مقالاتمقالات مختارة

البعد الديني للحرب الأمريكية على العراق

البعد الديني للحرب الأمريكية على العراق

بقلم أحمد الجنابي

سال حبر كثير في تحليل تلك الحرب وأهدافها، وما السبب الحقيقي لتجميع تلك الجيوش الجرارة وإنفاق الولايات المتحدة وحدها 757 مليار دولار، فضلاً عن فوائد القروض ومصاريف الدعم اللوجيستي. وقد تركزت معظم الآراء حول الأهداف المعلنة مثل دعم حكومة صدام حسين لـ”القاعدة”، وامتلاكها أسلحة دمار شامل، في حين ذهب البعض إلى اعتقاد أن بحيرة النفط التي يعوم عليها العراق هي التي جرّت عليه ويلات الغزو.

لم يأخذ البعد الديني للحرب حقه من التحليل وتسليط الضوء، ربما لأن الغرب زرع في عقولنا ووجداننا أنه علماني، وهو تصور خاطئ؛ فالغرب أخرج الدين من الحياة والتعاملات اليومية فقط، أما استراتيجياً فالدين هو عماد التخطيط وجوهر الأهداف المرسومة، خاصة في الولايات المتحدة.

يتمتع اليمين النصراني في الولايات المتحدة بنفوذ شبه مطلق ويمثله الحزب الجمهوري اليميني، وإذا أخذنا في الاعتبار أن تأسيس إسرائيل قوية في فلسطين هو عماد عقيدة هذه الطائفة، فسيكون من السهل علينا تفسير الدعم المطلق الذي تتمتع به الدولة العبرية في الأوساط الدينية المتشددة بالولايات المتحدة.

فعكس طوائف مسيحية أخرى، تعتقد هذه الطائفة -خاصةً الإنجيليين منهم- أن اليهود لم يقتلوا المسيح، بل كانوا مجرد أدوات استخدمها الله لتنفيذ سيناريو عودة المسيح -الذي يعتقدون أنه ابن الله- لأبيه في السماوات، وأنه لن يُبعث ثانية إلا إذا تأسست دولة يهودية قوية قادرة يعيش عليها كل يهود العالم بسلام، وعلى هذا الأساس فقد سخرت هذه الطائفة المتنفذة كل إمكاناتها في القرنين الماضيين لتحقيق ذلك المعتقد.

إن ذلك البعد الديني هو ما يفسر عدم سعي الولايات المتحدة إلى تعويض خسائرها المادية في العراق، فالحملة تعتبر جهداً دينياً مقدساً، وقد نجحت الدوائر الدينية النافذة وبمساعدة اللوبي الإسرائيلي القوي في طمس ذلك، وما زال معظم الأمريكيين يعتقدون أن الحرب على العراق شُنت لإزالة صدام حسين “الحاكم المستبد”، وأن عدم وجود أسلحة دمار كان مجرد خطأ.

أما الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الذي شنّ الحرب، فقد نجح اللوبي اليميني واليهودي في إقناع الأمريكيين بأنه شخص تصرَّف بتسرع وتهور، ولأن الأمريكيين ذوو ذاكرة قصيرة كالأسماك فلا أحد يسأل كيف تحول الرئيس المتسرع والمتهور اليوم لمحل تقدير ويعتبر بطلاً وطنياً يشار إليه بالبنان!

وبناء على ذلك، يمكننا أن نجزم بأن بوش لم يكن متخبطاً ولا أرعن، وأن غزو العراق كان عملاً منظَّماً تكتيكياً واستراتيجياً بشكل ربما لم يسبق له مثيل في التاريخ. إنَّ حلَّ الجيش العراقي والتشكيلات الأمنية العراقية لم يكن خطأ، وحلّ الوزارات وإعادة تشكيلها لم يكونا خطأ، وجلب أحزاب سياسية نشأت وتمولت بأموال غير عراقية تحكم إلى اليوم لم يكن خطأ، وتسليم العراق لإرادة غير عراقية لم يكن خطأ، بل كان تطبيقاً لخطة موضوعة بإحكام.

إن كل من يعتقد أن الولايات المتحدة بحاجة لأموال العراق ونفطه واهمٌ، والدليل أن الولايات المتحدة نفسها تخطط للاستغناء عن النفط كوقود، وجميع محطات تعبئة الوقود فيها تستخدم وقوداً مخلوطاً بالإيثانول بنسبة تتراوح بين 10 و50%. ومن المخطط أن يحل الإيثانول الذي يُستخرج من النباتات كالذرة وقصب السكر محل الوقود المستخرج من النفط كما حدث في البرازيل.

اقتصادياً، لم تستفد الولايات المتحدة تجارياً من العراق منذ عام 2003، فصدِّق أو لا تصدق، أن الميزان التجاري بين الولايات المتحدة فيه عجز لمصلحة العراق بمقدار 4.7 مليار دولار عام 2016، أي إن العراق يصدِّر للولايات المتحدة أكثر مما يستورد منها، وإن الصادرات الأمريكية للعراق تنخفض بانتظام كل سنة.

وبحسب وزارة التجارة الأمريكية والممثلية التجارية الأمريكية، فإن الصادرات الأساسية للعراق هي السيارات والأدوات الطبية والكهربائيات وطائرات مدنية وقطع غيارها، أي لا يوجد بين الصادرات أي أسلحة. في المقابل، يحتل العراق المرتبة الأربعين بين أكبر المصدّرين للولايات المتحدة، والصادرات هي النفط والتحف والفنون وكميات بسيطة من الكتب والصحف.

ما هو نوع البناء؟ وما هو نوع الاستثمار الذي يتدفق على العراق؟ نكاد نجزم بأن الجواب “استهلاكي”. القسم الأعظم من الاستثمارات ومشاريع البناء في العراق استهلاكية، ومحسوبة بعناية بحيث لا يمكن أن تكون للعراق مشاريع استراتيجية أو حتى مشاريع تؤمّنه غذائياً، أي إنَّ طمر جهود العراق قبل 2003 لتحقيق الأمن الغذائي والصناعي أولوية أولى.

لقد كان السبب الرئيس وراء غزو العراق هو محو شيء اسمه عراق قوي من على الخريطة، واستبداله بعراق استهلاكي خالٍ من العقيدة يعتمد في كل شيء على الخارج، ليس بالضرورة الولايات المتحدة، فمن يلقي نظرة إلى السوق العراقي لن يجد وجوداً ملحوظاً للمنتجات الأمريكية؛ فالولايات المتحدة تنازلت منذ اليوم الأول عن المكاسب المادية، فهي ليست بحاجة للأموال، المهم أن يعتمد العراق على الآخرين.

لم تكن مغادرة القوات الأمريكية العراق خطأ كما يقال باستمرار، بل كانت خطوة مدروسة جاءت بعد أن أرسى الأمريكيون قواعد العراق الذي يريدونه بالضبط، عراق في داخله عدد من العراقات، وبينما يقول العارفون بالشأن الإيراني إن عقيدة الخميني بخلق عدة أذرع عسكرية للدولة وعدم الاعتماد على الجيش الرسمي كلياً قد استُنسخت في العراق، ولكننا نختلف حتى مع هذا الطرح؛ فقد استُنسخت التجربة لتكون جزءاً من الخطة التي تضمن عدم وجود عراق قوي مرة أخرى.

في إيران، الأذرع العسكرية مثل “الحرس الثوري” وغيره تصبُّ كلها في قناة واحدة بالنهاية وتعمل كلها من أجل إيران، ولكن الوضع مختلف في العراق فقد توزَّع السلاح بطريقة ذكية ومحسوبة بدقة، وتم خلق أذرع عسكرية متشعبة لا يوجد بينها من يأتمر بأمر مرجعية عراقية سياسية واحدة، بل هي مثل مسرح الدمى تحركها يدٌ وراءها عقل فيه استراتيجية عدم وجود عراق قوي مرة أخرى.

إن أي حكومة توجد في محيط لا تملك فيه الكلمة العليا لن تتمكن من التمتع بإرادة سياسية مستقلة، وستكون قراراتها متأرجحة بين إرضاء هذا الطرف أو ذاك، وهذا هو بالضبط ما أرادته الولايات المتحدة من غزو العراق. وقد يبرز هنا سؤال: لماذا العراق؟

من المعروف أن الأعمدة الرئيسة الثلاثة في مواجهة إسرائيل: مصر وسوريا والعراق. مصر وسوريا تمتلكان الزخم والكفاءات البشرية، لكنهما لا تتمتعان بثقل مادي واقتصادي. أما العراق فقد جمع كل شيء: الموارد البشرية، والثروة النفطية الهائلة.

نجحت الولايات المتحدة والغرب في تقييد وتحييد مصر بمعاهدة سلام مع إسرائيل، وسوريا غارقة في مستنقع، لا يعرف إلا الله متى ستخرج منه، وإن خرجت فكيف سيكون حالها؟! وقبل ذلك كانت مثقَلة بالأعباء المالية. صحيح أن سوريا كانت حتى عام 2011 بلا دَين خارجي، ولكنها أيضاً لم تكن دولة غنية وبها فائض مالي.

العراق كانت له حالة خاصة، فقد جمع المجد من أطرافه، وفوق كل ذلك كان حتى عام 2003 يرفض الدخول في أي اتصال دبلوماسي مع إسرائيل، وكان يرفض الاعتراف بوجود بلد يُدعى إسرائيل، وهنا يكمن مربط الفرس الذي جرَّ على حكومة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الويلات والثبور، فقد رفض إسرائيل رفضاً قاطعاً استمر حتى اللحظة الأخيرة.

وفي الطرف الآخر من العالم، هناك أمريكيون متدينون يشكلون ثقلاً سياسياً وانتخابياً واقتصادياً لا يمكن إغفاله، وهم يعتقدون ضرورة وجود إسرائيل قوية، لأنها الشرط الذي سيُنزل المسيح ثانيةً إلى الأرض ليقود معركته الأخيرة، التي يقولون إنها ستنصر العالم أجمع، وقد استغل اليهود ذلك، وربما هم من زرعوا تلك العقيدة، ويحركون تلك الجموع مثلما تحرك الدمى.

الثعلب اليهودي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر حسم مستقبل الجبهة الغربية لإسرائيل بمعاهدة كامب ديفيد، وقال في مذكراته إن حرب أكتوبر عام 1973 هي آخر الحروب العربية-الإسرائيلية. ومن الجنوب توجد دول الخليج العربي التي تفتقد العنصر البشري، وشرقي إسرائيل هناك الأردن ذو الإمكانات البشرية والمادية الضعيفة والذي وقَّع على اتفاقية وادي عربة عام 1994. والفلسطينيون أنفسهم استُدرجوا مثل الفأر إلى المصيدة، والطُّعم دولة فلسطينية لن تقوم.

وبعد أن رفض العراق حتى عام 2003 كل العروض مقابل إقامة اتصال مع إسرائيل، شُنت الحرب عام 2003. ومنذ ذلك الحين، فإن كل ما يجري في العراق يجري حسب الخطة الموضوعة، والتذمر الذي نسمعه كل يوم من عراقيي الداخل والخارج لن يجدي نفعاً، لأنهم يعترضون على خطط الكبار الذين استثمروا في غزو العراق تريليون دولار.

إن الحقيقة التي يجب أن نعيها عندما نتكلم عن العراق هي أن الإصلاح يعني ضياع تريليون دولار وذهاب جهود الجيش الأمريكي لـ16 سنة سدى، وفوق ذلك يعني فشل خطط وُضعت على مدى عقود طويلة من الزمن واشتركت فيها دول بثقلها كاملاً، لذلك من الجهل بمكان أن نتخيل أن العراق يمكن أن ينصلح حاله من الداخل وهو مؤسَّس على أن يكون مهترئاً، ليخدم الغرض.

إن التخبط الذي يحدث في إدارة العراق ووجود مسؤولين فاسدين أو غير أكْفاء هو الخطة بعينها، وهي موجودة في التراث الغربي، وكان آخرها رواية عن الجنرال ديغول الذي قبض على جاسوس من جنرالاته يعمل لمصلحة الألمان، وعندما سأله عن مهمته قال له: لقد كلفني الألمان بأمر واحد فقط، أن أضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.

(المصدر: الخليج أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى