مقالات

الاستشراق في خدمة التنصير والتجزئة

بقلم محمد الأمين مقراوي الوغليسي

رغم خطورة الاستشراق وأثره على العالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين، إلّا أنّه يبقى من المواضيع الهامّة التي تقابل باهتمام فاتر من الأجيال المسلمة الحالية، ونخصّ بالذكر الشباب المولع بثقافة العصر، والذي أثبتت الكثير من الكتابات والنقاشات أنّه لا يملك حصانة ثقافية وايمانية كافية، مع تشبعه بتضخم معرفي سطحي، وتبنيه مزايدات كلامية هشة. ومع ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي والإعلام الجديد، ازدادت ظاهرة الاستيلاب الحضاري بين الشباب المسلم، ولعلّ شيوع  المنشورات التي تمجد الحياة الغربية ورموزها، وتعلن انبهارها بأقوال وكتابات مفكري العالم الغربي، يحمل دلالة واضحة على أنّ العمل على تحصين الوعي الشبابي لم يأخذ مكانته الحقيقية، لأسباب كثيرة، لعلّ أبرزها: عدم تبسيط هذا الموضوع من خلال الكتابات، والابقاء على النمط التقليدي في الطرح والمعالجة، وغياب محاولات جدية تشرح للجيل الشبابي أن هذا الموضوع له أثر على حاضر ومستقبل الحياة في المجتمعات العربية والإسلامية؛ لأنّ الغالب على اهتمامات البشر هو: الاهتمام بالمواضيع التي تترك أثرا مباشرا على حياتهم.

وسنتناول في هذه الأسطر العلاقة بين الاستشراق ومشاريع التنصير التي جرت وتجري في العالم الإسلامي، والترابط الوثيق بين هذه العلاقة وبين تفكيك الدول الإسلامية والعربية؛ من أجل رفع الوعي الشبابي بخطورة هذا الموضوع، مع طرح بعض الحلول التي تسهم في التقليل من مخاطره؛ خاصّة مع بروز مشاريع تهدف لهدم الهوية الإسلامية، وإحلال بدائل متناقضة تماما مع تاريخ وحقيقة المسلمين ورسالتهم.

متى ظهر الاستشراق؟

يعتقدُ الكثير من المسلمينَ والباحثينَ بحداثة الاستشراق؛ لغياب الخلفية التاريخية لهذا الموضوع عن الأكثرية، ولعلّ ازدهاره في القرنين الماضيين – عندما عرف العالم الإسلامي حركة استعمارية غير مسبوقة في تاريخه – ساهم في شيوع هذه النّظرة، غير أنّ الحقيقة التاريخية تعلن بوضوح عن أن ظاهرة الاستشراق قديمةٌ قدم الحروب الصليبيةِ ضد المسلمين، وإن اختلفت الكتابات في تحديد بداياته بدقة، إلّا أنّ الكثير من الدراسات ذات الصلة تُرجع تاريخ ظهورِ الاستشراق إلى القرن العاشر الميلادي، ومع امتداده التاريخي، تطورت وسائله وبواعثه، غير أن المرحلة الزمنية الحالية تعتبر الأخطرَ، بسبب تبنيه سياساتٍ تهدف إلى تحقيق مشاريع التجزئة والتنصير في العالم الإسلامي، ما يستوجب استراتيجية معرفية ومنهجية ومادية لمواجهته.

الاستشراق في خدمة الحركة الاستعمارية

كانت الفتوحات الإسلامية التي طالت العديد من مناطق العالم النصراني، ودخول أهلها في الإسلام، وتغيّر الخريطة الدينية للعالم؛ الدافع الأول لظهور الحروب الصليبية، التي انتهت بهزائم متكررة، وسقوط مشروع القضاء على الإسلام، ما جعل الجهود تتوجه نحو إيجاد وسيلة مرافقة وممهدة لها، فظهر علم الاستشراق كرأس حرب في الحروب الصليبية، التي لم تعد تستهدف استرجاع ما فقدته من ممالك ودول فحسب، بل تحاول الانتقام من النكسات الماضية بتحويل المسلمين عن دينهم.

بواعث ودوافع الاستشراق الكبرى

لم تقف حملات الاستشراق منذ ظهورها وإلى اليوم على سبب واحد، بل غذّتها أسباب متنوعة، ثقافية ودينية، ومادية وجغرافية، وسياسية واقتصادية، غير أنّ إنكار الإسلام لعقيدة التثليث التي تعتبر الركن الركين للنصرانية وأساسها الأكبر، يعتبر أحد أبرز بواعث عداء المستشرقين للإسلام، دون إغفال البواعث الأخرى لهم؛ ونقصد بها: اعتبارهم أنفسهم خدما للحركة الاستعمارية في العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا، وموجها فاعلا  للسياسات الداخلية والخارجية لمشاريع بلدانهم النصرانية.

وقد مثل الاستشراق من أجل نشر التنصير، الوسيلة المثالية لضرب الإسلام والمسلمين، والانتقام من الرسالة الخاتمة التي حوّل نورها الظلام الذي كان يسود الأراضي التي سيطرت عليها النصرانية في الشام والمغرب العربي لقرون طويلة  إلى مناطق إسلامية موحدة، يشع في قلوب ساكنيها نور التوحيد وعبق الايمان. وقد كبرت أهداف الاستشراق من صد الناس عن اعتناق الإسلام، إلى استهداف المسلمين ذاتهم في هويتهم الدينية والثقافية، وقد صار ذلك ممكنا في الواقع، عندما صار المستشرقون محترفين في مواجهتهم للإسلام، فقد تحكموا في اللغة العربية تحكما جيّداً، واحترفوا- حِرفة – الطعن في الإسلام، بعد أن تفرغوا له، وأوجدوا له الدعم المالي والرسمي والمعنوي من بلدانهم، إلى أن نجحوا في تخصيص أقسام خاصة بالدراسات الشرقية – تدرس كل ما له علاقة باللغة العربية والإسلام وتاريخه – داخل أرقى وأكبر الجامعات والكليات والمعاهد، وفي كبرى العواصم الأوروبية.

الاستشراق والتنصير من الاستعمار إلى مشاريع التفكيك

لقد انتهز قادة النصارى الاستشراق لتغيير ديمغرافية وجغرافيا العالم الإسلامي، لاستدامة الاستعمار، وتكرير تجربة النصارى في طمس الإسلام من بلاد الأندلس، فحاولوا في بعض الدول المستعمرة تغيير الهوية الإسلامية لسكانها، من خلال  خطط مدروسة، ومدعومة من مختلف الدوائر الاستعمارية، ولعلّ أبرز مثال على ذلك: ما حدث في مصر ايام نابليون وحملته عليها، وفي الجزائر في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، غير أنّ أهداف المستعمر باءت بالفشل، رغم كل الحيل والخطط التي اعتمدها المستعمر وأتباعه.  وبعد تحرر الدول الإسلامية منه، عملوا على استغلاله لخدمة التنصير ولكن بأهداف وغايات جديدة وخطيرة، وهي العمل على إيجاد طوائف نصرانية تتيح لهم إمكانية زرع الشقاق والإنقسام في الدول المسلمة المستهدفة، والتأثير في قراراتها السيادية، بل وجعل هذه الطوائف النصرانية مطية للتدخل الخارجي، حتى لو كانت الطائفة المستهدفة وثنية .

أندونيسيا السودان والجزائر نموذجا

حقق التنصير بأندونيسيا في بضعة عقود  ما عجز عنه الاحتلال البرتغالي خلال أربعة قرون، ما جعل أندونيسيا سنة 1999م تفقد جزء هاماً من أرضها، وهو ما تكرر أيضا في جنوب السودان، وإن كان سكان هاتين المنطقتين السابقتين من الوثنيين، إلّا أن الهدف في هاتين المنطقتين كان محاصرة الإسلام، وتطويقه بجماعات عنيفة في عدائها للإسلام، ويتكرر الأمر الآن في الجزائر المسلمة، التي عجز الاحتلال الفرنسي  خلال قرن و ربع قرن عن تنصير المسلمين فيها، وخاصة الأمازيغ، حيث تشهد منطقة القبائل ظاهرة تنصر الكثير من المسلمين، يقدر عددهم بالآلاف، ولم يكن الأمر صدفة، بل هو ثمرة تنفيذ توصيات مؤتمرات جرت في السبعينات، تخص الجزائر خاصة، والمغرب العربي عموما، ولعلّ أخطر ما في التجربة الجزائرية، القصد الأكبر للتنصير، والذي يهدف للتدخل الخارجي، بدعوى حماية أقلية عرقية ونصرانية، وفصلها عن الجسد الجزائري الضخم والمتلاحم عادة.

ومع انطلاق مشاريع التنصير فعليا بالعالم الإسلامي –  التي يمهد لها الاستشراق الطريق- راح الكثيرون يهونون منها، بناء على تصورات مزاجية، لا على دراسات وخطط مضادة، فكانت النتيجة في الواقع مخالفة لهذا التصور السطحي، فقدّ ظهرت مؤخراً  آثاره في البلاد الإسلامية، خاصة بعد رجوع الكثير من المستلبين حضاريا، الذين تأثروا بشبهات ومزاعم المستشرقين، وعملوا على إقصاء وتشويه الإسلام، بكيل التهم الخطيرة في حقه، وإلصاق تهم العنف و التخلف بشريعته، كما وجد التغريب طريقه إلى نفوس وعقول المسلمين، خاصة الشباب منهم، بسبب غياب المؤسسات الثقافية عن واقع الناس، وبفعل استثمار الواقع المعيشي الصعب والمحبط لهم،  فسقط الكثير منهم في براثن التنصير، ومعاداة الهوية الإسلامية.

وأذكر أن التقيت بأحد مساجد العاصمة الجزائرية وفدا من أعيان بلدة من بلاد القبائل، جاء يطلب الدعم في إيقاف بناء كنيسة ضخمة، ويطلب في نفس الوقت العون والمساعدة في استكمال بناء مسجد البلدة، فلما تحدثت مع إمام المسجد رفض لقاءهم، متحججا بانشغالاته الدعوية، رافضا اللقاء بهم، كما رفض البعض دعوات كثيرة من أجل إيقاف زحف التنصير في بلاد القبائل بالجزائر، الأمر الذي يفسر ارتداد قرى وعائلات كثيرة، ووصول مراسم التعميد إلى منطقة القبائل التي كانت تعد منارة للعلم في المغرب العربي، وأرض الجهاد والمقاومة ضد المحتل الفرنسي. إنّ الحقيقة التي يمكن تقريرها هنا: أن التنصير يتمدد في الفراغ الذي نتركه ولا نعمره.

استراتيجية مواجهة الاستشراق والتنصير

لقد شكل الاستشراق مشكلة كبرى للبلاد الإسلامية، خاصة بعد أن اكتسب تواجداً واضحاً في بعض دول العالم الإسلامي، وساهم في تنصُّر الكثير من المسلمين، بل وحتى إلحاد بعضهم، ولذلك وجب طرح استراتيجية شاملة وفعالة لمواجهته، فهو قرين الحركة التنصيرية. ولم يكن للمنصرين أن ينجحوا في مشاريع التغريب، ومخططات التجزئة، لولا اعتمادهم على الجهود والدراسات التي وضعها المستشرقون – مشاريع المستشرق برنارد لويس نموذجاً – ولهذا فإنّ الحقيقة التي لا يمكن القفز عليها هي: أنّ مواجهة التنصير تبدأ  بمواجهة الاستشراق، فحصار الأخير يمهد لإضعاف جهود المنصرين، وتفعيل الحصانة الدينية للشعوب المسلمة.

ويمكن أن نقترح كخطوة أولية وفعّالة، إدخال مادة الاستشراق في بعض التخصصات الجامعية ذات الصلة، بعد دراسة عميقة من طرف خبراء مختصين، أمّا بالنسبة للمبتعثين فإنّ الخيارات المطروحة هي: منحهم دورات شاملة وسريعة في كيفية التعامل مع الاستشراق، والأفضل أن يتولاها شباب مثلهم، والأحسن أن يكونوا ممن عادوا من الخارج.

ويتوجب كذلك إنشاءُ مراكز دراسات خاصّة بالاستشراق في معظم الدول العربية، تتولى عقد الملتقيات والمؤتمرات التوعوية والتخطيطية، واقتراح رؤى واستراتيجيات للمواجهة الحضارية، واقتراح مواد قانونية تتصدى للثغرات التي يتسلل منها دعاة التجزئة والتنصير، وتمزيق النسيج الثقافي للمسلمين، ويكفي إيجاد هذه المراكز البحثية؛ لظهور خطوات أخرى يراها المتخصصون هامّة ومناسبة، في معركة الحفاظ على هوية المسلمين ووحدتهم من خطر الاستشراق والتنصير ومشاريع التفكيك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى