بقلم أ. عباس شريفة
بسم الله الرحمن الرحيم
التأويليّة التلفيقيّة لنظريّة وليّ الأمر
بدأت تتشكّل نظريّة وليّ الأمر في الفكر السنيّ التقليديّ مع انقضاء مرحلة الخلافة الراشدة، والانتقال إلى مرحلة الملك العضوض، وصولاً إلى الحكم الجبريّ، مستندة في تكوينها إلى منظومة استنتاجات تأويليّة من ظواهر الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، ومجموعة من المفاهيم المغلوطة، والأقوال الفقهيّة التي جاءت في سياقات استثنائيّة، ثمّ تركيب كلّ هذه الاستنتاجات والمفاهيم في بناء نظريّ على شكل خليط، وسبيكة صلبة، ليتكوّن منها أسوأ نظريّة سياسيّة عرفتها البشريّة، تحت ضغط الحاجة لتطويع النظام السياسيّ السامي مع واقع المسلمين السياسيّ الفاسد.
فيؤصّلون من خلال هذه النظريّة للوثنيّة السياسيّة، التي تصل بالحاكم الفرد إلى رتبة التألّه، ورفعه إلى مقام العصمة، وإطلاق يده في التحكّم بمصائر البشر وأموالهم ودمائهم بعبثيّة مهلكة، وتخويله الحديث باسم الله عزّ وجلّ، وممارسة الحكم بطريقة أقرب للثيوقراطيّة منها إلى حقيقة الإسلام.
نحتاج بداية إلى الوقوف مع المكوّنات والأسس المعرفيّة التي يشيد هؤلاء عليها بنيان هذه النظريّة السياسيّة المتأزّمة، ثمّ العمل على تفكيك هذه البنية التلفيقيّة كخطوة لا بدّ منها، لإزالة هذه التراكمات، التي غابت معها معالم الرشد السياسيّ، والقيم السياسيّة الكبرى، التي جاء بها الإسلام.
أوّلاً: تأويل النصوص إلى معان مرجوحة
تستند نظريّة وليّ الأمر إلى الآية الكريمة في سورة النساء:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِيّ الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ﴾. النساء
لكنّ السؤال هنا: من هم أولياء الأمر؟.
الحقيقة أنّ الآية كان يتنازع على تفسيرها بين من يريد وضع السطوة بين الحكّام، وبين من يريد أن يسلبهم هذا الأمر لصالح العلماء، ولكن غاب عن الجميع أنّ الجهة المخوّلة بإعطاء الشرعيّة لهذا الذي نسمّيه وليّاً للأمر وهم” الأمّة” كون الأمّة فيما دلّت عليها التجارب التاريخيّة السياسيّة للصحابة هي مصدر السلطة، وهذا الذي ذهبنا إليه يؤيّده كلام ابن جرير الطبريّ في تفسير هذه الآية
حيث قال “هم الأئمّة، ومن ولَّوْه المسلمين، دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضاً القبول من كلّ من أمر بترك معصية الله، ودعا إلى طاعة الله، وأنّه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى، فيما لم تقم حجّة وجوبه، إلا للأئمّة الذين ألزم الله عباده طاعتهم، فيما أمروا به رعيّتهم، ممّا هو مصلحة لعامّة الرعيّة، فإنّ على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كلّ ما لم يكن لله معصية”. [تفسير الطبريّ ج 8 / ص 503].
ثانيا: تصحيح الشرعيّة الباطلة
ثمّ يلتفّون على الشرعيّة السياسيّة للحاكم بناء على إضفاء الشرعيّة على الحكم الوراثيّ، وولاية العهد، وعلى الحكم بالتغلّب، أمّا الشورى التي أمر بها الله تعالى فهي معلومة غير ملزمة، مع أنّها الطريقة الشرعيّة الوحيدة التي نصّت عليها الأدلّة في إسناد السلطة، وتنصيب الإمام على المسلمين.
وهنا لا معنى للحديث عن طاعة وليّ أمر، قبل الحديث عن التعاقد السياسيّ الشرعيّ الذي به أخذ شرعيّته السياسيّة، وصار وليّاً للأمر، فالطاعة في علم السياسة تأتي من شرعيّة الحاكم، والشرعيّة السياسيّة عند أهل السُّنَّة منوطة بعقد البيعة عن رضا وطواعيّة.
والمتدبّر لنصوص الوحي، لا يجد نصوصاً شرعيّة تضفي الشرعيّة على حاكم من الحكّام بعينه، ولا تحدّده بالنصّ كما يعتقد الشيعة، كذلك لا شرعيّة للحكم الوراثيّ، فالسلطة في الإسلام ليست ميراثاً يورث، وسلطة المتغلّب هي افتئات على الأمّة، والنصوص متظاهرة أنّ السلطة إنّما تسند بعد مشورة وبيعة رضائيّة من الأمّة.
ثالثاً: منع ما أوجبه الله تعالى على الأمّة تجاه الحاكم.
منعوا المصلحين من الحاكم، بحجّة أنّ المناصحة يجب أن تكون سرّيّة، حتّى لا تثير الدهماء على الحاكم، وبما أنّ هؤلاء المستبدّين قد أوصدوا أبوابهم إلا أمامَ المداهنين والأبواق، فلا يمكن أن يسمعوا من نصائح السرّ إلا ما يوافق مشتهياتهم، مع أنّ رسول الله قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
لكنّ علماء السلطان الذين يحملون الناس على تقديس الحاكم وطاعته المطلقة، والذين ذهبوا بنظريّة (ولاية الأمر) مذهباً مبتدعاً، وأفتوا بعدم جواز محاسبة الحاكم، ولا مناصحته ولا عزله، ولا مجرّد الاعتراض عليه، بحجّة الفتنة وعدم استثارة العوامّ على الحاكم. [مسلم رقم 55].
رابعاً: إطلاق ما قيّده الله تعالى من حقوق الحاكم.
فجعلوا من مفهوم الطاعة لوليّ الأمر طاعة مطلقة، خصوصاً في المنكرات السياسيّة، وعدم الاعتراض بحجّة أنّ وليّ الأمر أعلم وأدرى مع قوله ﷺ «لَا طَاعَةَ في مَعْصِية اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ في الْمَعْرُوفِ» [مسلم رقم 1840] واعتبروا طاعته في ذلك من قبل درء الفتنة.
خامساً: تحويل مفهوم (أولي الأمر) من صيغة الجماعة إلى صيغة الفرد.
حرّفوا مفهوم أولي الأمر من صيغة الجماعة إلى صيغة وليّ الأمر بصيغة الفرد الحاكم، لكنّنا نفهم من الآية الكريمة ” أولي الأمر” أنّهم جماعة، وهذه الجماعة الأقرب أن تكون من تنتخبهم وتختارهم الأمّة، وذلك يفهم من قوله تعالى “منكم” وليس ” عليكم ” وتفسير ” أولي مخالف لصريح النصّ، فهو يحيل الأمر إلى جماعة، وهؤلاء يختزلون الجماعة في الفرد الحاكم المطلق، ثمّ يجعلون من يعيّنهم الحاكم بأمره هم أهل الحلّ والعقد، الممثّلين للأمّة، المطاعين في قومهم، الذين تنعقد الإمامة والبيعة بهم.
سادساً: إضفاء الشرعيّة على العقود الفاسدة بحجّة درء الفتنة.
أضفوا على الحاكم المتغلّب صبغة الحاكم الشرعيّ، الذي تنعقد له البيعة، وتجب طاعته، بحجّة أنّ السمع والطاعة واجبة.
لحديث (تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع)
والحديث إسناده مُرسل عن أبيّ سلام، حتّى ولو كان بصحيح مُسلم، فلا يصلح للاحتجاج في مسألة عظيمة كهذه.
وهناك حديث صحيح يناقضه، وهو عن أبي هريرة في صحيح مسلم: أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ ، فقال: رأيت إن جاءني رجل يريد أخذ مالي؟. قال: فلا تعطه مالك. فقال: أفرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله. قال: أرأيت إن قتلني؟. قال: فأنت شهيد.
قال: أرأيت إن قتلته؟. قال: فهو في النار. [رواه مسلم (140)].
سابعاً: جعلوا بعض الأفعال العاديّة من الصحابة أفعالاً تعبديّة تلزم الاقتداء.
فيجعلون من عدم تحديد صحابة رسول الله رضي الله عنهم مدّة ولاية الحاكم، ومن فعل الخلفاء الراشدين الأربعة دليلاً على حرمة توقيت ولايته، ويوجبون أن تكون مدى الحياة، إلا إن طرأ عارض في عقله وصحته، والحقيقة أنّ هذه المسألة هي من المصالح المرسلة، ولا نصّ فيها من تحريم أو تحليل، وإنّما هي عائدة لما يتعاقد عليها الطرفان، من شروط في عقد البيعة، فإن شاءت الأمّة حدّدت زماناً لولاية الحاكم، وإن شاءت قيّدتها خشية منه استبداداً أو جوراً.
ثامناً: تحويل المسائل السياسيّة الفقهيّة التي تقبل الاختلاف إلى قضايا من صلب العقيدة.
فيحرّمون الخروج على الحاكم مهما فسق وظلم وجار في الرعيّة وبطش، ويعتبرون من خرج عليه – ولو بسبب سياسيّ- من فرقة الخوارج، فلا يجيزون الخروج على الحاكم الظالم، إلا بشرط رؤية الكفر البواح، واستدلّوا بحديث «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، في مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» [صحيح البخاريّ رقم 7055].
قال النوويّ (وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي) شرح صحيح مسلم ج 12 / ص 229
أمّا مسألة الخروج على الحاكم عندما يفقد الشرعيّة فالحديث في هذه المسألة في غاية التعقيد، لدى من رأى وجوب الصبر على الحاكم الظالم، ومن رأى وجوب الخروج عليه، وثمّة رأي شائع يقول: إنّ هناك إجماعاً لدى جمهور العلماء على حرمة الخروج على وليّ الأمر الظالم.
ويردّ على هذا القول ابن حزم، حيث ينكر على من يقول بإجماع الأمّة على حرمة الخروج على الظالم، ويؤكّد أنّ أفاضل الصحابة وأكابر التابعين وخيار المسلمين خرجوا على الظالم، فقال: “وقد علم أنّ أفاضل الصحابة، وبقيّة الناس يوم الحرّة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأنّ ابن الزبير ومن تبعه من خِيار المسلمين خرجوا عليه أيضاً، وأنّ الحسن البصريّ وأكابر التابعين خرجوا على الحجّاج بسيوفهم أترى هؤلاء كفروا؟”.
[مراتب الإجماع ج 1 ص 178].
بل إنّ الكثير من علماء أهل السُّنَّة يحرّمون القتال تحت راية ” وليّ الأمر” الظالم ضدّ من يخرج عليه ويطالب بحقّه.
يقول ابن حجر: ” إلا أنّ الجميع يحرّمون القتال مع أئمة الجوْر، ضدّ من خرج عليهم من أهل الحقّ “. ويرون أنّ من خرج على الحاكم الظالم الذي يريد أن يسلب حقّه معذور.
[فتح الباري 12 / 286].
وفي هذا يقول ابن حجر: ” وأمّا من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله، فهو معذور، ولا يحلّ قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته “.
كما يحرّمون قتال الخوارج الذين يكفّرون المسلمين إذا خرجوا على إمام جائر،
[فتح الباريّ ج 12 /ص 301].
وقال ابن حجر: ” قال عليّ عن الخوارج: إن خالفوا إماماً عدلاً فقاتلوهم، وإن خالفوا إماماً جائراً فلا تقاتلوهم فإنّ لهم مقالاً”. [“فتح الباري/ 12/286].
الخلاصة:
إنّ مشكلة النظريّة السياسيّة التي تخترع لإضفاء الشرعيّة على واقع غير شرعيّ، تزيد من تأزيم الواقع السيّئ أكثر ممّا تسهم في حلّه، ممّا يدفع أصحاب هذه النظريّة المخترعة أن يتخرعوا لها نظريّة أخرى، لسدّ الخروق التي تظهر فيها.
ولك أن تتصوّر عن أيّ نظريّة حكم سيتمخّض عنها هذا المركّب الملفّق من المفاهيم السياسيّة المنكوسة، ومن ليّ أعناق النصوص الصريحة، حتّى يصل إلى درجة الخروج التام عن مقتضيات الشرع المنزّل، إلى الشرع المؤوّل والمبدّل لتسويغ الواقع السيّئ بدلاً من العمل على تغييره، ظنّاً منهم أنّ تسويغ هذا الواقع أقلّ كلفة من تغييره.
ومارسوا في سبيل ذلك أقصى درجات الاجتزاء والاستدلال المبتور بالنصوص معزولة عن سياقها، فأخذوا النصوص التي تتحدّث على طاعة أولي الأمر، من دون أن يجمعوا إليها النصوص الأخرى التي تتضمّن الإنكار على الحاكم في ظلمه وجوره، كقول النبيّ ﷺ: «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر».
فوقعوا في مثل ما وقع فيه الشيعة عندما ابتدعوا نظريّة الإمامة الاثنيّ عشريّة، فلمّا وصلوا إلى الإمام الثاني عشر ولم يولد تعرضت النظريّة كلّها إلى السقوط فاضطرّوا لإدخال الإمام في السرداب، وعندما استعصى عليهم تكييف نظريّة الغيبة الطويلة، اخترعوا نظريّة الوليّ الفقيه المبتدعة، لترقيع نظريّة الإمام الغائب ولسدّ الفراغ السياسيّ، وغلاة طاعة وليّ الأمر يدخلون اليوم كلّ الأمّة في السرداب، من خلال منع الأمّة من الاعتراض أو المحاسبة أو المناصحة، كأنّها أمّة من الموتى، وما عليها إلا الطاعة المطلقة العمياء غير المبصرة، وأن تساق وراء الحكّام كما تساق البهائم، وإنزال عقد البيعة منزلة عقد الوصاية والاسترقاق في التسلّط، ومنزلة عقد الزواج في التأبيد، وإنزال الحكم منزلة الملك الشخصيّ القابل للتوريث.
ذلك كلّه من أجل المحافظة على نظريّة وليّ الأمر المبتدعة، هروباً من مواجهة ما لا بدّ منه.
وهو أن يقولوا للأمّة: إنّ وليّ الأمر موظّف لديها ضمن عقد رضائيّ حرّ، وليست الأمّة مستعبدة عند الحاكم، ويتحتّم على الحاكم أن يسير فيها بالعدل والحقّ، فليست ثروات الأمّة ملكاً للحكام، وليست لهم طاعة مطلقة، إلا ما خلا من مخالفة وظلم، وأنّ من حقّ الأمّة تعيين الحاكم ومراقبته ومحاسبته وعزله عندما يلزم الأمر، وتقتضي المصلحة، فعقد الولاية لا يجعل من الحاكم وصيّاً على الأمّة، وإنّما هو أجير عندها ووكيل عنها.
(المصدر: مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام)