من وسائل في التعامل مع كل واحد من التحديات السابقة وتطهير الوطن من إرث الطغيان إلا بقيادة رشيدة، وطليعة مناضلة منضبطة، تدرك ما يجري وتعرف ما يجب عليها، وتتحرك بهمة عالية وسباق مع الزمن، حتى لا يهزمها إرث المستبد.
(المصدر: صحيفة الاستقلال الالكترونية)