مقالاتمقالات مختارة

الاحتفال بالمولد النبوي بين ابن تيمية والسيوطي؟

مع بزوغ هلال ربيع الأول من كل عام تُجَّهز جيوش أهل السنة المحافظون على نقاء الدين من البدع، لتعدو أفراسهم مغيرات صبحًا، فأثرن نقعًا، مجلبة على أهل البدع الذين يحتفلون بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم!

ليست هذه مبالغة، بل هي حقيقة في أذهان كثير من خطباء ودعاة الاتجاهات السلفية، هي معركة بكل ما تحمله الكلمة من معان.

والحق أنها ليست معركة واحدة بل هي معارك في إثر معارك يشغل بها الناس طوال العام عن كل ما يزكو بالنفس أو يثقف الفكر أو يرقى بالمجتمع دينيا وأدبيا وسياسيا وفكريا وأخلاقيا.. إلخ، بل هي سلاسل من المعارك التي تتجدد كل عام، بدءا من التهنئة بالعام الهجري مرورا ببدعية الاحتفال بالمولد إلى تحريم صيام رجب والاحتفال بالإسراء إلى الاحتفال بالنصف من شعبان وإحياء ليلة النصف إلى عدم جواز إخراج زكاة الفطر نقودا، هذا غير معارك مستمرة لا تنتهي حول التبرك بالصالحين وآثارهم، والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، والذكر باللفظ المفرد، والصلاة في المساجد التي بها قبور… إلخ مثل هذه الخلافات التي نعرفها جميعًا.

والحق أن لا أريد أن أدخل في النقاش الفقهي، ولا أملك ولا غيري الإغضاء من رأي فقهي، ولا الحط من نقاش علمي في أي مسألة من المسائل العلمية لمن يملك آلته، لكن الذي يجب أن نقف ضده جميعًا أن تتحول هذه المسائل الخلافية إلى حرب يجيش فيها العوام وقودا لنصر رأي فقهي أو علمي، أو أن تأخذ أكبر من حجم الخلاف الفقهي في الفروع الذي قبلته الأمة في عصور رقيها، وتمسي مجالًا للموالاة والمعاداة، والتفسيق التضليل، وتصير هي المقياس لقياس الالتزام الديني في مقابل التسيب والابتداع، بل تنقل من مسائل الفقه إلى مسائل العقيدة! فضلا عن التحزب والبعد عن الأمانة العلمية فيما ينقله فريقا المتحدثين في مثل هذه القضايا.

لنعد إلى موضوعنا الأساسي وهو الاحتفال بالمولد النبوي، ولننظر كيف تعامل معه علماء الأمة من الطرفين من رأوه بدعة ومن رأوه مشروعًا أو قربة.

1- الإمام السيوطي من المؤيدين لعمل المولد:

ألف الإمام السيوطي (ت 911هـ) كتابا سماه (حسن المقصد في عمل المولد) ذكر فيه نصوصا من أقوال العلماء الذين حكموا على عمل المولد بالبدعة كالفاكهاني المالكي ونقل كلامه كاملا وكتابه الذي كتبه في تحريم عمل المولد الذي سماه (المورد في الكلام على عمل المولد)، ورد عليه ردًّا علميًّا ضافيًّا، والعجيب أن السيوطي بعمله هذا هو الذي حفظ لنا كلام الفاكهاني وكتابه.

ومن يقرأ الكتاب لا يجد فيه اتهاما للفاكهاني بتجانف عن النبي صلى الله عليه وسلم أو محبته كما يحلو لكثير من عصريينا من الصوفية أن يلمزوا من بدع أو حرم الاحتفاء بالمولد، بل يجد الإمام السيوطي أقر الفاكهاني على الإنكار على ما قد يلابس المولد من منكرات فقال: (أصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة، وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع). ونقل عن ابن الحاج المالكي (ت: 737هـ) من كتابه (المدخل) ما يقوي هذا المعنى موافقا لما قال مادحا له، وسأنقل كلامه كلاما لأن أصحابنا ممن أكلت العصبية والانتصار للرأي قلوبهم، فحادوا عن الأمانة العلمية، ينقلون كلامه مجتزأ.

2- ابن الحاج المالكي: 

يقول ابن الحاج: (ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد، وقد احتوى ذلك على بدع ومحرمات جمة؛ فمن ذلك: استعمالهم المغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها ببدع ومحرمات، ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه، فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم

الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم؟ فآلة الطرب والسماع أي نسبة بينها وبين هذا الشهر الكريم الذي من الله علينا فيه بسيد الأولين والآخرين، وكان يجب أن يزاد فيه من العبادة والخير شكرا للمولى على ما أولانا به من هذه النعم العظيمة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات، وما ذاك إلا لرحمته صلى الله عليه وسلم لأمته ورفقه بهم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته رحمة منه بهم، لكن أشار عليه السلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين: «ذاك يوم ولدت فيه» فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه، فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة وهذا منها؛ لقوله عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» «آدم فمن دونه تحت لوائي» وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله به من العبادات التي تفعل فيها لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تشرف لذاتها، وإنما يحصل لها التشريف بما خصت به من المعاني، فانظر إلى ما خص الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه، فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به اتباعا له صلى الله عليه وسلم في كونه كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات، ألا ترى إلى قول ابن عباس «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان» ، فنمتثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله على قدر استطاعتنا.

فإن قال قائل: قد التزم عليه الصلاة والسلام في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد علم ولم يلتزم في هذا الشهر ما التزمه في غيره. فالجواب أن ذلك لما علم من عادته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه، ألا ترى إلى أنه عليه السلام حرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة، ومع ذلك لم يشرع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم، فكان ينظر إلى ما هو من جهته وإن كان فاضلا في نفسه فيتركه للتخفيف عنهم، فعلى هذا تعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات، فمن عجز عن ذلك، فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويكره له؛ تعظيما لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احتراما كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرم، فيترك الحدث في الدين ويجتنب مواضع البدع وما لا ينبغي، وقد ارتكب بعضهم في هذا الزمن ضد هذا المعنى، وهو أنه إذا دخل هذا الشهر العظيم تسارعوا فيه إلى اللهو واللعب بالدف والشبابة وغيرهما ويا ليتهم عملوا المغاني ليس إلا، بل يزعم بعضهم أنه يتأدب، فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز، وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالتهوك والطرق المبهجة لطرب النفوس، وهذا فيه وجوه من المفاسد، ثم إنهم لم يقتصروا على ما ذكر، بل ضم بعضهم إلى ذلك الأمر، الخطر، وهو أن يكون المغني شابا لطيف الصورة حسن الصوت والكسوة والهيئة، فينشد التغزل ويتكسر في صوته وحركاته، فيفتن بعض من معه من الرجال والنساء، فتقع الفتنة في الفريقين ويثور من المفاسد ما لا يحصى، وقد يؤول ذلك في الغالب إلى فساد حال الزوج وحال الزوجة، ويحصل الفراق والنكد العاجل وتشتت أمرهم بعد جمعهم، وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع، فإن خلا منه وعمل طعاما فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان، وسلم من كل ما تقدم ذكره، فهو بدعة بنفس نيته فقط؛ لأن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن تبع فيسعنا ما وسعهم).

لكن الأمانة العلمية لعصريينا ممن يحرم الاحتفال بالمولد أبت إلا أن تنقل السطور الأخيرة من كلامه المنقول!!

3- ابن تيمية (ت: 728هـ):

يرى ابن تيمية أن الاحتفال بالمولد بدعة لا تجوز لكنه لا ينفي الثواب بحسن النية وبصدق المحبة في الاحتفال به صلى الله عليه وسلم فيقول في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم): (كذلك ما يحدثه بعض الناس [أي من الاحتفالات الدينية]، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع- من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا. مع اختلاف الناس في مولده. فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضا، أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه (1) طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصًا (2) على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حسن القصد، والاجتهاد الذين يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول، عما أمروا بالنشاط فيه…).

ثم يقول: (فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد).

الخلاصة:

نريد أن تناقش هذه المسائل العلمية الفرعية – أكرر الفرعية- بعيدا عن التجييش والتحزب، في جو من المحبة والود، وبعيدا عن التضليل والتفسيق، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى