مقالاتمقالات مختارة

التجديد الديني في عصر السيسي

التجديد الديني في عصر السيسي

بقلم معتز الخطيب

السجال الذي دار مؤخرًا في مؤتمر الأزهر عن “تجديد الفكر الإسلامي” يحكي الكثير. فمن جهة؛ هو يعكس مضمون خطاب التجديد الديني في مصر السيسي، وهو مضمونٌ يأتي متناغمًا مع المضمون الإعلامي الذي لا يفتأ يثير المشكلات في الدين كما في السياسة، ولا يحتكم إلى أي معايير مهنية أو علمية أو حتى أخلاقية. ومن جهة؛ يعكس هذا السجالُ الصراعَ الذي يدور بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، وتصور السلطة للشأن الديني.

ورغم أن كلمة رئيس جامعة القاهرة محمد عثمان الخشت تعرضت لمسائل جزئية عدة كخبر الآحاد، والظني والقطعي، والعقيدة الأشعرية، وتعددية المعنى…؛ فإن هذه جزئيات لعنوان عريض أسماه “عصرًا دينيًّا جديدًا” يقوم -في تصوره- على “تجاوز التراث” والخروج من “إحياء علوم الدين” إلى “تطوير علوم الدين”.

فعصره الديني المنشود يهدف إلى “صنع تراث جديد”؛ لأن القديم غير مقدس ويتلون “بآراء سياسية” و”أغراض مصلحية منحازة”، ولأن الإصلاحيين المعاصرين يعتمدون على “المنظومة التفسيرية التي أنتجتها ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لعصور غير عصورنا”، كما أنهم اعتبروا أن “كل الكتب القديمة هي كتب مقدسة” تمثل “المرجعية النهائية في فهم الدين”.

وهذا العصر الديني الجديد “لا يمكن أن يأتي من المؤسسات الدينية الكلاسيكية” إلا إذا غادرت تخصصها إلى ميادين معرفية أخرى. أضف إلى ذلك أن من يكتبون الخطاب الديني “لديهم عقول مغلقة تقوم على منهجية نقلية”، وهذا الخطاب التقليدي هو “نتاج لنمط الاقتصاد الرعوي”. مفردات هذا العصر الديني الجديد -بحسب الخشت- يجب أن تقوم على “تعددية المعنى وتعددية الصواب”، والتمييز بين “قطعي الدلالة وظني الدلالة”؛ لأن “علم التفسير القديم يقوم على الصواب الواحد”، و”القدماء” يقولون: “إن هناك معنى واحدًا وصحيحًا”.

“الرؤية الدينية “التجديدية” للسيسي تتطابق مع فكرة “الدولة السلطانية” الحارسة للدين، وتنعكس على مفهوم الحرية التي يشتمل إطارها المنظم على “قوانين وقواعد دينية وأخلاقية”، كما تنعكس أيضًا في إجراءات وزارة الأوقاف المصرية التي اتُّخذت بعد توليه الرئاسة، من خلال إعادة تنظيم الشأن الديني بدءًا من الخطبة والمساجد وانتهاء بالخطاب الديني نفسه ومضمونه. السيسي -ومن قبله حسني مبارك- يرون أن المؤسسة الدينية أداة من أدوات شَرْعنة خياراتهم السياسية المتقلبة. ولكن شيخ الأزهر أحمد الطيب له تصورٌ آخر للدين ودور الأزهر”

أثار هذا التصور تعليقات نقدية عدة ممن استمعوا له، وعلى رأسهم شيخ الأزهر؛ سواء لجهة غموض مفاهيم التجديد والعقل الديني لدى الخشت، أم لجهة دقة معلوماته وفهمه للمسائل العلمية التي يتحدث فيها، كتأسيس الأشاعرة لعقيدتهم على الظن وخبر الآحاد مثلاً لا حصرًا.

هذا السجال إنما هو سجال يدور في عصر السيسي ولا صلة له بالأشعري والأشاعرة، كما توهم بعض الكتاب ممن أرادوا أن يضفوا طابعًا علميًّا على خطاب سياسي، فارتكبوا مغالطات علمية وتاريخية. فالسجال ينتمي إلى سياق سياسي محدد هو الذي فرض عقد المؤتمر أصلاً، وبرعاية السيسي نفسه.

لنتذكر أن السيسي أوضح رؤيته الدينية في خطاب “تنصيب الرئاسة” الأولى، حيث أفرد فيه محورًا لما أسماه “تجديد الخطاب الديني”، شرح فيه -كما في غيره- وظيفة الدين في المجال العام، وأن الدولة التي ينادي بها هي التي تعرّف “صحيح الدين”، و”تصون منظومتنا القيمية والأخلاقية”، و”تحافظ على الصورة الحقيقية لديننا الإسلامي وتشكّل عقول ووجدان المسلمين”.

هذه الرؤية الدينية “التجديدية” للسيسي تتطابق مع فكرة “الدولة السلطانية” الحارسة للدين، وتنعكس على مفهوم الحرية التي يشتمل إطارها المنظم على “قوانين وقواعد دينية وأخلاقية”، كما تنعكس أيضًا في إجراءات وزارة الأوقاف المصرية التي اتُّخذت بعد توليه الرئاسة، من خلال إعادة تنظيم الشأن الديني بدءًا من الخطبة والمساجد وانتهاء بالخطاب الديني نفسه ومضمونه. السيسي -ومن قبله حسني مبارك- يرون أن المؤسسة الدينية أداة من أدوات شَرْعنة خياراتهم السياسية المتقلبة. ولكن شيخ الأزهر أحمد الطيب له تصورٌ آخر للدين ودور الأزهر.

لا يقدم الخشت نفسه على أنه القادر على تنفيذ رؤية السيسي الدينية فقط، بل يريد القول: إن المؤسسة الدينية التقليدية ليست غير قادرة على فعل ذلك فقط، بل يجب أن يأتي التغيير من خارج معارفها أيضًا، بأن نقوم بالقطع مع تراثها كله وتجاوزه.

تحلى الخشت بالجرأة الكافية لطرح هذه الأفكار والانتقادات في قلب الأزهر، ويشفع لها أنها تأتي في تناغم مع توجه السيسي نفسه، بل حاول الخشت أن يعطي الحاضرين درسًا بنوع من التعالم؛ وهو ما لحظه شيخ الأزهر وأشار إليه في تعليقه بوضوح، ولذلك حاول هو وغيره أن يوضحوا أن بعض معلومات الخشت الخاطئة عرفوا وجه الصواب فيها في المرحلة الثانوية في الستينيات، في حين أن الخشت أراد إثبات قِدَم توجهه التجديدي بالإحالة إلى مؤلفات كتبها في الثمانينيات والتسعينيات.

تسلم الخشت رئاسة جامعة القاهرة في 2017، ونشر كتابه “نحو تأسيس عصر ديني جديد” في السنة نفسها، ولا ندري أيهما جاء مكافأة للآخر: المنصب أم الكتاب، خصوصًا أن العلاقة بين جامعة القاهرة (الجامعة المصرية قديمًا) وجامعة الأزهر علاقة تحفّ بها تطورات ورمزيات وخلافات تاريخية في التاريخ الفكري المصري. كما لا نعلم الغرض السياسي من وراء كلمة الخشت، بل وكتابه الذي سلّم نسخة منه لشيخ الأزهر بعد كلمة الخشت مباشرة وقبل تعقيب الطيب عليه.

بهذا؛ يحاول الخشت التأسيس لشرعية تجديد السيسي في مواجهة الأزهر وشيخه، بعد أن قال: إنهم غير مؤهلين للقيام بالتجديد المطلوب (من قِبَل نظام السيسي). وموقف الخشت المشهور من التعديلات الدستورية الذي اعتُبر رشوة لطلاب جامعة القاهرة شاهد آخر على البعد السياسي لمواقفه وآرائه.

والأهم هنا أن المثال الوحيد الذي ضربه الخشت في كلمته المُجدِّدة هو مثال الطلاق الذي دارت حوله معركة كبرى بين السيسي وشيخ الأزهر، حتى قال السيسي للطيب مرة: “تَعَبتني يا فضيلة الإمام”. فالخشت يعتبر هذا المثال -الذي يبدو كما لو أنه جاء عفو الخاطر في كلمته- مثالاً على التجديد المطلوب في العصر الديني الجديد، ويخترع له نظرية قانونية اسمها (الأشكال القانونية المتوازية)، أي: كما أن التوثيق مطلوب في الزواج فيجب أن يكون كذلك في الطلاق.

“الطريف أن أحد أوجه مشروعية تجاوز التراث عند الخشت هو أنه نتاج تحيزات ومصالح سياسية، في حين أنه في سبيل مغازلة السلطة يرتكب أخطاءً علمية عديدة، بجانب مبنى كلمته المهلهل الذي دفع شيخ الأزهر إلى أن يذكّره بأنه كان عليه أن يُعِدّ كلمته جيدًا قبل أن يتحدث في موضوع كهذا، بدل أن يتكلم بخواطر مرتجلة. كذلك عاب الخشت على الخطاب الديني التقليدي أنه نقلي، ولكنه أثبت في كلمته أنه لا يحسن النقل بدقة، ليس عن التراث فقط بل وحتى عن الإصلاحيين!”

ولكن حين طولب الخشت بتقديم حجة عقلية (وليست نقلية) توضح لنا لماذا يجب علينا أن نتبع هذه النظرية القانونية دون غيرها في معالجة موضوع الطلاق؛ عجز عن ذلك واكتفى بقوله: إن هذا رأي من بين الآراء!

الطريف أن أحد أوجه مشروعية تجاوز التراث عند الخشت هو أنه نتاج تحيزات ومصالح سياسية، في حين أنه في سبيل مغازلة السلطة يرتكب أخطاءً علمية عديدة، بجانب مبنى كلمته المهلهل الذي دفع شيخ الأزهر إلى أن يذكّره بأنه كان عليه أن يُعِدّ كلمته جيدًا قبل أن يتحدث في موضوع كهذا، بدل أن يتكلم بخواطر مرتجلة. كذلك عاب الخشت على الخطاب الديني التقليدي أنه نقلي، ولكنه أثبت في كلمته أنه لا يحسن النقل بدقة، ليس عن التراث فقط بل وحتى عن الإصلاحيين!

فبخصوص التراث هناك نقاش طويلٌ ومبكر حول الطرق التي يَحصل بها العلم، وما تَثبت به العقائد، بل إن الخلاف الرئيس بين الأشاعرة وأهل الحديث (والسلفيين فيما بعد) هو اشتراط الأشاعرة إثبات العقائد بالقطع واليقين، لا بخبر الآحاد الذي يُفيد الظن، فاليقين عندهم شرط للاعتقاد والظن شرط للعمل.

وهذا بالفعل يدرسه عامة الطلاب في المعاهد والكليات، خصوصًا أن الأشاعرة يميزون بين (أصول) العقائد و(فروع) العقائد. فلا يَثبت أصلٌ من الأصول إلا باليقين، ولكن طرق حصول اليقين متعددة، أحدها التواتر اللفظي. فهناك التواتر المعنوي، والنص القرآني الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا لا غير.

كل دارسي التراث يعرفون أنه ليس ثمة كتب مقدسة في التراث، بل إن “القداسة” مصطلح مسيحي؛ فلم ينقطع تاريخيًّا الحِجَاج والردود والجدالات بين مختلف المذاهب الفقهية والكلامية، والتي انعكست في العديد من كتب العلوم المختلفة، ومنها الفقه والأصول والتفسير والكلام، وهي كتب مليئة بالحجج والحجج المضادة.

ومن المثير للاستغراب أن أحد معالم العصر الديني الجديد -الذي يريد رئيس جامعة القاهرة التأسيس له- هو التمييز بين القطعي والظني (وهي فكرة تراثية على أي حال)، ومع ذلك يزعم أن المنظومة التفسيرية تقوم على الرأي الواحد الصحيح! فهل هذا الرأي الواحد في القطعي أم في الظني عنده؟ إن قال: في القطعي لم يَعُد للقطعي معنى، وإن قال: في الظني، فإنه لم يأتِ بجديد على ما في التراث!

يعلم كل من راجع كتب التفسير حجم تعددية المعنى فيها، وهي الظاهرة التي درسها توماس باور في كتاب “ثقافة الالتباس”، وجوزيف فان أس في “علم الكلام والمجتمع الإسلامي”؛ بل إن التراث نفسه هو الذي توصل إلى شرعنةٍ لتعددية المعنى حين قال: إن الصواب يتعدد في المسائل العملية (الفقهية) بخلاف المسائل النظرية (العقائد).

ومن هنا ناقشوا -منذ القرن الثاني الهجري- مقولة: “كل مجتهد مصيب” التي أفردتها سابقا بدراسة مطولة منشورة. فمثلا؛ حكى فخر الدين الرازي في تفسير “الكوثر” أكثر من عشرة أقوال ولم يرجح بينها! فأين الرأي الواحد الصحيح؟! ثم أليس هناك مذاهب كلامية وفقهية متعددة ولا تزال متبعة في دول مختلفة؟! والإمام القرافي (ت 684هـ) المفترض أنه تراثي هو الذي يقول: إن “الجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين”.

أما بخصوص نقل الخشت المغلوط عن الإصلاحيين؛ فإن فكرة الإصلاحيين (وبالمناسبة السلفيون كذلك) قامت على فكرة العودة إلى المنابع الصافية، والقرآن أساسها؛ أي على خلاف ما زعم رئيس جامعة القاهرة! ومن قرأ تراث محمد عبده ورشيد رضا والسلفية الإصلاحية (بل والوهابية أيضًا!)؛ عَلِم جيدًا اعتمادهم على نصوص الوحي مباشرة ومرجعية النص والدليل، وموقفهم النقدي من كتب التراث والمنظومة التفسيرية خاصة!

“يريد الخشت أن يتجاوز تراث الأمة وينشئ تراثًا جديدًا بحسب قوله، وقد كتب بالفعل -في العقود الماضية- العديد من الكتب التي شكلت تراثًا شخصيًّا له وحده، دون أن تحظى بأن تكون مرجعًا للمختصين في الميادين التي كتب فيها، وهذا رزق الله يؤتيه من يشاء؛ فضلاً عن أنه يدافع عن تعددية الصواب في الدين فقط، دون أن يحدثنا عن غياب التعددية في السياسة، ويحدثنا عن أن الخطاب الديني التقليدي هو نتاج الاقتصاد الرعوي، ولا يحدثنا عن أن العصر الديني الجديد أنتجه اقتصاد “الشحاتة” و”تبرع بجنيه”!”

إن تتبع أخطاء الخشت يطول، سواءٌ في الفهم أم في النقل، وليس غرضُ هذا المقال استقصاءها، بل بيان وجه الخفة في طرحه من جهة، والغرض السياسي من هذا الطرح من جهة أخرى.

الطريف أن مسألة الإشهاد على الطلاق -وهي عندهم مثال على التجديد الديني المطلوب- يتم فيها الخلط بين مسألتين: ما يسمى “الحكم التكليفي” و”الحكم الوضعي”. فـ”الحكم التكليفي” هو الأحكام الشرعية الخمسة (الواجب والمحرم والمكروه والمستحب والمباح)، أي الذي كلف الله به عباده. و”الحكم الوضعي” يتصل بسياق تطبيق الحكم سواءٌ على المستوى الفردي أم على مستوى الدولة.

فاشتراط الإشهاد على الطلاق هو حكمٌ تكليفيٌّ عند بعض أهل العلم، ولكن هل معنى ذلك أن الطلاق لا يقع ديانةً إذا لم يُشهد عليه؟ هنا يتم الخلط؛ فالحكم التكليفي (الوجوب) لا يستلزم الحكم الوضعي (كونه شرط صحة لإيقاعه)؛ فيمكن أن يكون الإشهاد على الطلاق واجبًا شرعيًّا، ومع ذلك يقع الطلاق لأنه طلق، ويأثم لأنه أخل بواجب الإشهاد فيما لو قلنا به.

والإشكال هنا أن الرؤية الدينية للسيسي وعصره الديني الجديد تريد أن تحول الأحكام التكليفية (الديانية) إلى إلزامات قانونية بسلطة قهرية، أي أن النظام السياسي يريد التدخل حتى في الشأن الديني وقرارات الأفراد الشخصية، كما يريد أن يتحكم في الشأن الديني ويستتبع مؤسسة الأزهر لمراداته!

يريد الخشت أن يتجاوز تراث الأمة وينشئ تراثًا جديدًا بحسب قوله، وقد كتب بالفعل -في العقود الماضية- العديد من الكتب التي شكلت تراثًا شخصيًّا له وحده، دون أن تحظى بأن تكون مرجعًا للمختصين في الميادين التي كتب فيها، وهذا رزق الله يؤتيه من يشاء؛ فضلاً عن أنه يدافع عن تعددية الصواب في الدين فقط، دون أن يحدثنا عن غياب التعددية في السياسة، ويحدثنا عن أن الخطاب الديني التقليدي هو نتاج الاقتصاد الرعوي، ولا يحدثنا عن أن العصر الديني الجديد أنتجه اقتصاد “الشحاتة” و”تبرع بجنيه”!

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى