مقالاتمقالات مختارة

البدعة الحضارية

البدعة الحضارية

بقلم مسعود صبري

من المصطلحات الشائكة في ساحة الفكر الإسلامي ( البدعة)، بل تعد هي ومصطلح ( التكفير) من أخطر المصطلحات على الساحة المحلية والعالمية، ذلك أنها من أكبر الأسباب في اختلاف طوائف من المسلمين، بل تؤدي إلى تكفير بعض المسلمين بعضا أو تفسيقهم على أقل التقديرات عند طوائف من المسلمين، بل هناك من المسلمين من لا هم له إلا الحديث عن البدعة والحكم على الناس بالابتداع، فيترك التعامل معه، ويستحل غيبته ونميمته على اعتبار أنه لا غيبة لفاسق، والمبتدع فاسق، بل يصل الأمر إلى ضرره إن استطاع أن يضره، بل يتوهم أن هذا مما يتقرب إلى الله به.

ويتعدى خطر مفهوم البدعة وأثره من الفرد إلى الجماعة، ومن الجماعة إلى الدول، ومن الدول إلى الحضارات.

مخاطر مفهوم البدعة

وإن الخلل في مفهوم البدعة قد أودى بتأخر الأمة وتراجع حضارتها، فحين وصلت الطباعة إلى اسطنبول زمن الخلافة العثمانية رفض السلطان ذلك، بل خرجت بعض الفتاوى تحرم استعمال الطباعة لأنها بدعة قد تضيع القرآن والسنة وعلوم الشريعة والعربية، ثم أجيزت بشرط أن لا تستعمل في طباعة القرآن أو السنة، أو كتب الفقه والشريعة، وكان مما ترتب على ذلك أن نهض الغرب باستعمال آلة الطباعة وخدمتها للتقدم العلمي، وتأخر المسلمون ردحا من الزمن، وكان سوء فهم مفهوم البدعة سببا في تأخر المسلمين.

وكان سوء فهم البدعة سببا في سقوط دولة وقيام دولة، فحين دخول السلطان سليم الأول مصر ومحاربته المماليك استعمل البارود ورفض المماليك استعماله لأنه بدعة لم يستعملها رسول الله صلى الله عليه  وسلم وأصحابه، وحين أخذوا السلطان المملوكي ليشنقوه بعد أن هزم المماليك وتم القبض عليه، خاطب السلطان سليم الأول مستنكرا عليه قائلا:” أستعملتم هذه البدعة التي لم يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا السلف، وقاتلونا بها، وهذا السلاح الذي تستطيع المرأة أن تقتل به الرجال، ، ولو قررنا استعمال البارود لما قدرتم علينا، لكننا قوم قوم لا تنكر لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم في الجهاد بالسيف، كيف تقتلون أناسا يشهدون بالتوحيد بهذه البدعة؟!!

مفهوم البدعة

والحق أن الخلاف حول البدعة قديم بين الفقهاء، فهناك حول البدعة اتجاهان، بين من يرى البدعة كلها ممنوعة وبين من يفصل بين أنواع البدعة، فيعطيها أحكاما متعددة حسب أحوالها ومآلها.

البدعة حسنة وسيئة : ينحو الاتجاه الأول نحو مفهوم البدعة باستعمالها اللغوي، فهي تشمل كل أمر حادث في الدين لم ينص عليه في الكتاب أو السنة، سواء تعلق بالعبادات أو العادات، سواء كان محمودا أو مذموما.

وممن قال بهذا المفهوم الإمام الشافعي والعز بن عبد السلام والنووي، وابن عابدين من الحنفية، والقرافي والزرقاني من المالكية،  وابن الجوزي من الحنابلة، وابن حزم الظاهري.

ورغم أن هذا الفريق يرى أن كل حادث بدعة، لكنه لا يرى أن كل بدعة محرمة، فهو يتوسع في دلالة التسمية، كما يتوسع في الحكم على كل حادثة، فهو يعطي البدعة الأحكام الخمسة، فيجعلها تارة واجبة، مثل تعلم النحو صيانة لكتاب الله تعالى، وعلم الجرح والتعديل صيانة للسنة النبوية.

وقد يدخل في هذا المفهوم جمع القرآن الكريم في كتاب واحد وتسميته مصحفا، فتسمية المصحف ليست من الأمور التوقيفية التي وردت في الكتاب والسنة، وإنما هو من عمل الصحابة.

مجالات البدعة الحسنة

ولكن مما يميز هذا الاتجاه هو السنة الحسنة، وإن كان المصطلح مشكلا لا يقبله اتجاه آخر من الفقهاء، لكن استعمال المصطلح وارد عن عمر – رضي الله عنه- حين جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، حين أنكر عليه هذا، فقال:” نعمت البدعة هذه”. ذلك أنه رأى الناس متفرقين، يصلي الرجل وحده، ويصلي الرجل ويصلي خلفه بعض الناس فجمعهم وجعل إمامهم أبي بن كعب، رضي الله عنه.

ومفهوم البدعة الحسنة هنا يفتح آفاقا كبيرة في العمل الخيري والتطوعي، وفي تنوع وسائل الدعوة إلى الله تعالى، بل يدخل مفهوم البدعة الحسنة حتى في بعض أمور العبادات، فصلاة التراويح هي من هذا النوع، وإنشاء الجمعيات الخيرية، وهيئات الزكاة، وتخصيص دور للإفتاء، وفتح المدارس والمعاهد، وطباعة الكتب، والإذاعات والفضائيات التي تستعمل للدعوة إلى الله تعالى، واستعمال وسائل التكنولوجيا في العمل الخيري والدعوي، ومن هنا، فإن الابتكار في وسائل الدعوة والعلم هو من البدعة الحسنة، التي يمكن أن يصدق فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم:” من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها”. ومن المعلوم أن البدعة الواجبة أو البدعة الحسنة، هي خادمة لأصول الشريعة وقواعدها ومبادئها العامة، وقد نص الفقهاء في قواعدهم:” للوسائل حكم المقاصد”.

البدعة الممنوعة

ومن البدعة ما يكون محرما، مثل كل البدع التي قالت بها الفرق الضالة، ومن البدع ما هو مكروه غير محرم، مثل الاجتماع للدعاء يوم عرفة لغير الحجاج، وزخرفة المساجد، وتزويق المصاحف.

ومن البدعة ما هو مباح، كالمصافحة عقب الصلاة، والتوسع في المعيشة من المأكل والمشرب والملبس ومظاهر الحياة.

.على أن من الفقهاء من يرى أن البدعة كلها مرفوضة في الدين، ومن القائلين بهذا الإمام مالك والشاطبي والطرطوشي. ومن الحنفية: الإمام العيني. ومن الشافعية: البيهقي، وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي. ومن الحنابلة: ابن رجب، وابن تيمية.

، وقد استدلوا بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وبحديث:” عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ،وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة”.

بدعة العادات

على أن الاختلاف في مفهوم البدعة ومجالاتها كان سببا في اختلاف العلماء في الحكم على كثير من المسائل والقضايا التي مازال الجدل حولها دائرا، فما زال الاختلاف قائما حول جواز الاحتفال بالمولد النبوي وعيد الأم، وعيد الميلاد والأعياد الوطنية وغيرها من الاحتفالات، وسبب اختلاف الفقهاء هنا راجع إلى فقه البدعة، هل البدعة تدخل في العادات أم أنها تختص بالعبادات والعقائد، فمن رأى أن البدعة لا تدخل في العادات، قال بجواز الاحتفال بكل هذه الأمور بشرط أن لا يصحبها شيء محرم كالاختلاط وغيره، ومن رأى أن البدعة تدخل في العادات، رأى حرمة الاحتفال بكل هذه المناسبات، لاقتصار الاحتفال على عيدي الفطر والأضحى، ورأى أن كل شيء لم يكن موجودا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته الراشدين فلا يجوز إيجاده.

قواعد في ضبط الاختلاف

على أن الاختلاف حول مفهوم البدعة تضييقا وتوسيعا وحكما يجب أن ينضبط ببعض الضوابط والإرشادات والقواعد التي تجعل الاختلاف سائغا في محله، وغير سائغ في غير محله.

من ذلك أنه إعمال قاعدة ” لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه”، فكل المسائل التي ورد خلاف فيها بين الفقهاء لا يصح أن تكون مثار إنكار، ولا أن تكون سببا للتناحر والتنافر بين المسلمين، وإنما ينكر بعضهم على بعض الأمور المتفق عليها، والتي هي من قواطع الدين وأصوله حين تخالف، فينكر على من رأى الحجاب غير واجب، أو ينكر على من يرى أن الربا ليس محرما، أو أن بعض الفروض إنما هي مرتبطة بالزمن الذي نزل فيه القرآن، أما المسائل الخلافية فلتكن هناك سعة في قبول الآخر والتعامل معه، حتى وإن رأينا أنه على خطأ، وقد تقرر عند العلماء أن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غير خطأ يحتمل الصواب.

الأمر الآخر أن ما اتفق الفقهاء على حرمته، أو أنه بدعة ما ينبغي أن يتجاوز، بل يجب التكاتف في بيان حرمته ومنع الناس من إتيانه، فالبدعة في أصول العقائد والعبادات محرمة اتفاقا دون بعض فروع العبادات وصور بعض المسائل.

كما يجب التفريق بين البدعة المكفرة والبدعة غير المكفرة، والحذر من المسارعة في تكفير مرتكب البدعة أو مرتكب الكبيرة.

ومن أروع القواعد التي تخفف حدة الجدل الدائر حول البدعة ما تقرر في قواعد الفقهاء:” الحكم على الأفعال لا على الذوات”، فإن فعل شخص ما فعلا نراه بدعة، فنحكم على فعله أنه بدعة، ولا نصف صاحبه بأنه مبتدع، لأنه قد يكون متأولا برأي من آراء الفقهاء، أو عنده شبهة، أو يفعل ذلك جهلا، أو نسيانا، أو غيرها من الأعذار الشرعية.

ضرورة التقارب

إننا اليوم بحاجة إلى تقليص الفجوة فيما بيننا، وأننا مجبرون اليوم عن أي يوم مضى إلى التفاهم والتعاون، وأن نفرق بين ما هو متفق عليه وبين ماهو مختلف فيه، وأن القواسم المشتركة بين الأمة أكبر من عوامل اختلافها، وأن الانشغال بالفروع المختلف فيها قبل الأصول المتفق عليها تركه أوجب، وأن الخطر الذي يحدق بالأمة أكبر من أي وقت مضى، وأن الطوفان القادم لن يميز بين طوائف المسلمين، وأننا إن تحجرت عقولنا وتصادمنا في الأمور التي كتب الله تعالى أن تكون خلافية فكلنا هالكون، وسيكون الدرس قاسيا، وساعتها سنندم جميعا يوم لا ينفع الندم.

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى