الاجتهاد بين العوائق والآمال
بقلم الحسين آيت سعيد
تمهيد:
يحق لنا -ونحن نتكلم عن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية- أن نعتبر قضية الاجتهاد قضية مصيرية وأساسية، عليها ينبني وجود الأمة من عدمها، وليست مسألة التمرين العقلي، أو التغلب على المشاكل الواقعية فحسب، بل هي –قبل كل شيء- تعبير عن حياة الأمة الحقيقية، وانعكاس لاطراد نمائها نحو الأفضل المنشود، ومن هنا فلا يطرح سد باب الاجتهاد وإغلاقه، فقائل ذلك إما أنه لا يعرف طبيعة الحياة والأحياء، وإما أنه قلد غيره، فقال مقالة لم يدر مغزاها، ولا درى نتائجها، والمقلد لا يقلد فيما يقول. ففقدان الاجتهاد لا يساعد عليه عامل الزمن، ولا طبيعة الأحياء، ولا نص الشرع، فهو يعني توقف الحياة وجمودها، وتوقف العقول عن تفكيرها، ومحاولتها اكتشاف كنه الحقائق الخفية، فالتفكير ملازم للعقول ملازمة الظل لصاحبه، فلا يوجد عقل لا يتصف بالتفكير والمقارنة في عالم الواقع، كما أنه لا يوجد حي لا يتطور ويتشكل بسمات الزمان والمكان المكتنفين له، ومن ثم فكل العوامل تساعد على الاجتهاد بضوابطه الحقيقية، وسياجه الواقي، وعناصره المنفعلة والفاعلة، والمؤثرة والمتأثرة، بغية السير ووضع القدم على الطريقة الحقيقية للاستمتاع بأكبر قدر ممكن مما هيأه الله ، وأذن فيه من خيراته في هذا الكون.
ومن الشقاء -بل ومن أشد التعاسة- أن نحرم أنفسنا مما أذن لنا فيه، واللبيب لا يستنكف عن تلبية دعوة كريم مكرم إذا دعاه.
وسأتعرض في هذا العرض الوجيز لبعض عوائق الاجتهاد، لا لكلها، لأن الأمر فيها كلها يستدعي البسط، وهدفنا التنبيه بالأقل على الأكثر، وبالأدنى على الأعلى، قال : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.()
فعلى هذا فعرضي مركب من شقين: شق العوائق، وشق الآمال، وسنبدأ –بحول الله- بالأول ثم الثاني وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.()
1 – شق العوائق :
هذه العوائق تنقسم إلى عوائق واقعية وعوائق منهجية.
– العوائق الواقعية :
العائق الأول: غياب الشريعة الإسلامية عن الواقع الذي يعيشه المسلمون، وعدم تحكيمها فيه، مما أدى إلى تقليص الاجتهاد أو موته بالمرة، إذ الناس لجأوا في حل مشاكلهم اليومية إلى فقهاء القانون الوضعي، لا فقهاء الشريعة الإسلامية، ولذا قام الاجتهاد على قدم وساق عند فقهاء القانون، وكاد يموت –أو مات- عند فقهاء الشريعة. ولا أدل على ما قلنا من الكتب الهائلة التي تصدر كل يوم من القوانين الوضعية التي تنظم كل مجالات الحياة.
إذن الاجتهاد قائم، ولكن ليس في الشريعة الإسلامية وقواعدها، وفقهاء الشريعة آخر من يسأل عن الحلول، أو بالأصح آخر من يستشار فيما ينبغي اتخاذه، بل إذا سئلوا فكثيرا ما يسألون عن المسائل التي هي ألصق بالأشخاص منها بالحياة اليومية (كمسائل الطهارة والصلاة). وأما أن يسألوا عما ينبغي اتخاذه في الميدان الاجتماعي، والنفسي والاقتصادي والسياسي والدولي فلا، وكأن الحلول الإسلامية مقصورة على المسائل الروحية والأخروية، دون المسائل الواقعية المتكررة يوما بعد يوم، ولهذا فالفقيه المسلم قد لا يسأل طيلة حياته عما يجتهد فيه، بل يسأل كثيرا عما لا مجال فيه للاجتهاد، أو ما قتل بحثا واجتهادا، مما أدى بالفقهاء إلى تسليم بساط الحياة لغيرهم، وانسلاخهم من كل مشاركة في حل مشاكل أمتهم. فعلى هذا يجب أولا التفكير في إعادة الشريعة إلى مجالات الحياة لتحكمها، ومن ثم سيضطر –ولا شك- الفقهاء إلى الاجتهاد في كل جديد يلح على حل عاجل، وسيكون الاجتهاد أيضا لا في المشاكل الحديثة، بل حتى في وسائل الاجتهاد، بتطويرها وتقنينها ورفعها إلى مستوى التأثير والتجاوب مع كل حادث.
ومن باب تحصيل الحاصل فنحن نعلم أن الشريعة الإسلامية ليست عاجزة عن تمثل الحوادث ومجاراتها، فكونها قد استوعبت في الماضي المشاكل المطروحة وعالجتها، يهيئها مرة -أو مرات- أخرى للقيام بذلك الدور الآن، لأن ما حدث مرة فبالإمكان أن يحدث مرة –أو مرات- أخرى، وما صيغ واقعا تارة، لا يطلق عليه لفظ الاستحالة تارة أخرى، واقعا وعقلا، فالشريعة الإسلامية حية مرنة، قابلة للتشكيل مع كل جديد، وهذا ما شهد به غيرنا ممن درسوا الشريعة، واطلعوا على أسسها ومبادئها الحية، فهي “لا تضيق بحاجات الناس وما يستجد من أحوالهم وأمورهم، ومحققة لمصالحهم المشروعة، وقد تفطن لهذه الحقيقة المعنيون بدراسة القانون، وأعلنتها المؤتمرات الدولية، كمؤتمر لاهاي للقانون الدولي المقارن المنعقد في سنة 1938 حيث قرر المجتمعون من علماء الغرب في القانون أن الشريعة الإسلامية تعتبر مصدرا من مصادر التشريع العام، وأنها شريعة حية مرنة، قابلة للتطور، وأنها قائمة بذاتها، ليست مأخوذة من غيرها”.()
كما قرر مؤتمر المحامين الدولي المنعقد في لاهاي 1948 القرار التالي: “..اعترافا بما في التشريع الإسلامي من مرونة وما له من شأن هام، يجب على جمعية المحامين الدولية أن تقوم بتبني الدراسة المقارنة لهذا التشريع… والتشجيع عليها”.()
وانصراف الناس عن التشريع الإسلامي واستبداله بالقانون الوضعي، له أسباب داخلية وخارجية، لا تعنينا هنا، وإنما يعنينا أن فقدان الفقه في الواقع أدى إلى فقدان عامل محرك، ودافع للاجتهاد.
العائق الثاني: التقليد.
فانكماش الأمة، وانطواؤها على نفسها، وانبهارها بغيرها قرونا طويلة، أدى بها إلى فقدان الثقة قي نفسها وتشكيكها في قدراتها، وانهيار آمالها في ولوج أي باب من أبواب الحياة، إضافة إلى الدور الخطير الذي لعبته الفئة الرائدة في المجتمع من الفقهاء التقليديين الذين لا يرون حلا لمشكلة إلا فيما ورثوه عن أسلافهم، والتوقف عن كل ما ليس لهم فيه سلف، وكأن المتقدمين -عندهم- استشفوا الغيب وعلموا كل ما حدث وما سيحدث، فوضعوا له حلا ناجعا، فما لم يتكلموا عنه فهو إما غير موجود أو مرفوض، وكأن الفهم والمعايشة والتأثير والتأثر مقصورة على الأجيال السابقة دوننا، وكأن حوادث القرون الخالية هي حوادث عصرنا الحالي نعيشه، فالتيار الجامد لم يسع لإبقاء الناس في ظل الشريعة ومشاكلها، كما لم يحافظ هو نفسه على روح الشريعة وفحواها، مما جعله هو وغيره فريسة للقوانين الوضعية، شاء أم أبى، فعجلة الزمان دائرة –لا محالة- بسرعة قصوى، فاللبق من جاراها في سيرها الحثيث لا من عارضها وتجاهلها، فهي متجاوزة –ولا شك- لكل معارض وجاهل، وكم عانى الأحرار في فكرهم وآرائهم من المقلدة المعارضين، وهذا ما دفع بالحافظ ابن عبد البر إلى القول: “أجمع أهل العلم على أن المقلد ليس من أهل العلم”(). وأعتقد أن تكريس هذا العائق أخطر من غياب الشريعة عن الواقع، إذ هذا يطلع على ويلاته، وذلك لا يتفطن لمفاسده بحجة المحافظة على القديم.
– العوائق المنهـجية:
وتتجلى في أصول الفقه ومقاصد الشريعة.
العائق الأول: أصول الفقه.
إن علم أصول الفقه من أدق المناهج التي تعصم الفكر من الخطأ الاستنباطي والاستدلالي، وكان -بحق- أعظم ما ابتدعته العقلية الإسلامية في حقل المناهج، هذا العلم كان موضوعا قبل كل شيء لإنتاج عقول اجتهادية، قادرة على مواجهة كل مستجد بحلوله الملائمة، ولكن –يا ترى- ما هو السر في عدم قدرة هذه المادة في القرون المتأخرة على تكوين مجتهدين، مع أنها تدرس في المعاهد والجامعات في كافة أقطار الوطن العربي؟ فهل الخلل في المادة، أم في الطرق والأساليب التي تدرس بها؟
وللجواب عن هذا السؤال نقول إن أصول الفقه انتهى بناؤه وتطويره إلى حيث وقف المتقدمون، ولم يضف له أي شيء ذي بال بعدهم، لا في الصورة ولا في المضمون، فأما الصورة فالأبواب التي بحثت، هي نفسها التي يبحثها المتأخرون دون إضافة أبواب جديدة يقتضيها استبحار العمران والحضارة الإنسانية، وأما المضمون فالقضايا التي نوقشت في هذا العلم هي التي يبحثها المتأخرون دونما إضافة، وحتى القضايا التي طرحت للنقاش ولم يحسم فيها، بقيت تدرس على ما هي عليه إلى الآن، ومن هذه المسائل على سبيل المثال اشتراط انقراض العصر في مسألة الإجماع، وإجماع الصحابة على قولين، هل يجوز إحداث قول ثالث، ومسألة انعقاد الإجماع بقول الأكثرين، ومسألة اختلاف الصحابة على قولين، فإذا أجمع التابعون على أحدهما هل يعد إجماعا؟ وغيرها كثير مما يستحق التحرير. أضف إلى ذلك ضرورة فصل هذه المادة من كل ما لا يفيدها مما أقحم فيها وليس منها من مواضع علم الكلام والمنطق الأرسطي، والتنظير الفكري، إذ من المسلم به أن المادة بالدرجة الأولى هي مادة واقعية محسوسة تنصب على ما هو موجود بالفعل، وعلم المنطق أكثره تنظير عقلي فلسفي لا رصيد له من الواقع، فتدريسها بالطرق الكلامية والمنطقية شوه جمالها، وأبعدها عن مسارها الحقيقي، مما أدى بطلاب هذه المادة إلى أن ينشغلوا بمسائل خيالية، فشغلهم ما لا وجود له عما له وجود، فضاع بذلك الاجتهاد والمجتهدون، وضاعت بذلك أيضا المادة التي هي أساس الاجتهاد، ومن هنا من ينادي بضرورة تدريس أصول الفقه بالمنهج الكلامي فهو يجهل حقيقتين هامتين: أولاهما واقعية، والثانية تاريخية.
فأما الواقعية فتتمثل في نداء جماعة من الجهابذة بفصل علم المنطق عن أصول الفقه، ومن لم يناد بذلك فقد نفذ ذلك عمليا بخلو مؤلفاته الأصولية من المناهج المنطقية. فهذا الحافظ ابن حزم (ت456 هـ) –إمام أهل المغرب والأندلس- ألف كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” وجرده من مناهج المنطق الأرسطي، وواجه فيه الحقائق الواقعية بنفس المقتدر المستغني عن مناهج المتكلمين، وأعتقد أن ذلك كان منه رد فعل على من أقحموا هذا الجسم الغريب على هذه المادة، وأراد أن يبرهن بأن علم أصول الفقه لا يتوقف بحثه على هذا العلم بقدر ما يتوقف على الواقع، وقد أشار إلى ما قلنا إشارة عابرة في مقدمة كتابه حيث قال: “وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا موجبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى مستقصى، محذوف الفضول، محكم الفصول”()، فقوله: “محذوف الفضول” إشارة منه إلى المسائل الفضولية التي أدرجت في هذه المادة، ولا تنطوي على فقه ديني ولا دنيوي.
وهذه الخطوة الفعالة العملية من ابن حزم رحمه الله،جاء بعده من يحمل مشعلها بقوة، بعد ثلاثة قرون ونصف في الأندلس أيضا، فهذا الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت790هـ) يقول في موافقاته –في المقدمة الرابعة-: “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية، والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك، فليس بأصل له… وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها، كمسألة ابتداء الوضع، ومسألة الإباحة، هل هي تكليف أم لا؟ ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي متعبدا بشرع أم لا، ومسألة لا تكليف إلا بفعل، وكمسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي”(). ثم قال أيضا في المقدمة الخامسة: كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا.()
أضف إلى ما ذكره الشاطبي مسألة الاختلاف في الاسم والمسمى، وفي التحسين والتقبيح العقليين، والتكليف بما لا يطاق، وإذا جئنا إلى باب القياس الذي هو قطب رحى الاجتهاد نجد أن العلة يتكلم عليها بلغة المنطق، لا بلغة الشرع، فبعدما كانت العلة تعتبر سبب الحكم وحكمته، أصبحت تعرف على أنها أمارة ومعرفة للحكم، لا أنها حكمته وغايته من جلب مصلحة أو دفع مفسدة.
فهذا الذي ذكره الشاطبي ولمح إليه قبله ابن حزم وفصل فيه غيرهما كاف في جعل مادة أصول الفقه مادة جدلية بالدرجة الأولى، لا مادة استنباط وارتباط بالفقه، وكأنك حينما تقرأ كتابا في الأصول –كالمستصفى- وجمع الجوامع، داخل في معركة حامية الوطيس، من كثرة الإيرادات والاعتراضات، والتنظيرات العقلية، مما ينسيك مهمتك الأولى والجوهرية والتي هي التحقق من القاعدة، ثم البحث عن فروعها التطبيقية التي هي المتوخى المقصود.
وأما الحقيقة التاريخية فتتجلى في أن أصول الفقه ازدهر وأنتج المجتهدين بكثرة قبل أن تدخل إليه مناهج المنطق الأرسطي، وبعد دخولها لوحظ انحراف في المسار، وتقلص في النتائج، فكان هناك صعود وهبوط، فملاحظة ما قبل التأثر بهذه المناهج كان خط الاجتهاد في صعود، وكان عدد المجتهدين وفيرا، يعج بهم العالم الإسلامي كله، وبعد التأثر –خاصة في القرن الخامس- لوحظ هبوط في هذا الخط، فلا بناء يعتبر في أصول الفقه، ولا في الفقه نفسه، مما يحتم ربط ذلك بهذا السبب ولا بد.
ومما يزيد هذا تأكيدا أنك لو نظرت إلى من درس الأصول من الكتب غير الكلامية، وإلى من درسها من الكتب الكلامية، لوجدت بونا شاسعا، بحيث تجد الأول يستثمر ما درسه واقعيا، وتبرز شخصيته واضحة في كل ما يتناوله من أبحاث، وتجد الثاني يدور في فلك العموميات، وقد يحفظ قواعد لا يعرف لها ولو فرعا فقهيا واحدا.
العائق الثاني: مقاصد الشريعة.
إن المقاصد التي هي من أصول الفقه أو من تتمتها، قد أدى فصلها عنه إلى مخاطر كثيرة، ومن هذه المخاطر اعتقاد أن هذه المادة مستقلة عن أصول الفقه، شكلا وموضوعا، مما أدى إلى الاهتمام الزائد بدراسة أصول الفقه على حساب مقاصد الشريعة، التي قد تجوب قبيلة كاملة، ولا تجد من يعرف عنها شيئا، فالجامعات والمؤسسات في الوطن العربي -على كبر حجمها- لا تدرس هذه المادة –إن درستها- إلا تبركا واطلاعا، وليس تخصصا وتعمقا.
فأحظى الجامعات وأكبرها –وهي الأزهر بمصر- يقرر بعض مباحثها في سنة الإجازة فحسب، وأكثر الجامعات لا تعرج عليها نهائيا مما أدى إلى نتيجتين هامتين: الأولى: الاهتمام الكلي بأصول الفقه دون المقاصد التي تعتبر أداة كاملة للاجتهاد والثانية: الكم الهائل من المؤلفات التي نجدها في الجانب الأصولي دون الجانب المقاصدي. فما ألف في أصول الفقه، من أصول وملخصات وحواش واستدراكات، يعد بالآلاف ويقابل ذلك كم ضئيل جدا من المؤلفات في المقاصد، ولا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن المؤلفات في صميم المقاصد، قد لا تعدو ثلاثة مؤلفات أو أقل في التاريخ الإسلامي كله، مما يؤذن بانفصال المقاصد عن الأصول منذ زمن بعيد، فأجمع ما كتب في ذلك قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (ت 660 هـ) وأعلام الموقعين لابن القيم (ت 751 هـ) والموافقات للشاطبي (ت 790 هـ) ومقاصد الشريعة للطاهر ابن عاشور، إلا أن الذي أحكم بناء المقاصد، وأظهر محاسنها يبقى هو الشاطبي، وجهود المتقدمين في هذا الباب كانت مبعثرة، لا يجمعها باب أو فصل، وأكثرها في كتب الفقهاء، فإبراز مناهج الاجتهاد من جديد يرتبط بالتلاحم الطبيعي بين أصول الفقه والمقاصد، فالأصول تمثل علم أسرار العربية، والمقاصد تمثل علم مقاصد الشرع، وأعتقد أن التطور الهائل الذي شهدته جميع مرافق الحياة لا يقوم بحل مشاكله إلا الأصول والمقاصد معا، فمن الضروري مواصلة البناء والتقعيد فيهما معا.
وحاصل ما ذكرنا أن أصول الفقه أصيب بثلاث علل: 1-إدخال علم الكلام فيه. 2-إخضاع كثير من قواعده للمنطق الصوري. 3-بتره وفصله عن المقاصد التي هي جزء منه.
2 – شق الآمال :
وتتمثل هذه الآمال في أن الاجتهاد –في جملته- ميسور في العصر الحاضر أكثر من أي وقت مضى، ويتجلى ذلك في ثلاث نقط:
أولا- توفر الكتب والمجلات المتخصصة، ولذا فالإنسان يمكن له أن يحصل على أي نوع من المعلومات التي يريدها في أقرب وقت، وبجهد قليل، وهذا لم يتوفر للعلماء السابقين، فكم من كتب، وكم من اجتهادات تقع خارج محيطهم ولا يدرون عنها شيئا، ومع ذلك فالاجتهاد بينهم قائم، وسوقه نافقة، كل بما عنده، وما وصل إليه.
ثانيا- ظهور النماذج التطبيقية للاجتهاد في العالم الإسلامي، ويظهر ذلك في المجامع العلمية والمؤسسات المتخصصة التي تشق طريقها في ميدان الاجتهاد في كل جديد بشكل جماعي يجمع بين الفقهاء والأطباء والفلكيين وعلماء النفس والاجتماع وفقهاء القانون، وكل يدلي برأيه في المسألة المعروضة، فينتهون إلى حل ملائم في ضوء الشريعة وقواعدها العامة.
