البناء التربوي في العهد الإسلامي .. الوسائل والحِكمة النبوية
بقلم د. علي الصلابي
كان من أوائل ما نزل من القرآن الكريم في العهد المدني مقدمات سورة البقرة، التي تحدثت عن صفات أهل الإيمان، وأهل الكفر، وأهل النفاق، ثم إشارة لأهل الكتاب ـ اليهود والنَّصارى ـ وكان التركيز على بيان حقيقة اليهود، لأنهم الذين تصدَّوا للدعوة الإسلامية من أول يوم دخلت فيه المدينة، وتتضمن سورة البقرة جانباً طويلاً منها لشرح صفة اليهود، وطباعهم، والملاحظ: أن سورة البقرة ـ وهي من أوائل ما نزل في العهد المدني ـ كانت توجِّه الدعوة للناس أجمعين أن يدخلوا في دين الله، وأن يتوجهوا له بالعبادة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة، آية: 21 ـ 22).
واستمر القرآن المدنيُّ يتحدث عن عظمة الله، وحقيقة الكون، والترغيب في الجنة والترهيب من النار، ويشرِّع الأحكام لتربية الأمَّة، ودعم مقومات الدولة وكانت مسيرة الأمة العلمية تتطور مع تطور مراحل الدّعوة، وبناء المجتمع وتأسيس الدولة، وقد أشاد القرآن الكريم بالعلم، والذين يتعلمون، ورويت أحاديث عن تقدير الرّسول صلى الله عليه وسلم للعلم، وتضمنت كتب الحديث أبواباً عن العلم.
أيقنت الأمة بأن العلم من أهم مقومات نهضة الشعوب وبناء الدول ونجاح الحضارات وتربية الإنسان، وأنه من المستحيل أن يُمكِّن الله تعالى لشعب جاهل متخلف عن ركاب العلم، وإن الناظر للقرآن الكريم ليتراءى له في وضوح: أنه زاخر بالآيات التي ترفع من شان العلم، وتحث على طلبه وتحصيله، فقد جعل الله القرآن الكريم العلم مقابلاً للكفر، الذي هو الجهل، والضَّلال، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر، آية: 9).
ومن أهم هذه الوسائل والمبادئ التربوية نذكر:
تكرار الحديث وإعادته:
فذلك أسهل في حفظه، وأعون على فهمه، وأدعى لاستيعابه ووعي معانيه، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تكرار الحديث في غالب أحيانه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً؛ حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم، فسلَّم عليهم؛ سلَّم عليهم ثلاثاً.
التأني في الكلام والفصل بين الكلمات:
كان صلى الله عليه وسلم يتأنَّى ولا يستعجل في كلامه، بل يفصل بين كلمة وأخرى، حتَّى يسهل الحفظ ولا يقع التحريف والتَّغيير عند النَّقل، وبلغ من حرص النبيَّ صلى الله عليه وسلم على ذلك: أنّه كان يسهل على السامع أن يعُدَّ كلماته صلى الله عليه وسلم لو شاء، فقد روى عروة ابن الزبير ـ رحمه الله ـ أن عائشة رضي الله عنها قالت: ألا يُعجُبك أبو فلان “أبو هريرة”؟ جاء، فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه يُسمعُني ذلك، وكنت أُسبح فقام قبل أن أقضي سُبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم.
الاعتدال، وعدم الإملال:
كان صلى الله عليه وسلم يقتصد في تعليمه، في مقدارما يلقبه، وفي نوعه، وفي زمانه، حتى لا يملُّ الصحابة وحتى ينشطوا لحفظه ويسهل عليهم عقله، وفهمه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام، وكراهية السآمة علينا.
ضرب الأمثال:
للمثل أثر بالغ في إيصال المعنى إلى العقل، والقلب، ذلك: أنه يقدِّم المعنوي في صورة حسَّية، فيربطه بالواقع، ويقرِّبه إلى الذهن؛ فضلاً عن أنَّ للمثل بمختلف صوره بلاغة تأخذ بمجامع القلوب، وتستهوي العقول، وبخاصة عقول البلغاء؛ ولذلك استكثر القرآن من ضرب الأمثال، وذكر حكمة ذلك في آيات كثيرة، فقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت، آية: 43).
وقال تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر، آية: 21).
وقد أُلفت كتب متعددة عن الأمثال في الحديث النبوي.
طرح المسائل:
إن طرح السؤال من الوسائل التربوية المهمّة في ربط التواصل القوي بين السائل والمسؤول، وفتح ذهن المسؤول وتركيز اهتمامه على الإجابة، وإحداث حالة من النَّشاط الذهني الكامل؛ ولذلك استخدم النبي صلى الله عليه وسلم السؤال في صور متعددة لتعليم الصحابة؛ ممّا كان كبير الأثر في حسن فهمهم، وتمام حفظهم، فأحياناً يوجِّه النبي صلى الله عليه وسلم السؤال لمجرد الإثارة والتشويق، ولفت الانتباه، ويكون السؤال عندئذ بصيغة التنبيه “ألا” غالبا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد،وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط».
إلقاء المعاني العربية المثيرة للاهتمام، والدّاعية إلى الاستفسار، والسُّؤال:
ومن ألطف ذلك وأجمله، ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كُنَفته، فمر بجدي أسكَّ ميت فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحبُّ: أن هذا له بدرهم؟». فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟. قال: «أتحبون أنه لكم؟». قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه، لأنه أسكُّ، فكيف وهو ميت؟. فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم».
استخدام الوسائل التوضيحية:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم ما يسمى اليوم بالوسائل التوضيحية؛ لتقرير وتأكيد المعنى في نفوس وعقول السامعين، وشغل كلِّ حواسهم بالموضوع، وتركيز انتباههم فيه، ممّا يساعد على تمام وعيه، وحسن حفظه بكل ملابساته، ومن هذه الوسائل:
- التعبير بحركة اليد: كتشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، وهو يبيِّن طبيعة العلاقة بين المؤمن وأخيه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشدُّ بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه».
- التعبير بالرَّسم: فكان صلى الله عليه وسلم يخطُّ على الأرض خطوطاً توضيحية، تسترعي نظر الصحابة، ثم يأخذ في شرح مفردات ذلك التخطيط، وبيان المقصود منه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاًّ بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيماً»، ثم خط خطوطا عن يمينه، وعن شماله، ثم قال: «وهذه سُبل» ـ قال يزيد ـ متفرقة ـ «على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام، آية: 153).
- التعليم العملي بفعل الشيء أمام الناس، كما فعل عندما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر، فصلَّى بحيث يراه الناس أجمعون، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله قام على المنبر، فاستقبل القبلة، وكبّر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثمَّ رفع رأسه، ثم رجع القهقرى، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع، القهقرى، حتى سجد بالأرض، فلمّا فرغ؛ أقبل على الناس فقال: «أيها الناس؛ إنما صنعت هذا لتأتمَّوا بي ولتعلُّموا صلاتي».
استعمال العبارة اللطيفة والرَّقيقة:
إن استعمال لطيف الخطاب، ورقيق العبارات يؤلف القلوب ويستميلها إلى الحق، ويدفع المستمعين إلى الوعي والحفظ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمهِّد لكلامه وتوجيهه بعبارة لطيفة رقيقة، وبخاصّة إذا كان بصدد تعليمهم ما قد يُستحيا من ذكره، كما فعل عند تعليمهم آداب الجلوس لقضاء الحاجة؛ إذ قدّم لذلك بأنه مثل الوالد للمؤمنين، يُعلِّمهم، شفقة بهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعَلمِّكم، فإذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه».
لقد راعى المعلّم الأوَّل صلى الله عليه وسلم جملة من المبادئ التربوية الكريمة، كانت غاية في السمو الخلقي والكمال العقلي، وذلك في تعليقه على ما صدر من بعض الصحابة، جعلت التوجيه يستقرُّ في قلوبهم، وبقي ماثلاً أمام بصائرهم؛ لما ارتبط به من معانٍ تربوية كريمة وهذه بعض المبادئ الرفيعة التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم.
شجيع المحسن والثناء عليه:
ليزداد نشاطاً وإقبالاً على العلم والعمل، مثلما فعل مع أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ حين أثنى على قراءته وحُسن صوته بالقرآن الكريم، فعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داوود».
الإشفاق على المخطئ وعدم تعنيفه:
وكان صلوات الله وسلامه عليه يقدِّر ظروف الناس، ويراعي أحوالهم، ويعذرهم بجهلهم ويتلطَّف في تصحيح أخطائهم، ويترفق في تعليمهم الصَّواب، ولا شك أن ذلك يملأ قلب المنصوح حبًّا للرسالة، وصحابها وحرصاً على حفظ الواقعة والتوجيه وتبليغها، كما يجعل قلوب الحاضرين المعجبة بهذا التصرف والتوجيه الرّقيق مهيَّأة لحفظ الواقعة بملابساتها كافة، ومن ذلك ما رواه معاوية بن الحكم السُّلميُّ رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمُك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واُثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصُمتونني، لكنِّي سكنت، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمّي ما رأيت معلَّما قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «إن هذه الصَّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن».
الغضب والتعنيف؛ متى كان لذلك دواعٍ مهمة:
ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم من تطويل بعض أصحابه الصَّلاة، وهم أئمة بعد أن كان صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك؛ لما فيه تعسير ومشقة، ولما يؤدِّي إليه من فتنة لبعض الضعفاء والمعذورين، وذوي الأشغال، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال رجل: يا رسول الله لا أكاد أُدرك الصّلاة ممّا يطول بنا فلان؛ فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً من يومئذ فقال: «أيها الناس، إنكم مُنفِّرون، فمن صلى بالناس فليُخفِّف فإن فيهم المريض، والضعيف، وذا الحاجة».
ولم يكن غضب النبيِّ صلى الله عليه وسلم في تلك المواقف إلا عملاً توجيهياً، وتعليمياً؛ تحريضاً للصحابة على التيقظ وتحذيراً لهم من الوقوع في هذه الأخطاء، فالواعظ من شأنه أن يكون في صورة الغضبان، لأنَّ مقامه يقتضي تكلف الانزعاج، لأنه في صورة المنذر، وكذا المعلم إذا أنكر على من يتعلم منه سوء فهم ونحوه، لأنه قد يكون أدعى للقبول منه، وليس ذلك لازماً في حق كل أحد، بل يختلف باختلاف أحوال المتعلمين.
(المصدر: مدونات الجزيرة)