الاكتئاب والتدين.. هل يحمينا الإيمان من الأمراض النفسية؟
بقلم سامح عودة
في عام 1965، يروي الدكتور -والمعالج النفسي- “مالك بدري”[1] قصة مريضته المغربية التي أُحيلت إليه بقسم الطب النفسي العصبي في المستشفى التعليمية لجامعة الرباط، والتي كانت تشكو من أشياء كالقلق العام ومشاعر بعدم التكيف والاكتئاب على مدار عام لم تلق فيه العناية الطبية اللازمة، وفي إحدى جلسات العلاج الجماعية، يحكي الدكتور “بدري” أنه كان يقوم بتلاوة سورة من القرآن حول غفران الذنوب كتدعيم معنوي لأحد مرضاه، الأمر الذي أبدى نتائج لم يتوقعها مع مريضته. استجابت المريضة للآيات بانفعال غير متوقع، وانهمرت دموعها.
حادثة أدت بالدكتور “بدري” إلى الاهتمام بحالتها ومتابعتها، فيقول: “داومت على تلاوة آيات القرآن -لها- التي تتناول مسألة غفران الله لجميع الذنوب وشرحت لها جميع ذلك في لغة مبسطة، وقد كانت تلك هي بداية لاعتراف عاطفي وتحسن سريع للغاية من خلال تطبيق الوسائل العلاجية السلوكية”[2].
تلك الحادثة التي أثارت -حسب روايته- اهتمام رئيس المعالجين النفسيين بالمشفى، ليعلق الأخير قائلا، إنه، وعلى الرغم من احتفاظه بنسخة من القرآن الكريم في مكتبه، لم يخطر بباله أبدا في أي وقت أن يتخذه كوسيلة علاجية لأيٍّ من مرضاه.
من هنا، كانت حالة السيدة المغربية دافعا يبحث وراءه الدكتور “مالك” حول النموذج العلاجي النفسي للمسلم، في كتابه “مأزق علماء النفس المسلمين” والسؤال حول اعتبارية النظريات العلاجية في علم النفس وكفايتها في ذلك، وكذا حول احتمالية الجمع بينها وبين الدين كوسيلة لتطبيب الروح.
في إقليم “فرايبورج” الواقع داخل حدود الإمبراطورية النمساوية، وتحديدا في العام 1856م، كانت إحدى الأُسر اليهودية على موعد مع مقدم ولدها “سيجموند”، الذي سينتقل معها بعد 17 عاما إلى “فيينا” لدراسة الطب، ومن ثم التخصص في طب الأعصاب، ليتمكن في خلال عقد واحد من نشر مجموعة بحثية في مجاله، وينتقل بعدها إلى فرنسا لمرافقة زميليه “شاركو”، و”بيير جانيه”[3].
وفي فرنسا اهتم “سيجموند فرويد” بإستراتيجية التنويم المغناطيسي التي يستعملها زملاؤه هناك، “واكتشف أنه من الممكن تحت التنويم المغناطيسي، وفي أحوال كثيرة، جعل المريض يتذكر حوادث ومشاعر يبدو أنها كانت سببا في إحداث أمراض عصبية ونفسية، واستنتج من هذا أن استعادة مثل هذه الذكريات وما صاحبها من تجارب انفعالية تفيد في علاج المريض، فقد وجد أن أعراض المرض كانت تختفي غالبا متى كان التذكر ممكنا”[4].
إلا إن “فرويد” سرعان ما استعاض عن ذلك الأسلوب بالعلاج عن طريق المحادثة الذي وجد أنه يعطي النتائج ذاتها حين يتحدث مع المريض في أمور انفعالية تستجلب الذكريات من اللاشعور، وخلص في النهاية إلى نظريته في التحليل النفسي التي تمركزت حول معنى يقضي بأن “الخبرات الانفعالية في الطفولة المبكرة تترك أثرا باقيا في تكوين الشخصية”[5].
على هذا، بنى “فرويد” تصنيفه للشخصية وفقا لتكوينها ووظائفها[6]، بداية من “الهو” أو مركز الغريزة في الإنسان، مرورا بـ “الأنا” الذي يسعى لإشباع رغبات الهو وفقا لمقتضيات الواقع ويؤجل الإشباع الغريزي حتى يتوفر الوقت والظروف الملائمة، ونهاية بـ “الأنا الأعلى” المسؤول عن السلوكيات والتوجيه الأخلاقي، وهو الجزء المتكون في فترة الطفولة حسب “فرويد”.
ذلك النموذج الفرويدي في تصنيف الإنسان قام بالأساس على سبر الحياة اللاشعورية لدى الإنسان والكشف عن العقد الكامنة لديه[7]، وتقوم فكرة التحليل النفسي لدى “فرويد” على ازدواجية الظاهرة النفسية، فما نراه يعبر عما لا نراه، فهو يعتبر أن الإنسان كائن بدائي غريزي[8].
وعلى الرغم من مقدرة مدرسته التفسيرية، فإن اعتبار تلك النظرية فلسفة شاملة لتفسير جميع مظاهر الثقافة الإنسانية هو طرح بحسب كتاب نقد نظرية التحليل النفسي لفرويد فيه “تجاوزات كبيرة وتحمل التحليل النفسي ما لا طاقة له به، خاصة وأنها تنظر للإنسان كحزمة من الغرائز، وتفسر كل شيء بها بما في ذلك الدين والأخلاق”[9].
ففرويد وفقًا للدكتور “أحمد عكاشة”[**] -رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي ورئيس سابق للجمعية العالمية للطب النفسي- كان ملحدًا، وكان يعتبر الدين إشباعًا لرغبة في الشعور بالأمن ضد قوى الطبيعة، وأحيانًا أخرى إشباعًا لرغبة قديمة قِدَم التاريخ في أب رحيم.
فالأمر لدى “فرويد” لا يقتصر على كونه يغفل الجانب الروحي في الإنسان بصورة واضحة، لكنه كذلك في الانتشار الواسع لهذا التحليل وتشعبه في شتى المجالات المترابطة مع علم النفس، لذا فإن المبالغة الفرويدية في التأكيد على أهمية العوامل البيولوجية كانت أحد المآخذ الواسعة على نظريته[10].
كما أن نظريته قد قامت بالأصل على دراسة أفراد مضطربين عاطفيًا خلال العصر الفيكتوري، بما يشتهر به من تعامل خاطئ مع المفاهيم الجنسية، الأمر الذي أدى به إلى وضع الكبت الجنسي في المركز المسبب لكل مآسي الإنسان، بل وزعم تفسيريته لوجود الدين نفسه[11].
فحسب البحث العلمي الضخم “الكتاب الأسود للتحليل النفسي”، فإن “فرويد” عمد إلى تعميمات لا تتناسب مع حجم التجارب الضئيلة التي أجراها[12]، كما أن “التحليل النفسي” قد أهمل “العوامل البيئية والموقفية وأثرها في الاضطرابات النفسية”، كما “أخفق في إدراك أن ما وجده في مرضاه إنما كان مرتبطا بوقت معين ومكان معين”[13]، لذا فإن التفسير المادي للإنسان يضع التحليل “الفرويدي” في مأزق يغفل الجوانب الروحانية، والتي يرى “فرويد” أصلا أنها نتاج الكبت الجنسي.
في أحد مراكز العلاج النفسي، تأتي سيدة سودانية تشتكي إصابتها بنزعة وسواسية تجعلها تقضي القسط الأكبر من ساعات يومها في صلاة فروضها الخمس فقط لا غير، فقد كان الشك ينتابها كلما أوشكت على إتمام الصلاة، ومن ثم تبدأ من جديد إلى أن تصبح منهكة تماما، وعلى هذا يعلِّق معالجها النفسي: “إنني عندما رأيتها للمرة الأولى كانت تقوم بأداء الشعائر التي ابتدعتها في محاولة بائسة لضمان إتمام الصلاة على الوجه الصحيح”[14].
فهذه الحالة، حسب “مالك بدري”، تعاني مما يعجز النموذج الفرويدي عن علاجه؛ لأن “فرويد” يرى الدين -في الأساس- بصفته العصاب العالمي المفرط للجنس البشري[15]، ويكمل قائلا إننا طبقا للنموذج الفرويدي سنغفل التمييز بين هذه الحالة وغيرها.
فامرأة مصابة بوسواس في صلاتها لدرجة مهلكة، ولكنها تحافظ على صلاتها، لا يمكن أن تفسّر بالحالة نفسها التي تنتاب أولئك الخاشعين في صلاتهم حد الامتزاج معها. لكن “فرويد” سيضع ذلك كله تحت مصطلح واحد اسمه “الإفراط لدرجة غير سوية”، الأمر الذي يساوي بين الخلل النفسي والسمو الإيماني، وهو منزلق لا ينتبه له الكثير حسب الدكتور “بدري”.
ويقول: “إننا مثلًا نحبس المريض الذي يتملكه وسواس غسل الأيدي في غرفة ليست بها أي مياه جارية. ولكن هل أستطيع منع مريضتي من الصلاة؟ إنني لا يمكن أن أقبل ذلك، ولا يمكن أن تقبله مريضتي، أو عائلتها أو المجتمع ككل”[16]. ومن هنا يتجلى فارق آخر بين العلاج النفسي في منظومة إيمانية والعلاج الذي يتعامل مع المرء بوصفه غرائز بلا روح.
لكن سرعان ما تفرّعت عن تلك المدرسة الفرويدية مدرستان أخريتان، هما “الفرويدية الجديدة New Freudism” و”العودة إلى فرويد Return to Freud”[*]، واللتان بدأتا بعد منتصف القرن الماضي، كتعديل وتطوير للرؤية الفرويدية في علم النفس، كنظريات “كارل يونج” الذي رأى المحرك الرئيسي للنفس خليطًا بين الثقافة واللاشعور.
كذا نظرية “ألفرد أدلر” الذي يرى أن عقدة النقص هي المحرك الرئيس للأزمات النفسية، و”كارل هورني” التي ترى -على خلاف ذلك- أن المحرك الثقافي والتنشئة الاجتماعية هما العاملان الرئيسيان في توجيه السلوك والنفس.
على جانب آخر، فإن عالمًا نمساويًا -من مواطني فرويد- هو “فكتور فرانكل” كان قد طوّر مفهومًا آخر للعلاج النفسي يتلاقى كثيرًا مع ما يقرّه الدين في النفس البرية، وهي مدرسة العلاج بالمعنى[17]، وتتلخص فكرته في ملاحظته لزملائه أثناء اعتقاله في سجون النازية، والصورة التي كانت عليها نفسياتهم، فوجد أن أقلهم عناء وشقاء هم أولئك الذين يحملون معنى يدفعهم إلى الاستمرار في الحياة، ومن ثم يحميهم من التبلّد وافتقاد الدافعية.
لعل موقف “فرانكل” نفسه داخل المعتقل أحد أبرز الأدلة على ذلك، إذ كان يستولد الأمل من خلال تخيّله للحفاوة التي سيلقاها بعد خروجه وطرحه لنظريته في كتاب تم نشره بعدها بالفعل، ليتحول الأمل إلى حقيقة بعدما استطاع الحفاظ على صاحبه، فالمرء -حسب “فرانكل”- يتحكم في قراره الداخلي حول التفاعل مع ظروفه، وعلى النقيضين قد يخرج فردان مرا بظروف واحدة؛ لذا فإن المعاناة قد تتوقف عن كونها كذلك إذا اكتسب صاحبها المعنى من ورائها.
من هنا صاغ “فرانكل”[18] مصطلحه حول “أنسنة الطب النفسي”، والمعني بإعادة النظر في العلاج النفسي باعتبار الإنسان إنسانًا وليس حيوانًا يتم تجريب العقاقير الدوائية عليه، وأن الفراغ الوجودي الذي يفتقد فيه الإنسان للمعنى أكثر تحطيمًا لنفسه من المقدمات البيولوجية الأخرى، فالصفعة التي يتلقاها السجين قد لا تؤذيه بالقدر نفسه الذي تسببه المسبة أو الإهانة.
هكذا، فإن كانت المعاناة في ظاهرها تسبب كبتًا حسب “فرويد”، فإنها في الحقيقة غير حتمية في التأثير السلبي على من يعانون، فالمعتقلون -زملاء “فرانكل”- كانوا أكثر تلمسًا للفن والجمال رغم القسوة لأنهم كانوا يبحثون عن المعنى، ولأنه كما يقول “نيتنرش”: “إن من يكون لديه سبب للعيش في الحياة يستطيع أن يتحمل تلك الحياة بأي كيفية تقريبا”[19].
فسعي الإنسان نحو المعنى -كما يقول “فرانكل”- “يعتبر دافعًا أساسيًا في حياته، وليس تبريرًا ثانويًا للدوافع الغريزية، هو شيء فريد وخاص لأنه لا يحصل على دلالته التي ترضي رغبة الإنسان إلا إذا توصل إليه ذلك الإنسان هو نفسه“[20].
ثم هو يحاجج أولئك الذين يدّعون أن المعاني والقيم ليست بشيء سوى إجراءات دفاعية، وتكوينات عكسية، وإملاءات خارجية، فيقول: “بالنسبة لي، فإنني ما كنت أرغب في الحياة فقط في سبيل (إجراءاتي الدفاعية)، وما كنت لأموت في سبيل تكويناتي العكسية، ولكن الإنسان يستطيع أن يعيش، بل وأن يموت في سبيل قيمه ومثله العليا”[21].
في تلاقٍ بين العالمين، يسرد المفكر والرئيس البوسني الراحل “علي عزت بيغوفيتش”[22] مجموعة من الثنائيات التي تتعلق بالسمو النفسي والأداء العقلي، كالثنائية بين الفن والعلم، والثقافة والحضارة، إلخ، ثم يربط الجانب الروحي منها -كالفن والثقافة- بفكرة الدين والروح.
ويستخدم حالة الاتحاد السوفييتي خلال شيوعية “لينين” و”ستالين” كنموذج لتوضيح رؤيته، إذ كانت الشيوعية، التي تُحقّر من شأن الدين، تحارب بأداتها السياسية في ذلك الوقت أصناف الأدب الروسي وتحظر روايات “تولستوي” و”ديستويفسكي” وغيرهما، مما يدل على وجود تأثير متبادل بين ما يصنعه الدين في الروح وما يصنعه الأدب -مثلا- في سمو النفوس.
على هذا النسق، يترابط كثيرا العلاج النفسي مع ما يحققه الدين للنفس من مركزية تدور حولها، ومعانٍ متجاوزة لعالم المادة تقدم له الملاذ الآمن من ضيق المعاناة، فبجانب العلاج الطبي -أو الدوائي- فإن الدين يحمل من التقويم السلوكي ما لا يغتني عنه المُعالِج.
وبالنظر إلى التراث الإسلامي نفسه، فإن التنظير النفسي/السيكولوجي كان يحتل مكانة مشهودة وسابقة من نحو عشرة قرون على يد الحكيم “الترمذي” -مثلا- الذي ألّفَ عدة كتب حول النفس منها “رياضة النفس”، و”أدب النفس”، وهو كتاب تناول فيه رياضة النفس، وقضية اليقين، وصفة القلوب، والهوى، وعواقب الهوى[23].
فيقول: “فمن نوّر الله قلبه بالإيمان قويت معرفته، واستنارت بنور اليقين، فاستقام به قلبُه، واطمأنت به نفسه، وسكنت ووثقت وأيقنت، وأْتمنته على نفسها، فرضيت لها به وكيلًا، وتركت التدبير عليه… فإن وسوس له عدوّ بالرزق والمعايش، لم يضطرب قلبه ولم يتحير؛ لأنه قد عرف ربه معرفة أنه قريب، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنه رءوف رحيم، وأنه رب غفور رحيم، وأنه عدل”[24].
كما يقدم “ابن حزم الأندلسي” أطروحته النفسية حول الحياة القائمة على محوري الطمع والهم، “فالطمع أصل في كل المظاهر الاجتماعية التي نراها من حب وطموح وحياة مادية وغير ذلك”، فإذا كان الطمع بهذه القوة في حياة الأفراد فمن الطبيعي أن ينشأ عنه الهم، فالناس جميعًا يتفقون في هذه الغاية سواءً في ذلك المتدين ومن لا دين له، والخامل والزاهد والفيلسوف العازف عن اللذات وغيرهم. “فطالب المال يكد في سعيه ليطرد “هم الفقر”، والساعي وراء الشهرة يجري إليها ليطرد “هم الخفاء والخمول”، والراغب في اللذة يطلبها ليطرد “هم الحرمان من اللذة”، وهكذا في كل شيء”[25].
فالسبيل الجوهري لدفع الهم -كما رأى ابن حزم- هو الاتجاه إلى الله تعالى؛ فإنه إذا اتجه الشخص إلى الله تعالى زالت عنه الهموم[26]. ومن الملاحظة “يتبين لنا أن ابن حزم يقترب في بعض نظراته الاجتماعية من رجال المدرسة النفسية، فنظرية “الطمع” تشبه إلى حد كبير ما يقال عن الغرائز وأثرها، بل إن اتخاذ اسم واحد للدوافع في نفس الفرد يقترب من رأي “فرويد” في حصره جميع الطاقات الغريزية في الإنسان تحت اسم “لبيدو” واتخاذه غريزة الجنس متمثلة لكل الطاقات والقوى”[27].
أما طرد الهم فيمكن أن يشمل ما يسمى في علم النفس الاجتماعي “الصراع النفسي والاجتماعي”، وهذان النوعان من الصراع قد يحتوي أحدهما الآخر، وقد يستقل عنه، ولكن في الربط بين طرد الهم وفكرة التوجه إلى الله يقترب ابن حزم من فكرة “الصراع الاجتماعي” الذي يتمثل في توجيه الرغبات الدنيوية نحو غاية مثالية، إذ يرى ابن حزم أن الإنسان المؤمن يستمد قدرته على ضبط النفس من الخوف من الله[28].
لذا، فإن الثقافة الدينية تتسم بالزخم التحليلي والمعرفي تجاه النفوس ومداواتها، كما إن مكان الجنس المبالغ فيه في نظرية “فرويد” -كما يرى “بدري”- هو مكان غير صحيح لأنه “يعتبر بصفة جزئية كرد فعل -بولغ فيه- لعلم الأخلاق الكاثوليكي أو الفكتوري الكابت الذي كان سائدًا في عصر فرويد”.
لكن، وعلى الرغم من هذا الزخم، فإن الطبيب النفسي “شهاب الدين هواري” يرى أن المشكلة التي تواجه كثيرًا من المرضى تجاه الحل الديني هو تحميلهم بذكريات الإساءة الروحية في صورة الأب أو المجتمع الذي قد يمارس سلطة دينية بصورة خاطئة.
فيقول: “يمكن تعريف الإساءة الروحية بأنها تقديم صورة مشوهة عن الروحانية من السلطة الأبوية، وسوء استغلال السلطة الدينية لتحقيق مكاسب خاصة، سواء كانت هذه المكاسب مادية أو معنوية، وسواء تمت هذه الإساءة بوعي أو بدون وعي”[29]، كمن ينصح أحدًا بأسلوب فظ، فهو يريد الخير لكنه يؤذيه بشكل لا واعي.
كما أن الكثير ممن فقدوا الروحانية “ووجدوا أنفسهم بلا هوية ولا رابطة تصلهم بالسماء لديهم في الغالب جرح عميق في علاقتهم بالله، هذا الجرح نجم في كثيرٍ من الأحيان عن علاقتهم بالله كما عُرِف لهم وقُدِّم إليهم لا كما أخبر هو نفسه”[30]
لذا، فإن العلاج الجدلي السلوكي، كمدرسة متقدمة في العلاج النفسي، تهدف إلى ربط المريض النفسي بروحانية متجاوزة لعالمه المادي، وتشرح له حاجته لقوة تفوقه وتحتويه، وهو ما يمكن ربطه هنا بالدين في منظومة العلاج الإيمانية، ولكن بعد تنقية التصورات الفكرية لدى المريض عنه إن كان الأمر في حاجة لذلك[*].
ويرتبط ذلك بالدراسة التي أجراها الباحثان “خوسيه مانويل” و”أليكساندرا فليشمان” حول نسب الانتحار مقارنة بالأديان، فكانت “نسبة الانتحار في الدول الإسلامية تكاد تقترب من الصفر، وسبب ذلك أن الدين الإسلامي يُحرم الانتحار بشدة”[31]. وعلى هذا كانت توصياتهم للحَدِّ من الظاهرة متمركزة حول التحذير من الإقدام على الانتحار، وتعهد من لديهم ميول للانتحار بمزيد الاهتمام والرعاية النفسية، ووضع عقوبات صارمة لِمَنْ يحاولُ الانتحار. “وهي نفس خلاصة ما تناول به الإسلام مسألة الانتحار من 1400 عام”[32].
فاستبطان الإيمان في العلاج، واستقدام لفظة “البلاء” لما لها من مدلول ديني، تضع للإنسان منفذًا آخر مفارق للدنيا -أو معنى بتعبير “فرانكل”- ليفتح له مساحة من الشعور والتصبّروالأمل في الجزاء على تلك المعاناة، إلى جانب العلاج المعرفي والسلوكي الذي يبحث فيما وراء الأزمة لعلاجها.
فهل يمكننا اعتبار الأمرين -العلاج النفسي والدين- على صلة وثيقة تساعد الإنسان على تجاوز أزماته؟ وهل يمكن تضمين الدين كحل دائم في استيعاب المريض وخلق مساحة من الاطمئنان حسب حاجته لها؟ تلك هي الأسئلة التي يمتلك المعالجون إجابتها وكيفية تطبيقها على أرض الواقع.
——————————————————–
الهوامش
[*]: حوار مع الطبيب النفسي شهاب الدين الهواري.
[**]: من مقدمته لكتاب الإلحاد مشكلة نفسية.
(المصدر: ميدان الجزيرة)