مقالاتمقالات مختارة

البُوطي واللّواء محمّد ناصيف.. ولعبةُ الوثائق

البُوطي واللّواء محمّد ناصيف.. ولعبةُ الوثائق

بقلم محمد خير موسى
بسببِ طبيعة شخصيّته العلميّة الأكاديميّة؛ كان الدّكتور البوطي يُعلي من شأن التوثيق، ويؤكّدُ دوماً على عدم الاعتماد على أخلاط الأخبار الموهومة المتناقلة، فلا بدّ من التثبّت والتوثّق حتّى لا نصيبَ قوماً أو شخصاً أو جماعةً بجهالة.

وخير وسلةٍ للتوثّق والتّثبّت هو الوصول والحصول على وثائق رسميّة أو سريّةً مكتوبة أو مسموعةً أو مرئيّة، وقد سمعتُ منه في أكثر من محاضرة يقول: “نحنُ أصحابُ منهجٍ علميّ، وأصحاب المنهج العلميّ لا يقبلونَ الادّعاءات دون إثباتاتٍ أو وثائق دامغة”.

ومن جهةٍ أخرى، كان الدّكتور البوطي مسكوناً بعقدة المؤامرة أسيراً لهواجسها مؤمناً بها حدّ الثّمالة، وتفسيرُه للكثيرِ من القضايا والأحداث نابعٌ من اعتقاده بأنّ القرارات تُحاكُ في الغرف السريّة المغلقة وفيها تُدبّرُ المؤامرات، فيغدو الاتّهام بالتآمر للآخرِ حاضراً لديه بناءً على وثائق قد اطّلع عليها.

والشّخص الذي تسكنه عقدة المؤامرة عادةً يسهل التّأثيرُ عليه في صياغة مواقفه وتوجيه رأيه، إذا وُجدت “الوثائق” التي يؤمن بصدقها.

ومن هذا الباب استطاع اللّواء محمّد ناصيف أن يدخل على الدّكتور البوطي الذي كان كثيراً ما يتحدّث عن وثائق سريّة اطّلع عليها، ويبني على تلكم الوثائق مواقفه، دون أن يذكر أينَ اطّلع على هذه الوثائق، أو أين هي أصلاً، وفي الحقيقة هي “وثائق” كان اللّواء محمد ناصيف يضع الكثيرَ منها بين يديه في اللقاءات الدّوريّة بينهما. ومن الطّبيعيّ أن يخبر ناصيف الدكتور البوطي أنّ جهازه الأمنيّ قد حصل على هذه الوثائق من خلال العمليّات الاستخباراتيّة المعقّدة التي يقوم بها لحماية الوطن والأمّة من أعدائه الذين يمكرون له بالليل والنّهار.

قناة الجزيرةُ “العميلة”

فور انطلاق قناة الجزيرة القطريّة، توجّس النّظام خيفةً من هذا المنبر الإعلاميّ الوليد الذي يخترق الفضاء العربيّ ويقدّم نموذجاً مختلفاً عن الإعلام “الوطني” الذي لا يجد المواطن سواه على الشّاشة، حتّى إذا بثّت قناة الجزيرة عدّة حلقات من برنامج الاتّجاه المعاكس عن سوريا وبعض البرامج عن نظام حافظ الأسد؛ بدأت دوائر النّظام الأمنيّة والإعلاميّة تتحدّث عن عمالة قناة الجزيرة الفضائيّة وخلفيّاتها الصّهيونيّة، ليخرج بعد ذلك الدّكتور البوطي ويعلن في إحدى دروسه أنّه اطّلع على وثائق سريّة تفيدُ بملكيّة أكثر من نصف القناة لرجل صهيونيّ، وأنّها قناة عميلةٌ صهيونيّة وقد أسّسها الصّهاينة لنشر الفتنة بين شعوب الأمة.

وبقي يؤكّدُ على موقفه هذا في مواقف متكررة، فقال مرّة في إحدى دروس شرح كتابه “الجهاد في الإسلام؛ كيف نفهمه وكيف نمارسه؟”:

“لماذا تستغلّ الصّهيونيّة شبكة المشاعر الدينيّة اليهوديّة من أقصى العالم إلى أقصاها لخدمة مشروعها، ثمّ تأتي أنت يا أيها المسلم تريدُ أن تحطّم الإسلام في طريقك إلى فلسطين؟

تريدُ أن تحطّم مشاعر الشبكة الإسلاميّة في طريق الأمّة الإسلاميّة إلى فلسطين؟

ومع الأسف هذا الكلام يُروّج له في أقنيةٍ جاثمةٍ في بلادنا العربيّة ولكنّها ذات هويّة يهوديّة، وأنتم تعلمون ما هي القناة التي أعنيها؛ إنّها قناة الجزيرة”.

والعجيب أنّه لم يغيّر موقفه من القناة حتّى بعد استقبال نظام الأسد؛ مذيع برنامج الاتّجاه المعاكس فيصل القاسم بحفاوة بالغة في سوريا في سنين ما قبل الثّورة.

وأذكرُ مرّةً أننّي كنت أسيرُ معه في كليّة الشريعة عام 2009م إبّان الحرب الصّهيونيّة على قطاع غزّة، فسألني عن أوضاع غزّة وأهلها تحت القصف الصّهيوني، فذكرت له بعض المشاهد المؤلمة؛ فسألني بألمٍ بالغ: أين نُشِرَت هذه المشاهد؟ فقلت له بتلقائيّة: في قناة الجزيرة؛ فانتفض وقال لي باستغراب واستنكار: “أنت تتابع قناة الجزيرة؟!! هذه قناة مشبوهة فعليك ألّا تتابعها وتحذّر النّاس منها”، فسألته: ومن أين تستقي الأخبار أنتَ أستاذنا؟ فقال: من BBC!!

وثائق مزوّرة

كثيراً ما كان الدّكتور البوطي يذكر في محاضراته ويحيلُ في كتبه ومنها كتابه “هذه مشكلاتهم” – على سبيل المثال – إلى ما يسمّيه “الوثائق الصادرة عن الهيئة اليهوديّة المعروفة بـ”النورانيين”، أو باسم “حكماء صهيون” التي تعدّ المصدر التّاريخيّ الأوّل لما يسمّى اليوم “بروتوكولات حكماء صهيون”، ويبني عليها أحكاماً قطعيّةً، ويجزم بناءً عليها بصهيونيّة جهاتٍ عديدة داخل الصّف الإسلاميّ.

غيرَ أنّ المفكر عبد الوهاب المسيري المتخصص في قضايا الصّهيونيّة يؤكّد في موسوعته الكبيرة “موسوعة اليهود واليهوديّة والصهيونيّة” على أنّ ما يعرف ببروتوكلات حكماء صهيون هو وثيقة مزوّرة وزائفة، وأنّ الإصرار على استخدامها والاعتماد عليها يخدم الصّهيونيّة نفسها.

ومع ذلك بقي الدّكتور البوطي مصرّاً على الاستناد إلى هذه البروتوكولات، واعتبارها “وثائق” يبني عليها حكمه ومواقفه التي يصدّرها عبر كتبه ومنبره.

المعارضة السّوريّة و”وثائق” اللّواء ناصيف

لم يفتأ الدّكتور البوطي يتّهم خصومة من أتباع التيّار السّلفي “الوهّابيّة” بالعمالة، فهم عنده بحسب “الوثائق” لا يتجاوزون كونهم صنيعة بريطانيّة لهدم الإسلام من داخله وتفتيت بنيان الأمّة الإسلاميّة.

ولكنّ هذه الوثائق لم تقتصر على إظهار عمالةِ خصومه الفكريين، بل أظهرت له عمالةَ خصومِ نظام الأسد، فكانَ لهم بالمرصاد عبر المنبر والخطب المبثوثة على قنوات النّظام السوريّ ودروس جامع الإيمان التي تتناقلها وسائل التّواصل الاجتماعيّ.

وبناءً على هذه الوثائق، أكّد الدّكتور البوطي أكثر من مرّة بأنّ من يقودون الثّورة السّوريّة ويوجّهونها هم حفنة من المرتزقة العملاء الذين يتقاضون أموالهم وأوامرهم من الخارج.

كذلك كانت هذه الاتّهامات لقيادات المعارضة السّياسية السوريّة، وكان أكثر الذين نالهم الاتّهام بالعمالة هو “برهان غليون”، رئيس المجلس الوطني السوري المعارض، حيث هاجمه ابتداءً بسبب خلفيّته العلمانيّة، مقررّاً مروقه من الدّين كونه علمانيا، وذلكَ في تناقضٍ صارخٍ مع وصفه بشّار الأسد بالرّئيس المؤمن، على الرّغم من أنّ الأسد يعلن على الدّوام أنّه علمانيّ ويعمل على ترسيخ العلمانيّة في الدّولة السّوريّة!!

لكنّ الدّكتور البوطي لم يقف عند انتقاد التوجّهات العلمانيّة والفكريّة للرّجل ومهاجمتها، بل أطلق على برهان غليون وصف “رجل المخابرات الأمريكيّة والموساد الصّهيونيّ”

وفي أكثر من مجلسٍ أكّد الدّكتور البوطي أنّ الوثائق – التي سينشرها في الوقت المناسب – تشير إلى أنّ الموساد الصّهيونيّ هو الذي عيّن برهان غليون رئيساً للمجلس الوطنيّ، وبناءً على ذلك فإنّ المعركة مع المعارضة السّوريّة هي معركةُ مع أحد أذرع المخابرات الأمريكيّة والموساد الصّهيوني في المنطقة.

وهكذا بقيت هذه الوثائق التي يعلن الدكتور البوطي اطلاعه الحصريّ عليها إحدى الرّكائز التي تصوغ توجهاته ومواقفه إلى آخر حياتِه.

ومع كلّ حدثٍ أو موقفٍ كان يستشهدُ فيه باطّلاعه على وثائقَ خاصّة؛ كان الدّكتور البوطي يعلنُ أنّه سينشر هذه الوثائق المهمّة في الوقت المناسب، غير أنّه رحل عن الدّنيا ولم ينشر شيئاً من تلكم الوثائق التي بقيت حبيسة صدرِه وأدراج اللّواء محمّد ناصيف.

ولكن بعد اللّواء محمّد ناصيف؛ ما هي طبيعةُ العلاقة بين الدّكتور البوطي وجماعة الإخوان المسلمين؟ وما هي مواقفه منه؟ وما هي مواقفها منه؟ وكيف تشكّل معرفة هذه العلاقة مرتكزاً رئيساً لفهم مواقفه؟

هذا ما سنبدأ الإجابة عنه – بإذن الله تعالى – في المقال القادم.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى