مقالاتمقالات مختارة

التجديد والمجددون

التجديد والمجددون

بقلم الأستاذ قاسم السنبهلي القاسمي(*)

خلق الله الكون، وجعل الإ نسان خلیفةً في الأرض، وبعث الأنبیاء والرسل في مختلف الأزمنة  وفي جميع الرقاع والبقاع؛ ليهدوا النوع البشري إلی الإیمان، ویخرجوه من الظلمات إلی النور، فأنذروا، وذكَّروا، وبشروا إلی أن أخبر كل واحد منهم-كما تؤكد عليه الأدلة والنصوص – عن بعثة النبي الخاتم –صلى الله عليه وسلم- الذي یظهر في آخر الزمان بالرسالة العظیمة الخالدة، التي تلغي جمیع الشرائع والأدیان، وتدعو الناس كافةً إلی دین قیم، یصلح لكل زمان ومكان. ویستمر إلی أن تقوم الساعة، وتنشق الأرض، وتكون الجبال كالعهن المنفوش.

     فقد حدث ما أخبروا عند ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم في العالم بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فإنه قد بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى أتم الله نعمته، وأكمل دينه، وأكرمه بهزيمة الباطل، وغلبة الحق، وإقامة النظام الشرعي على وجه تام نموذجي، يدعو الملوك والسلاطين إلى اتباع خطواته، ويحذرهم من الخروج عن جادته ولو قيد شبر. وأخيرًا أعلن الرسول –صلى الله عليه وسلم- مرارًا وتكرارًا ختمَ النبوة، وخلود الإسلام، ودوام الشريعة والدين.

     هذا، و يشهد لنا التاريخ أن المجتمع الديني لم يستمر دائمًا على ما تركه عليه الأنبياء من رسوخ العقيدة وإخلاص العمل، وسلامة الفكر والقلوب؛ بل تأثر حينًا لآخر بتقلبات الزمن، وخضع لناموس التغير والانحراف، وانهار بما يطرأ عليه من زيغ القلوب، وخيانة التوفيق، وتعثر الأهداف، وخيبة الأعمال، وظهور المفاسد والفتن، ففي ذلك العهد القاتم يحتاج المجتمع احتياجًا أكيدًا إلى من يجدد الإيمان والعقائد، ويبعث فيه النشاط والقوة، ويكشف الغبار عن لجينه الصافي المشرق المنير. ذلك مما كان يمارسه الأنبياء قبل ظهور الإسلام عبر القرون والدهور؛ ولكن من يقوم بذلك؟ ومن يحمل هذه المسؤولية الكبرى بعد ما انقطعت الرسالة والنبوة؟ ذلك سؤال مهم، رد عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- قائلًا: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها(1).

     وهناك نقطتان، الأولى: ما أخبر عنه النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله: «على رأس كل مئة سنة» فقد ذهب المحدثون عامة إلى أن المجدد يظهر في غرة القرن أو بنهايته كما ورد في الحديث، بينما رد عليه العلماء والمشايخ الآخرون ردًا بليغًا، وقالوا: إن ذلك القيد اتفاقي لا احترازي. استعمله النبي ﷺ على سبيل الإقحام، وأراد به كل قرن فقط؛ فإن نظام العام الهجري لم يكن مشهورًا في عهد النبوة فلا يلزم أن يكون المجدد في بدايته ونهايته؛ وإنما يظهر في كل قرن، سواء كان في بدايته أم في وسطه ونهايته، فلا يخلو منه زمن إلى قيام الساعة كما صرح به النواب صديق حسن خان البوفالي(2) والشيخ محمد منظور النعماني(3).

     والنقطة الأخرى في الحديث كلمة «من» هو اسم موصول، يفيد الإطلاق من الجمع والإفراد فيحتمل أن يكون المجدد فردًا، أو طائفةً من كبار العلماء، ذهب إلى الأول بعض الأئمة، ومال إلى الآخر العباقرة الأعلام مثل الإمام الذهبي(4) والحافظ ابن حجر العسقلاني(5) والعلامة ابن كثير الدمشقي(6) قال الملا علي القاري:

     «والأظهر عندي، والله أعلم، أن المراد بمن يجدد ليس شخصًا واحدًا؛ بل المراد به جماعة، يجدد كل أحد في بلد في فن أو فنون، من العلوم الشرعية، ما تيسر له من الأمور التقريرية والتحريرية ويكون سببًا لبقائه، وعدم اندراسه وانقضائه إلى أن يأتي أمر الله»(7).

     وأما المعاصرون العاملون في حقل الدعوة والإرشاد، وإحياء الدين، وإصلاح العمل، فيعترف بهم جلهم حيث إنهم يعظمونهم ويقدِّرون نبوغهم، ويوافقون على رأيهم وموقفهم، ويقفون بجانبهم في سبيل الرد على الباطل، وإحياء ما كان عليه المسلمون في القرون المشهود لها بالخير، و لايعترف بهم البعض نظرًا للمطاعن والافتراءات التي يثيرها ضدهم أصحاب البدع والضلال، ويصبون عليهم وابلًا من اللعن والشتائم دائمًا للحيلولة دون مسيرتهم، ومنع دعوتهم؛ لكن الله – سبحانه وتعالى – يؤيدهم بروح من عنده، فيقشع الظلام، ويشرح صدور الناس، ويلهمهم حب المجددين وتقديرهم، وانقيادهم وطاعتهم في أمر الدين. فلا تزال تروج فكرتهم، ويكثر سوادهم، ويحتلون أخيرًا رئاسة الشريعة والدين بين العلماء وعامة المسلمين الذين يولعون بشخصياتهم، ويثمنون خدماتهم، ويتهافتون عليهم تهافت الظمآن على الماء والفراش على النور.

     ولو نظرنا في أغوار التاريخ لشهدنا ما أخبربه النبي –صلى الله عليه وسلم- في كل قرن من ظهور العباقرة، وحركات الإصلاح، ومساعي التزكية والتجديد، التي نشأت حينًا بعد حين لتأييد الحق ومقاومة الباطل، فما إن ظهرت الفتن واستفحلت، إلا وقد بعث الله – سبحانه وتعالى – الفحول الأفذاذ، الذين أدهشوا العالم بشخصياتهم، وزلزلوا البر والبحر بمآثرهم وبطولاتهم، وغيروا تاريخ الإسلام والمسلمين بإخلاصهم ونبوغهم، وهم – بفضل الله تعالى – في صفوف الأئمة والعلماء بعدد لا يُعَدَّ على رؤوس الأصابع، ولسنا نحن الآن بصدد تحديدهم، وتعريفهم شخصيًا، إنما نود أن نؤكد أن المجدد الأول بعد الخلافة الراشدة الكبرى هو سيدنا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-؛ فإنه وضع حقًّا بذرة الإصلاح والتجديد، التي نمت، وترعرعت شجرتها بما سقاها المجددون الآخرون عبر الزمن بجهودهم المشكورة، ودمائهم الزكية، ودموعهم المقدسة التي أفاضوها في ظلام الليل ساجدين متهجدين، وهي لاتزال تخضر وترتفع إلى أن تكون دوحةً كثيفةً باسقةً في عهد الخليفة المهدي(8) الذي يظهر كآخر المجددين ليقوم بالإصلاح والتجديد في آخر الزمن، ويحدث الثورة العظيمة الكبرى في العالم كله.

*  *  *

الهوامش:

أخرجه الإمام أبوداود في كتاب الملاحم بسند جيد، صححه العلامة السخاوي في المقاصد الحسنة، ص1490.

حجج الكرامة، ص137.

مجلة الفرقان الشهرية الخاصة بتذكرة مجدد الألف الثاني، ص18.

تاريخ الإسلام للإمام الذهبي، ج23، ص180.

فتح الباري 13/295.

البداية والنهاية 6/256.

مرقاة المفاتيح، الفصل الثاني من كتاب العلم 1/302.

كما قال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي (م1323هـ) في الكوكب الدري شرح سنن الترمذي 2/57.

*  *  *

(*)   عميد جامعة الشاه ولي الله مراد آباد، يوبي، الهند

(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى