الاستراتيجيات الأمريكية والتحالفات الدولية عرض ونقد وتقييم 4
إعداد أكرم حجازي
بعض الردود والمناقشات الأمريكية حول الاستراتيجيات
كل التيارات السياسية الأمريكية اليسارية واليمينية، بما فيها الواقعة في صلب الحزبين الجمهوري والديمقراطي، تخوض في حين صراعا أيديولوجيا على السياسات والإستراتيجيات، بمختلف مستوياتها، وفي حين آخر على المصالح. وفي كلتي الحالتين، ورغم الكثير من المهاترات والمبالغات واللامنطق، لا تبدو الهواجس تفارق أحدا من الخائضين. وفي هذا السياق كتب Ian Buruma عن المنتقدين لسياسة الرئيس الأمريكي في مقالته: « أمريكا ومعضلة المرحلة الإمبراطورية المتأخرة[1] – 6/6/2015»، يقول: « يعتقد منتقدو أوباما، سواء على اليسار أو اليمين، أن الولايات المتحدة لديها مهمة فريدة تتمثل في فرض إرادتها على العالم». لكن: «الفارق الوحيد هنا هو أن المنتمين إلى اليسار يبررون وجهة نظرهم بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، في حين لا يحتاج المنتمون إلى اليمين إلى أي مبرر من هذا القبيل، لأن أميركا على أية حال هي أعظم دولة على وجه الأرض».
ويتابع القول: « في الحالتين تستند الفرضية القائلة بأن الولايات المتحدة لابد أن تقود بالقوة، إلى فكرة مفادها أنه في غياب قوة خيرة مهيمنة، تراقب العالم، فسوف يترتب على ذلك انتشار الفوضى، وانتقال زمام الأمور إلى قوى أشد خبثا. وقد عبر مقال حديث للمفكر المحافظ المتخصص في السياسة الخارجية، روبرت كاجان، عن هذا الرأي بوضوح شديد .. أما حجة كاجان، بحسب الكاتب، «فترى أن البلدان الأخرى لا يمكن الاعتماد على تصرفها بشكل مسؤول في غياب الزعامة الأميركية القوية. ومثله كمثل الصقور الأخرى، لا يكتفي بالتحذير من تصرف الحكام المستبدين بشكل سيئ إذا سنحت لهم الفرصة، وهو أمر محتمل بكل تأكيد، بل ويؤكد أيضاً أن الحلفاء الديمقراطيين لا بد أن يتم وقفهم عند حدهم بقبضة مهيمنة محكمة».
بالتزامن مع إصدار إستراتيجية الأمن القومي؛ أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) وثيقة « الإستراتيجية العسكرية الوطنية لسنة 2015»[2]. وفي ذات اليوم كتبت مجلة « فورين بوليس[3] – 2/7/2015»، الأمريكية تقول بأن: « الإستراتيجية العسكرية الجديدة، التي أعدها رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي، تولي اهتماما أكبر بدول وصفتها بالعدوانية مثل روسيا والصين، وتنبه إلى أن التفوق التكنولوجي للجيش الأميركي يتآكل، في عصر تنافس قوى كبرى صاعدة، وتمثل تراجعا حادا عن وثيقة السياسة العامة الأخيرة التي نشرت في عام 2011، عندما ركزت وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) على إعادة تنظيم الأولويات العالمية، بعد أن بدأت تفصل نفسها عن الحروب الطويلة في العراق وأفغانستان». وبدا الأمر للمجلة وهي تنقل عن ديمبسي أن« النبرة في عام 2015 أكثر قتامة». فما الذي قاله الجنرال للمجلة؟
قال بأن:«هناك خطرا قليلا، لكنه متزايد على الولايات المتحدة، في خوض حرب مع دولة كبرى في السنوات القادمة»، وأن: « روسيا أظهرت مرارا عدم احترام لسيادة جيرانها، واستعدادها لاستخدام القوة لتحقيق أهدافها»، وأنه ثمة قلقا من:« القدرات المتزايدة للصواريخ البالستية الإيرانية والكورية الشمالية»، وأنه:«انتقد مزاعم الصين بأحقيتها في كل بحر جنوب الصين وأنها تتعارض مع القانون الدولي»، وأنه:«لمكافحة التنظيمات القوية بعيدة المنال، مثل تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة والجماعات التابعة لها، يتوجب على الولايات المتحدة وحلفاؤها أن يكونوا مستعدين لخوض حرب طويلة، في أوقات غير محددة حول العالم»!!! وهذا بخلاف استراتيجية 2015 التي تتحدث عن« الردع» إلا عند«الضرورة»
وبعد يوم من إصدارها؛ اعتبر Mike Whitney في مقالته: « إستراتيجية البنتاجون لعام 2015 لحكم العالم[4] –
3/7/2015»، أن كل ما فعلته وزارة الدفاع الأمريكية هو:« ببساطة تحديث عقيدة بوش؛ ولكن في خطاب لطيف. فليس هناك حاجة لتخويف الناس في واضحة النهار بالحديث عن الأحادية، والأحاديث الاستباقية، وتجاهل القانون الدولي، أو العدوان غير المبرر. ومع ذلك، الجميع يعلم أن الولايات المتحدة سوف تفعل كل ما تريده للحفاظ على بقاء الإمبراطورية. وتؤكد وثيقة الإستراتيجية العسكرية الوطنية تلك الحقيقة المحزنة».
بمعنى أن الولايات المتحدة تتجه نحو « العدوانية» ضد « الدول»، كعدو أخطر عليها من « الجماعات المسلحة». بل أن الحديث عن « الدول الفاشلة» و « العدوانية» في نص الإستراتيجية، يتقدم على أي حديث آخر، عن أي جماعة مسلحة، أو عن جماعات الجريمة. وهو أمر لافت حقا، في ظل ابتعاد الولايات المتحدة عن شن الحروب الشاملة!
ففي الصفحات الأولى من الإستراتيجية العسكرية، ثمة نزوع نحول التحول ضد « الدول الفاعلة»:«على مدار العقد الماضي، تشكلت حملاتنا العسكرية بشكل رئيس من عمليات ضد الشبكات المتطرفة العنيفة. ولكن اليوم، وفي المستقبل المتوقع، يجب أن نولي اهتمامًا أكبر للتحديات التي تشكلها الدول الفاعلة. فهم يمتلكون القدرة على نحو متزايد على اكتساب حرية الحركة الإقليمية وتهديد وطننا. ومما يثير القلق بشكل خاص، انتشار الصواريخ الباليستية، وتكنولوجيات الهجمات الموجهة، والنظم الآلية، والقدرات الفضائية والشبكية، وتقنيات أسلحة الدمار الشامل، المصممة لمواجهة المزايا العسكرية الأمريكية، والحد من الوصول إلى المشاعات العالمية». ولنترك الكاتب المقيم في واشنطن، يتحدث بلسان قومه عما رآه في تقرير الإستراتيجية.
ففي مطلع مقالته يطالعنا Mike Whitney بإدانة صريحة للعقلية الدموية التي تحكم ساسة وعسكر الولايات المتحدة، حيث يبدأ القول:« لن يجد القراء في التقرير شكلًا من أشكال الندم، على ما تسببت فيه الولايات المتحدة من دمار كبير وخسائر في الأرواح، في البلاد التي لم تشكل أدنى تهديد للأمن القومي الأمريكي. وبدلًا من ذلك، يعكس التقرير الإرادة الحديدية لمؤلفيه، والنخب الأمريكية، على مواصلة المذابح وإراقة الدماء، حتى يتم قتل جميع المنافسين المحتملين، أو القضاء عليهم، وإلى أن يحين هذا الوقت الذي تشعر فيه واشنطن بأن ثقتها بالسيطرة على مقاليد القوة العالمية غير قابلة للتحدي». وفي الفقرة التالية، يشير إلى طرق التضليل التي اتبعت لتمرير الإستراتيجية، بهدف احتواء ردود الفعل: « كما هو متوقع، يخفي تقرير الإستراتيجية العسكرية الوطنية نواياه العدائية من خلال لهجة “الأمن القومي” المضللة. وأن الولايات المتحدة لا تشرع في الحروب العدوانية ضد الدول البريئة التي تمتلك كميات كبيرة من الموارد الطبيعية. لا، بل … فقط مع “التحديات الأمنية” لـ”حماية الوطن” و”تعزيز مصالحنا الوطنية” ». وبعد هذه الفقرة، يتساءل الكاتب بصيغة الاستنكار، عما بدا استغفالا للعقول: «كيف يمكن لأي شخص أن يجادل في ذلك؟ .. ألم تكن الولايات المتحدة تحاول فقط أن تجلب السلام والديمقراطية إلى أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا الآن؟».
تقول الإستراتيجية العسكرية: « سوف تكون صراعات المستقبل متسارعة بشكل أكبر، وتستمر لفترة أطول، وسوف تحدث على ساحة تحدي أكثر فنية .. ونحن يجب أن نكون قادرين على التكيف بسرعة مع التهديدات الجديدة، مع الحفاظ على ميزة نسبية، بالإضافة إلى الميزات التقليدية.. وتختلف تطبيقات أدوات القوة العسكرية التي يتم التعامل بها ضد الدول، تمامًا عن تطبيقات القوة العسكرية ضد تهديدات الفاعلين من غير الدول. ونحن من المرجح أن نواجه حملات مطولة أكثر من مواجهة صراعات يتم حلها بسرعة.. وأصبحت السيطرة على عمليات التصعيد أكثر صعوبة وأكثر أهمية».
هذه الفقرة أعلاه التي اقتبسها الكاتب، يعلق عليها بصريح العبارة قائلا:« الحرب ثم الحرب ثم الحرب. هذه هي الرؤية المستقبلية لوزارة الدفاع الأمريكية». وفي حين « تمتلك روسيا والصين خطة لمنطقة تجارة حرة متكاملة بين آسيا والاتحاد الأوروبي (طريق الحرير) .. من شأنها أن تزيد من فرص العمل، وتحسين البنية التحتية الضرورية، ورفع مستويات المعيشة»، فإن: «الولايات المتحدة ترى الموت والدمار فقط في المستقبل». ولا «تمتلك .. استراتيجية للمستقبل، ولا رؤية من أجل عالم أفضل. يوجد فقط: الحرب، والحرب غير المتكافئة، والحرب التكنولوجية، والحرب الاستباقية. بل وتدعم الطبقة السياسية بكاملها، ومن يدفعون الضرائب من النخبة، بالإجماع حكم العالم، من خلال قوة السلاح. وهذا هو المعنى الذي لا يمكن تجنبه لهذه الوثيقة».
يقتبس الكاتب فقرة من مقالة بعنوان: « – Pentagon Releases National Military Strategy[5] 2/7/2015»، علق فيها الكاتب Aaron Mehta على الإستراتيجية، وصدرت في موقع « أخبار الدفاع» الأمريكي، يرى فيها أن:
« الإستراتيجية تركز على وجه التحديد على إيران وروسيا وكوريا الشمالية كتهديدات عدوانية للسلام العالمي. ويذكر أيضًا الصين، ولكنه يبدأ هذه الفقرة بالقول بأن إدارة أوباما تريد دعم صعود الصين وتشجيعها لتصبح شريكا في تعزيز الأمن الدولي واستمرار الخط الفاصل بين الصين كحليف اقتصادي والصين كمنافس إقليمي»، لكن نص الإستراتيجية يقول: « لا يُعتقد أن أيا من هذه الدول تسعى إلى صراع عسكري مباشر مع الولايات المتحدة أو مع حلفائنا. ومع ذلك، فإن تلك الدول تشكل مخاوف أمنية خطيرة، يعمل المجتمع الدولي على التصدي لها بشكل جماعي ،عن طريق سياسات مشتركة، ورسائل مشتركة، وعمل منسق»!!!
ومع تذكيره القارئ بالجزء الثاني من الفقرة « لا يُعتقد أن أيا من هذه الدول … »، يعلق Whitney عليها، ملاحظا أنه: « لا توجد دولة من تلك الدول تريد محاربة الولايات المتحدة، ولكن الولايات المتحدة تريد محاربتهم. وتشعر الولايات المتحدة أن لديها مبررًا في شن حرب ضد هذه الدول، لأنها إما تسيطر على موارد كبيرة، ولديها قدرات صناعية ضخمة، وتحتل منطقة من العالم تثير الولايات المتحدة من الناحية الجيوسياسية، أو لأن هذه الدول تريد ببساطة أن تحافظ على سيادتها واستقلالها وهذا جريمة بالطبع». وبعد استعراضه للمسألة الروسية فيصراعها مع أوكرانيا، وكذا ما توفره الإستراتيجية من قائمة طويلة من « الأعداء المتخيلين»، وأن قادة أمريكا «أعملوا رؤوسهم فعلا بأن روسيا هي العدو»[6] يختم بعبارة طريفة للغاية يقول فيها: « الحقيقة هي أن وزارة الدفاع الأمريكية ترى أشباحًا في كل مكان. وإذا ما كان الأمر يتعلق بتقنيات جديدة، أو تحول ديموجرافي، أو اختلافات ثقافية، فإنها جميعًا يتم النظر إليها باعتبارها تهديدًا محتملًا للمصالح الأمريكية، وخاصة إذا كان له علاقة “بالتنافس على الموارد” ». لكن هذه هي حقيقة الرأسمالية التي لا ترى في الوجود إلا سلع قابلة للتخمين وعُرضة للكسب والخسارة، ولعل الولايات المتحدة، ووفقا لاستراتيجياتها، لا ترى في نفسها حتى اللحظة إلا زعيمة للسوق.
وعلى خطى Mike Whitney، وبعد نحو أسبوع، صب Paul Craig Roberts جام غضبه، على ما يراه عدوانية أمريكية، لا تستطيع الحياة إلا إذا مات الآخرون. وفي مقالته: «البنتاجون: أمريكا لن تكون آمنة حتى تغزو العالم[7] – 10/7/2015»، يناقش مفهوم السيادة والاستقلالية من منظور الأحادية القطبية، التي لا تتقبل الاختلاف مع الآخرين إلا كتابعين لها، وإلا فالحرب هي الفيصل في العلاقات، وهي المستقبل بالنسبة للولايات المتحدة. وتبعا لذلك لا يرى في الوثيقة: «إلا هراء، كُتب بواسطة المحافظين الجدد، من أجل إشعال الحرب مع روسيا». فلنتابع « هجمات» Roberts المدهشة:
«تعلن هذه الوثيقة تحولًا في تركيز الولايات المتحدة من الإرهابيين إلى “الفاعلين من الدول ذات السيادة التي تتحدى المعايير الدولية“ .. فالحكومات التي تتحدى المعايير الدولية هي دول ذات سيادة تنتهج سياسات مستقلة عن سياسات واشنطن. وهذه “الدول الرجعية” تعتبر تهديدات؛ ليس بسبب أنهم يخططون لمهاجمة الولايات المتحدة، لاسيما وأن وزارة الدفاع الأمريكية تعترف بأن روسيا والصين ليس لديهما نية لفعل ذلك، بل لأنهم مستقلون. لذا يوجه الكاتب خطابه للقارئ بالقول: عليك أن تعي هذه النقطة جيدا: يكمن التهديد في وجود دول ذات سيادة، وأن استقلالها فيما تقوم به يجعلها “دولًا رجعية”. وبعبارة أخرى، فإن استقلالهم لا يتماشى مع مسار العقيدة أحادية القوى للمحافظين الجدد، والتي تنص على أن العمل المستقل هو حق لواشنطن وحدها. وتمنع المعطيات التاريخية لهيمنة واشنطن أي دولة أخرى من أن تكون مستقلة فيما تفعل. ومن هذا المنطلق، فإن أي دولة ذات سياسة خارجية مستقلة عن سياسة واشنطن تشكل تهديدًا».
وبلفتة ساخرة تجد صداها فيما تزعمه استراتيجية الأمن القومي من اهتمام بالقيم والمعايير القانونية والحقوقية يلاحظ Roberts بأن: « تقرير وزارة الدفاع الأمريكية جاء واضحًا في نفاقه بما فيه الكفاية، كما هو الحال بالنسبة لجميع البيانات التي تصدر عن واشنطن، ليعلن أن واشنطن “ تدعم المؤسسات والعمليات التي تم إنشاؤها خصيصًا من أجل منع حدوث الصراعات، واحترام السيادة، وتعزيز حقوق الإنسان“. ويأتي هذا من جيش تابع لحكومة قامت بغزو، وقصف، والإطاحة بـ 11 حكومة، مما أدى إلى قتل وتشريد الملايين من الشعوب، منذ نظام كلينتون. وحتى الآن يعمل النظام على الإطاحة بالحكومات الموجودة في أرمينيا وقرغيزستان والإكوادور وفنزويلا وبوليفيا والبرازيل والأرجنتين. وتتعرض روسيا للانتقاد .. لكونها لا تعمل “وفقًا للمعايير الدولية”، وهو ما يعني أن روسيا لا تتبع القيادة الموجودة في واشنطن، ولا تتصرف كتابعة لها، وهو سلوك لا يحق لأي أحد سوى للدولة أحادية القوة».
وفي الإجمال: «لا يوجد أي شيء آخر يمكن أن يقال عن التقرير .. الذي يبرر الحرب تلو الحرب حتى لا يبقى أحد. وبدون الحروب والغزوات، فإن الأمريكيين لن يكونوا آمنين». أما أبلغ نقد وجهه الكاتب للتقرير فجاء في آخر فقراته حين قال: « يخبرنا تقرير وزارة الدفاع الأمريكية بأن الحرب مع روسيا هي المستقبل ما لم توافق روسيا على أن تصبح دولة تابعة لواشنطن مثل كل دول أوروبا، وكندا، وأستراليا، وأوكرانيا، واليابان. وإذا كان الأمر خلاف ذلك، فقد قرر المحافظون الجدد أنه من المستحيل على الأمريكيين أن يحتملوا العيش في عالم توجد به دول تأخذ قراراتها بعيدًا عن واشنطن. فإذا لم تكن أمريكا هي القوة الوحيدة التي تعطي الأوامر للعالم، فمن الأفضل أن نموت جميعا. أو على الأقل يموت الروس».
من جهته يناقش Peter Harris في مقالته: « بانخفاض حجم الجيش: هل تنتهي الهيمنة الأمريكية؟ – 14/7/2015»، جدلية العلاقة بين الهيمنة وتخفيض عدد الجيش، وموقف النخبة السياسية الأمريكية من مسألة القيادة والهيمنة. ولا ريب أن التخفيض يتعلق بالتوجهات الإستراتيجية الجديدة وبالأزمات الاقتصادية والديون بالإضافة إلى التطور في عالم الحروب الرقمية. ويلاحظ Harris أن: « البعض تفاجأ من قرار الإعلان عن أنّ الجيش الأمريكي سوف يفقد40 ألفًا من الجنود و17 ألفًا من الموظفين المدنيين بحلول عام 2017» .. وأن: «هذه التخفيضات ليس لها علاقة بتقييم أوباما للبيئة الأمنية على المدى القصير، لكنها دليل قبول على المستوى الكلي من قِبل النخبة السياسية الأمريكية بأنه ينبغي السماح بتراجع التفوق العالمي للبلاد، ولاسيما من الناحية العسكرية». وأكثر من ذلك أن: « الطبقة السياسية في الولايات المتحدة قد أذعنت بشكل فعّال في الغربلة للتراجع عن التفوق العسكري للبلاد».
ويشير في موضع آخر، في إطار الجدل الدائر حول خفض الإنفاق، إلى أن:«الاختيار الضمني الذي يواجهه قادة أمريكا ينحصر بين الاستثمار للحفاظ على هيمنة الجيش أو قبول تقليص عدد القوات. بهدوء، وعلى مضض، وربما حتى عن غير قصد، تميل السياسات المالية في أمريكا إلى الخيار الأخير».
في عرضه لتاريخية انتشار الجيش الأمريكي، وقدرته على خوض حروب متعددة في وقت واحد، يكشف الكاتب عن مخاطر تتهدد القدرة على الانتشار بفعالية. وبحسب خطط الإنفاق الحالية، فإن: « التوقعات تشير إلى أن الجيش الأمريكي سوف ينخفض إلى حوالي 420 ألف جندي، وهو الحجم الذي حذّر المخططون العسكريون أنّ من شأنه أن يخاطر بقدرة الجيش على الانتشار بفعالية في مناطق الحروب المتعددة في وقت واحد». وبحسب منطق الرئيس جون كنيدي: «كان من المفترض أن يكون الجيش قادرًا على شن حربين ونصف على نطاق واسع في وقت واحد»، لكن بدلا من القدرة على « خوض ثلاث حروب ونصف في وقت واحد»، بحسب خطط وزير الدفاع، كاسبر واينبرغر، في ثمانينات القرن الماضي، انتهت الطموحات لدى روبرت غيتس سنة 2010 إلى التأكيد على أن:«الولايات المتحدة لم تعد مستعدة لخوض حربين في وقت واحد، وتفضل بدلًا من ذلك تنظيم نفسها لمواجهة التهديدات غير التقليدية مثل الأمن الإلكتروني والإرهاب».
هذا التحول، سواء في القدرة أو الطموح، دفع الكاتب للقول بأن: « هذه الجاذبية البعيدة عن التخطيط للقتال والفوز بالحروب البرية الكبيرة سوف تزداد إذا تقلص حجم الجيش على نحوٍ غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية» .. ويضيف أنه: «بمجرد أن تفقد الولايات المتحدة قدرتها ورغبتها في الحفاظ على الهيمنة العسكرية فوق جميع جيوش العالم، سيكون من الممكن طرح سؤال منطقي وهو: ما هي الجدوى من وجود جيش مكوّن من 420 ألف جندي أو 400 ألف أو حتى 300 ألف؟».
لذا، وأمام هذه المعطيات، لم يجد الكاتب بداً من التذكير بما كتبه زميله،تشارلز كروثامر، قبل نحو ربع قرن حين قال: « إن أكبر تهديد يواجه “اللحظة الأحادية القطب” لأمريكا لن يكون التحدي الخارجي لهيمنة الولايات المتحدة، وإنما عدم الرغبة المحلية في دفع ثمن القيادة الدولية. وفي الآونة الأخيرة، ذكر روبرت ليبر الشيء نفسه بشكل مقنع». ولعل أميز ما في هذه الفقرة، أنها قيلت على لسان كروثامر، في زمن لم تكن فيه أزمات اقتصادية حادة كما هو اليوم، ولا جماعات معادية للولايات المتحدة، ولا ديون مستفحلة. وإنْ صح ما ورد فيها، فهذا يعني أن أمريكا تترهل منذ زمن. ومع ذلك؛ وفي تعليقه على الانتقادات الموجهة للرئيس الأمريكي بخصوص السياسة الخارجية، دافع الكاتب ديفيد إغناتيوس في صحيفة « الواشنطن بوست[8] – 11/9/2015»، القريبة من البيت الأبيض، عن الرئيس وسياسته مشيرا إلى أن: « الأمر الأهم بشأنها هو الفهم الصحيح لما يجري في العالم والتوظيف المبدع لقوة أميركا». فمن جهته يرى أن: «الرئيس .. حاول بكل جهده أن يكون مبدعا في تفادي الأخطاء السابقة في استخدام قوة أميركا، لكنه تعرض لانتقادات واسعة تصفه بالضعف والفشل في إيقاف روسيا والصين اللتين تسببت محاولاتهما لإبعاد أميركا من الشرق الأوسط في مشاكل أكثر من أن تحل المشاكل التي كانت موجودة». وبحسبه، فإن ما يقال عن ضعف أوباما هو « شخصنة» و «استخفاف بجدية السياسة الخارجية».
ولأن: « كثيرا من الجمهوريين، الذين يسعون لخلافة أوباما، تشمل أفكارهم إمكانية استعادة عظمة أميركا، بالمزيد من استخدام القوة»، إلا أن «هذا التوجه يتجاهل التغييرات الكثيرة التي جرت في العالم، والتي من شأنها إبطال فعالية النماذج القديمة لقوة أميركا». لذا، وبحسب الكاتب أيضا فإن: « الرؤية البديلة حول القوة هي التي تتماشى مع حقائق القرن الـ21، والتي تأخذ في الاعتبار أن التكنولوجيا والاتصالات جزأت الدول والتحالفات، وجعلت مشروعات القوة تحديا مختلفا تماما عما كان»، وأن: «الأمر الصحيح هو الذي يتجه للتقاسم العادل للنفوذ في العالم، ويحرص على أن كل الأطراف المعنية تحظى بنصيبها المناسب .. هذا هو النقاش الذي تحتاج إليه أميركا في موسم الحملات الانتخابية الحالية».
[1] Ian Buruma: « أميركا ومعضلة المرحلة الإمبراطورية المتأخرة»، 6/6/2015، موقع « بروجيكت سينديكيت»، على الشبكة: http://cutt.us/TzsRz
[2] « تقرير الإستراتيجية العسكرية الوطنية الأمريكية لعام 2015(= Document: 2015 U.S. National Military Strategy) »، هنا في موقع « news.usni»، على الشبكة: http://cutt.us/3zCwm
[3] « إستراتيجية أميركية لحروب طويلة غير محددة حول العالم»، مجلة « فورين بوليس – 2/7/2015»، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/aiqRZ
[4] Mike Whitney: « استراتيجية البنتاجون لعام 2015 لحكم العالم، 3/7/2015»، موقع « globalresearch»، على الشبكة: http://cutt.us/iy2B5
[5] Aaron Mehta: «Pentagon Releases National Military Strategy– 2/7/2015»، موقع « defensenews»، على الشبكة: http://cutt.us/1Eha2
[6] في سياق العداء الجديد لروسيا، قالت وزيرة سلاح الجو الأميركي، ديبورا جيمس، في مقابلة لها مع وكالة « رويترز – 8/7/2015» البريطانية للأنباء: « أنا فعلا أعتبر روسيا أكبر تهديد»، وأن « مساعي واشنطن لنشر معدات عسكرية ثقيلة، بدول أوروبا الشرقية، خطوة “مهمة” في مواجهة أي تهديد روسي»، وأن « واشنطن ترد على تصرفات موسكو المثيرة للقلق»، ورأت، بعد جولة أوربية لها، أن « التحالف العسكري والتعهدات المرتبطة به يجب أن تكون لهما أولوية واضحة». للمتابعة: « وزيرة أميركية: روسيا أكبر تهديد لأمننا»، 9/7/2015، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/9SrTx، ومن جهته، وبعد مصادرقة الكونغرس الأمريكي على تعيينه رئيسا لهيئة الأركان المشتركة، خلفا للجنرال مارتن ديمبسي، قال الجنرال جوزيف دانفورد، مخاطبا أعضاء مجلس الشيوخ خلال جلسة المصادقة على تعيينه: « إذا كنتم تريدون التحدث عن دولة يمكن = = أن تمثل خطرا وجوديا على الولايات المتحدة فإنني أشير إلى روسيا، وإذا نظرتم إلى سلوكهم فإن أقل وصف يمكن إطلاقه بشأنه هو أنه سلوك مثير للقلق»!!! للمتابعة: « الشيوخ الأميركي يصادق على دانفورد رئيسا للأركان»، 30/7/2015، موقع وكالة « رويترز» البريطانية للأنباء: http://cutt.us/DRNxt. لم يتوقف الأمر عند ذلك. ووفقا لصحيفة « نيويورك تايمز – 4/2/2016» الأميركية، فقد « حددت وزارة الدفاع روسيا كأول مهدد للأمن القومي»، وأعلن وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، من جهته في 2/2/2016 عن « قائمة للدول الأكثر خطرا على الأمن القومي تضمنت الصين، وكوريا الشمالية وإيران وأخيرا “الإرهاب”، واقترح ميزانية لردع روسيا، تضاعف الإنفاق الأميركي في أوروبا أربع مرات في عام 2017، ليصل إلى 3.4 مليارات دولار بدلا من 789 مليونا فقط حاليا». وفي المقابل، « قلل البنتاغون من أخطار أخرى، خاصة خطر تنظيم الدولة الإسلامية». للنظر في: « البنتاغون: روسيا أكبر خطر يهدد الأمن القومي الأميركي»، 4/2/2016، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/zt4q3
[7] Paul Craig Roberts:« البنتاجون: أمريكا لن تكون آمنة حتى تغزو العالم – 10/7/2015»، مرجع سابق.
[8] « كاتب: واشنطن تعيد تقييم سياستها الخارجية»، عن صحيفة « الواشنطن بوست – 11/9/2015» الأمريكية، موقع« الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/OCqFZ
المصدر: رسالة بوست