البيئة الحاضنة للانحراف
هل يظنّ أحدٌ أنّه في مأمن عن الانحراف بعد أن يقرأ هذا الخبر؟
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكثر من الدعاء بـ (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)، ولما سُئل عن سبب ذلك قال: (إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ)[ 1 ].
وكيف لا تأخذ الخشية مجامع قلب المؤمن وهو يقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ)[ 2 ].
فلا أحد في مأمن أن يتعرّض للابتلاء في دينه، إلّا أنّه شتّان بين من يبذل الأسباب الموجبة للثبات والحفظ والنجاة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت: 69]، ومن يفتح على قلبه ذرائع الشكوك ودوافع الشبهات {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف: 5].
وهذا يدفعنا للحديث عن السؤال المهمّ هنا: ما هذه الدوافع والذرائع التي قد تكون سببًا لهذا الانحراف؟
لا يمكن لأحد أن يختصر وقائع الانحراف عن الإسلام والمروق من تكاليفه في أسباب محدّدة، فمن طبيعة الظواهر أن تكون مؤلّفة من مجموعة أسباب مركّبة وظروف مختلفة تتكامل في تشكيل الظاهرة، غير أن ثَمَّ عاملًا محوريًّا وأساسيًا في هذه الظاهرة يتبدّى جليًا في النظر عند أي حالة من حالات الانحراف هذه، حتى لا تكاد تندُّ منها حالة، هذا العامل هو وقوع الإنسان في بيئة حاضنة للانحراف، تغذّي في نفسه دوافع الانحراف وتفتح ذرائعه وتخلخل الأصول الفكرية التي تشدّ المسلم حتى ترمي به في مهبِّ ريح الضلالات تعبث به كما تشاء.
بيئة الانحراف الحاضنة هذه تتميز بثلاث خصائص أساسية:
الخاصية الأولى: التشكيك في اليقين، والتزهيد به، وتعظيم الشكّ والتساؤل الفوضوي والبحث العبثي، بحيث يشعر الشاب باستخفافٍ من أي منهج أو كتابةٍ ذات رؤية يقينية، ويشعر أنّ اليقين ناتج عن ضعف الوارد ونقص الذكاء والفهم وقلّة الاطلاع والثقافة، بخلاف الشاكّ المتوقّد ذكاءً وفهمًا بما يجعله قادرًا على الخروج عن النسق السائد ومحاكمة الأصول اليقينية التي لا يجرؤ عموم الناس عن الاقتراب منها لجهلهم وسذاجتهم.
هو فضاء محبَّب لبعض النفوس، تشعر من خلاله بتميُّز وتفرُّد عن بقية الناس، مع أنّ حقيقة الشكّ أنّه ليس بشيء، فهو عدم معرفة، وغاية أمرهم أنّ الإنسان في بحث عن الطريق الصحيح لكنه -قطعًا- ليس على الطريق الصحيح، ولم يصل إليه، وبناءً على أصله المنهجي فلن يصل إلى اليقين أبدًا، بل سيبقى في دوامة الشكوك إلى ما لا نهاية.
فالشكّ حالة نقص يجب أن يتخلّص منها الإنسان إلى اليقين، وقبل أن يصل إلى الطمأنينة فهي مرحلة حيرة وضياع لا يُحمَد عليها الإنسان.
وتعجب حين تجد بعض الناس يكرّر أنّ الشك طريق إلى اليقين! فما أدري ما حاجة المسلم إلى الشكّ وقد وصل إلى اليقين؟ اللهم إلّا أن يكون لدى المسلم شكٌ في دينه وعدم جزم بحقيقته، فهذه قاعدة من لا يعرف اليقين ولا يجد طريقًا صحيحًا إليه، فعجبًا كيف تسرّبت إلى بعض المسلمين الموقنين!
الخاصية الثانية: تفكيك عوامل الثبات الفكرية المستقرة في نفس الشاب، فتزدحم في رأس هذا الشاب الأسئلة والإشكالات والمقولات التي تطعن في أصوله الشرعية المنضبطة، وتستهين بمنظومة براهينه العقلية والنقلية، ويتواصل دفع سيل هذه الأسئلة حتى تشقّ في قلب الشاب أودية الحيرة والاضطراب والارتباك حول تدوين القرآن، وحجّية السنة، وفهم النصوص، ومسائل الإيمان والكفر، والموقف من الصحابة… إلخ. هذه القضايا التي تقررت عند أهل السنّة وحُررَت مباحثها، وكتب في تقرير أصولها ودفع الشبهات عنها ما لا يحصر من الدراسات، فكثرة هذه الاعتراضات تضعف ثقة الشاب بها، وتوهن في قلبه الاعتزاز والاستمساك التامّ بها، والإشكالية الأكبر أنّها تغرس خنجر الحيرة في روح هذا الشاب، فلا هو الذي تمسّك بأصوله المعرفية، ولا هو الذي تبنَّى أصولًا معرفية بديلة عنها، وإنّما نجحت في خلخلتها في نفسه، فأصبح بعضهم يؤمن بها نظريًا وإن كان في الحقيقة لا يعتمد عليها كثيرًا، وهذا ما يفسّر لك أنّ كثيرًا من الشباب يقرّر هذه الأصول ثم يتبنى ما يخالفها في نفس اللحظة!
الخاصية الثالثة: الانفتاح الفوضوي، والاطّلاع العبثي على كافة الدراسات الفلسفية والفكرية التي تقوم على منظومات فكرية مختلفة، لا تعتمد على مرجعية النص الشرعي ولا تعلي من مكانة الخطاب القرآني والنبوي، من دون أن يكون لدى الشاب حصيلة كافية لمحاكمة هذه الدراسات وإدراك جذورها واكتشاف مكامن القوة والضعف فيها، فيسقط الشاب سريعًا مع أول قراءته فيها، ليس لقوّة هذه الدراسات بقدر ما هو لضعف المحلّ الذي نزلت عليه.
ويزيد الإشكاليةَ أنّ الشاب يُقبِل عليها بنفسية المعظِّم لها، الذي يعتقد بعبقرية أصحابها، وقدراتهم البحثية الهائلة، وهو ما يجعله مهيأً نفسيًا لقبول أي معلومة والتسليم لأيّ نتيجة، فهو منكسر خاضع لها أيًّا ما توجَّهَت به، ولهذا تجد وَلَعَ بعض الشباب بتكرار بعض المقولات الفلسفية الهزيلة التي لا يحسنون كثيرًا شرحها وبيانها.
كما أنّ الشاب يُقبِل عليها وقد امتلأ قلبه بأهمية الاستقلال والثقة التامة بالعقل وضرورة الشك في كل القطعيات ونحو هذه الدوافع التي تتضخم في ذاته فتجعله يستهين بنعمة اليقين التي أنعم الله بها عليه، ثم يجد نفسه بعد هذا نافرًا من قراءة القرآن وتدبُّره، مستخفًّا من الوعظ والتذكير، بعيدًا عن التضرّع والانطراح بين يدي الله، وهو ما يجعله خليقًا بالخذلان والحرمان.
وحين يقول بعض الناس: إنّ الإسلام والحقَّ قوي ببراهينه فلا يُخَاف عليه، فهو لا يفقه أنّ الإشكال ليس مع الحق ولا مع الإسلام، الإشكال مع هذا الشاب الذي قد يسقط لأنّه لم يفهم حقيقة الإسلام، وما امتلأ قلبه بالتسليم والانقياد له، ولأنّه قد وقع ضحية غشّ فكرية بتحريضه على دراسات فكرية لا يستطيع أن يحاكمها فكان دورها أن تضرب أرضية الثبات لديه فيخرج منها حائرًا لا يلوي على شيء.
هذه العوامل الثلاث: (التزهيد في اليقين، تفكيك الأصول الشرعية، الدفع نحو الانفتاح الفوضوي) هي البيئة الحقيقية للانحرافات التي تعصف ببعض الشباب، وهي بيئة حاضنة تهيئ الشاب للانحراف، وتجعل روحه محلًّا قابلًا للانحراف، وإن اختلفت جهته ومقداره.
هل معنى هذا أنّ الانفتاح والقراءة والثقافة والاطلاع بيئة حاضنة للانحراف؟
بالتأكيد لا، بل إنّ القراءة والاطلاع في الأصل مما يزيد الإنسان علمًا وعقلًا وفهمًا ويقوّي من أدواته البحثية والفكرية، وكثير من علماء الإسلام ودعاته هم من أكثر الناس اطلاعًا وقراءة على كافة العلوم.
إنّما الخلل من جهات ثلاثة:
- التركيزُ على القراءاتِ الفكريةِ والفلسفيةِ المقتصرةِ على التشكيكِ والتشغيبِ على الثوابتِ والمحْكَمَاتِ، وهي ذات فائدة يسيرة في خضمّ مفاسدها ودوامة شكوكها، وإهمالُ الفضاءِ المعرفِي الواسعِ من علوم الاقتصاد والسياسة والتربية والإدارة والقانون وبقيّة العلوم التجريبية وغيرها.
- الاطلاع الضعيف الذي يبتدئ فيه الشاب بالقراءة المباشرة لدراسات دقيقة في الفكر والفلسفة من دون أن يكون لديه أيّ مخزون معرفي يستطيع به محاكمة هذا النتاج المتخصص.
- إضعاف نفسية الشاب بتفكيك أصوله والتشكيك فيها، وتضخيم مثل هذه الدراسات وعبقرية أصحابها، وهو ما يجعله يستسلم لها سريعًا، فيأنف بعقله أن يقلّد علماء الإسلام وأئمته الكبار ليقلد -بكل ثقة واستقلال- طائفة من الحيارى التائهين.
حين تجتمع هذه الخصائص الثلاث فإنّك تكون في محضن بيئة دافعة للانحراف، أيًّا ما كانت هذه البيئة، فقد تكون قناة فضائية أو صحبة معيَّنة أو منتدىً ثقافيًا أو مدرسة أو أي شيء آخر، فهي تهزّ أصول الشاب، وتسخر من يقينه ثم ترمي به في مزالق المنظومات الفكرية المختلفة بعد أن فكّكت مرتكزاته الفكرية التي كان يعتمد عليها، ثم لا يدري أحد بعدها عند أيّ منحدرِ انحرافٍ سَيَقِفْ.
أعرف أنّ ثَمَّ من يهز شفتيه استخفافًا من أيّ حديث عاقل يتحفّظ من الانفتاح الفوضوي، بدعوى أنّه خطاب تجاوزه الزمن لأنّ الانفتاح الآن لا حدود له ولا يملك أحد أن يسيطر على قراءة الشباب. نعم إن لم يمكن لأحد أن يسيطر على قراءات الشباب فهو يملك أن يُظهِر لهم نُصحَه وشفقتَه ويعلن لهم المآلات التي تسير إليها خطواتهم، لتسـتجيب لها فئة (سيكونون هم الأكثر) ولتكون الفئة الأخرى على حيطة من أمرها قبل أن تحكى في أخبارها الذكريات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المصدر: مجلة البيان