ثالثا- النداء المتكرر والاقتناع التام بأن الاجتهاد ضروري، وصيرورة تاريخية لا غنى عنها، وهذه علامة على صحو الأمة من غفوتها الطويلة، وهذا النداء تسمعه في كل بقاع العالم الإسلامي.
ولا يؤثر فيما ذكرنا من الآمال عوارض جانبية، أو أمراض بادية، فذلك عرض زائل. وتتجلى هذه المؤثرات في ما يصاحب هذه الآمال من زخم عاطفي ورد فعل جامح، مما نشأ معه من يدعو لفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، يلجه كل تقي وغبي، ونشأ معه من يدعو للاجتهاد في حد وجود الموروث، والوقوف عند نماذجه فحسب، وكلا الاتجاهين على خطأ لعدم استيعابهما لمعنى الاجتهاد المطلوب، الذي هو فهم الواقع، والانطلاق من حيثياته في ربطها بالشريعة في قواعدها العامة، فلا أصحاب العاطفة عرفوا واقعهم ودرسوه دراسة واعية، ولا أصحاب التحفظ الكامل، درسوا العوامل التاريخية التي تتغير فيها النماذج كلية، وتصبح المعاني هي التي تعلق بها الأحكام.
وهناك ناحية أخرى يجب أن لا نغفلها، وهي كثرة الكتب وتوفرها بشكل لم يسبق له مثيل في كل فن، فهذا الركام الهائل قد يصاب الإنسان أمامه بالإحباط ولا يدري ماذا يأخذ، ولا ماذا يذر، مما يقتضي منه وقتا غير قصير في عملية الاختيار، وقد يصل إلى حالة يصدق عليه فيها قول الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش وما يدرى خراش ما يصيد
فهذا قد يكون عائقا أحيانا، ليس في عملية الاجتهاد فحسب، بل حتى في عملية تمثل الطريقة التي يجب سلوكها. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضا الصعوبات التي يلقاها المجتهد في تراثنا نكون قد أدركنا معاناته من وجوه:
-الأول: عدم الفهارس الكافية التي تمكنه بسهولة من الاطلاع على ما يريد، فقد يكون بحث مسألة واحدة يستغرق منه أسبوعا أو أسبوعين، وقد يجدها في كتاب لا علاقة له بذلك التخصص، كما نجد في كتب النحو مسائل فقهية، ونجد في كتب الفقه قواعد نحوية، وهكذا فالباحث في تراثنا لا يستطيع أن يجزم بالأحكام التي يصدرها مخافة أن يفوته شيء في كتب لم يطلع عليها، وقد يقرأ مجلدات في البحث عن مسألة، وقد يعثر عليها أو لا يعثر، فالفهارس تلعب دورا مهما في تقريب العلم، وتوفر على الباحث الجهد النفسي والمالي، والوقت الثمين.
-الثاني: جمع كل ما لم ينشر من تراثنا لنشره، حتى إذا قامت عليه دراسات تكون دراسات متكاملة من كل وجه، وأعتقد أن الدراسات القائمة على تراثنا إلى الآن نتائجها المتوصل إليها، لا تمثل الحقيقة الكاملة بل هي حقائق جزئية فحسب، وذلك لفقدان حلقات أخرى، قد تثري رؤيتنا، وتعمق دراستنا، وتنهي المشكل بيننا.
-الثالث: التوجيه من المتخصصين إلى ما يؤخذ وما يترك، فالإنسان قد تذهب زهرة عمره في التنقيب والاختيار، فعملية التوجيه إلى النافع، هي في سلم الأولويات التي لا غنى عنها إذا أردنا أن نحرك عملية الاجتهاد إلى الأمام.
ملحوظات حول مسائل مهمة في أصول الفقه
I – تأثيـر العلة فـي الأحكام :
الملحظ الأول : الأحكام الشرعية معللة بمصالح العباد، وهذا الأصل قرر بأدلة بلغت حد التواتر والقطع من الكتاب والسنة، وعمل من تقدم.
وتقسيم الأحكام إلى معللة وتعبدية يرجع إلينا نحن لا إلى الأحكام الشرعية نفسها، لأن ما أدركنا علته نقول إنه معلل وما لم ندرك علته نقول إنه تعبدي، فنلاحظ فيه جهة الامتثال دون جهة المعنى لخفائه علينا، فنمتنع من توسيع مجراه، وتعدية حكمه إلى غيره، لعدم معرفتنا بالمناط الذي يرتبط به التعدي.
والدليل على ذلك كثير من القضايا التي قيل فيها بالتعبد في ما غبر، ثم لما تقدمت وسائل معرفتنا أدركنا عللها، وعليه فالقول بالتعبد يؤول إلينا وحدنا لا أن الله شرع حكما لا علة له ولا حكمة، فالقواطع دلت على أن الله أرسى قانون كونه وخلقه وشرعه على الأسباب والغايات، وكل شيء سواه في حركة دائبة لتحقيق غايته، بعد تولده عن سببه قال وآتيناه من كل شيء سببا() وقال أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا() فكما لا عبثية في خلقه، فكذلك لا عبثية في أمره وحكمه، وقال أيحسب الإنسان أن يترك سدى()، وقال من حديث أبي سعيد”ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء، علم ذلك من علمه، أو جهل ذلك من جهله، إلا السام، قالوا: يا نبي الله، وما السام؟ قال: الموت”.()
وهذا يعني أن الجهل بالسبب لا يعني نفيه، فقد يحول بين المرء وبين إدراكه موانع أخرى ترجع إليه، فيكون ذلك قصورا أو عجزا من جهته لا من جهة أن السبب غير موجود، وهذه أمثلة لا نريد حصرها، وإنما ندلل بها على اعتبار السببية في القانون الكوني كله.
الملحظ الثاني: واقعية العلة والمعلول أو واقعية السبب والمسبب.
نحن ندرك جميعا أن الحكم الشرعي يكون على فعل ملموس واقعي، يقوم به المكلف، سواء كان إيجابا أو نفيا، وفعل المكلف هذا هو سبب ذلك الحكم، بحيث يتعذر وجود الحكم بدون سببه، فيؤدي ذلك إلى أن السبب مرتبط بالواقع ويستمد منه، والحكم كذلك، وتختلف مراتب الحكم إيجابا أو تحريما، أو كراهة أو ندبا، أو إباحة باختلاف نوع السبب أو كمه الذي رتب عليه الحكم، فيغلظ الحكم حينما يكون السبب فظيعا، ويخفف حينما يكون السبب خفيفا.
أو بعبارة أخرى: يعظم الحكم حينما تكون المفسدة أو المصلحة التي يؤدي إليها عظيمة، ويتوسط فيه حينما يحقق مفسدة أو مصلحة متوسطة، ويخفف حينما ترتب عليه مفسدة أو مصلحة خفيفة.
إذن، لا الحكم ولا علته ينفكان عن الواقع أصلا، وهذا ما يعنى بتعريف الأصوليين للعلة بقولهم: “وصف ظاهر منضبط يؤدي إلى المصلحة”. فمعنى الظهور عندهم أن تكون العلة مدركة بالحواس الخمس، وهذا يعني واقعيتها الذي يستلزم واقعية الحكم ضرورة.
فمثلا، قطع يد السارق علته السرقة، فالعلة ملموسة محسوسة واقعية، والحكم أيضا واقعي، ومناسب عقلا لهذه الجريمة، فالعقل يدرك أن الاعتداء على الغير تناسبه العقوبة والردع لتحقيق المصلحة العامة التي هي الحفاظ على الأموال، والعقل يدرك المناسبة الخاصة التي بين اليد السارقة والقطع، فجاء التناسب بين الواقع والعلة والحكم، وهذا التناسب هو المؤدي إلى الإذعان لأحكام الشرع، لأنه لا يلاحظ فيها المكلف نشازا يجعله مستنكفا عن الانقياد لها، ولذلك سماها الفقهاء زواجر وجوابر، وذلك لا يتصف به غيرها.
وفي صدد هذه المناسبة قال العز بن عبد السلام: فالضرورات مناسبة للمحظورات، جلبا لمصالحها، والجنايات مناسبة لإيجاب العقوبات، درءا لمفاسدها.()
الملحظ الثالث: نوع الارتباط القائم بين العلة ومعلولها.
هناك ارتباطات متعددة بين العلة والحكم، ينظر فيها تارة إلى مجموعها وتارة أخرى إلى كل واحد منها، وسأقتصر على ذكر ثلاثة منها.
أحدها الارتباط الوجودي بحيث لا يوجد الحكم بدون وجود علته.
وثانيها الارتباط الفهمي والموقفي معا، ومعنى ذلك أنه لا يمكن أن تفهم أن هذا علة أي سبب إذا لم يترتب عليه شيء، فبواسطة الحكم نفهم أن ما أدى إلى ذلك الحكم هو العلة فيه، ويتوقف تحديد أن هذا الوصف علة على ما أدى إليه ذلك الوصف من آثار واقعية، فما أكثر الأوصاف التي لا تنتج شيئا، فلا نسميها علة، وهذا معنى الأصوليين بقولهم: “تزول الأحكام بزوال عللها”() و”الحكم يدور مع علته وجودا وعدما”.()
فمثلا: السفه سبب للحجر على السفيه، فإذا زال السفه زال الحجر، وإذا عاد عاد الحجر، والملكية سبب للانتفاع والنفع بالمملوك، إذا زالت الملكية زال النفع، وإذا عادت عاد. وهذا الزوال والثبوت للسبب أو للمسبب أو لهما معا أمور واقعية تابعة لتصرفات الناس وأحوالهم التي لا تنفك عن صيرورة مستمرة، وأحكام الله تتغير تبعا لتغير الأوصاف التي ترتبط بها، فما قام فيه وصف الحظر حظر، وإذا زال ذلك الوصف فقام فيه وصف الإباحة أبيح، وهذا ما يعني أن الشيء الواحد يتغير حكمه بتغيير علته، وقد يزول أحيانا السبب، ويبقى حكمه مستمرا لا لارتباط الحكم به بعد الزوال وإنما لملاحظة السبب الذي شرع من أجله حتى يقارن المكلف بين حاله وقت السبب والحالة التي آل إليها بعد زوال السبب، فيدرك الفرق الذي يترتب عليه استشعار المنة.
وثالثها: الارتباط المصلحي، فالعلة والمعلول معا، لا بد أن يترتب على وجودهما تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة في الواقع، وإلا كان وجودهما عريا عن الفائدة، ويكون بالتالي قيام المكلف بالسبب هدرا لا قيمة له، ولا يفهم مغزاه، ويستلزم ذلك كله الخروج عن سنة التغيير، والصيرورة الكونية لجميع الأشياء.
II – تأثيـر الأشخاص فـي الأحكام الشرعية:
حالة المكلف لها دخل في تكييف الحكم وتنزيله عليه، فحكم العالم غير حكم الجاهل، وحكم المختار غير حكم المكره والمضطر، وحكم القاصد غير حكم المخطئ، وحكم الصحيح غير حكم المريض، وحكم المسافر غير حكم المقيم، وهكذا.
والمقصود أن نازلة واحدة قد يعطى لها حكمان باعتبار حالة الشخصين السائلين عنها.
مثال: رجل نطق بكلمة الكفر مختارا، حكمه الخروج من الملة، ورجل نطق بها تحت التهديد والإكراه والتعذيب، حكمه أنه مؤمن ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان، وقد أعطى ما أعطى بلسانه فقط دون قلبه.
مثال آخر: المضطر يباح له استعمال ما اضطر إليه من محرم بقدر حاجته، بخلاف المختار فإنه يحرم عليه تناول محرم، فهذه عين واحدة، حكم فيها بحكمين باعتبار حالة شخصين.
مثال آخر: المسافر سفر الطاعة، له رخصة القصر والفطر، والجمع بالاتفاق، والمسافر سفر المعصية لا حق له في تلك الرخصة عند الشافعي، وأحمد بناء على اعتبار حال الشخص وقصده، واعتبار المعنى الذي شرعت له الرخصة، وهو التيسير والترفق بالعبد المكلف في العبادات والعادات، لكن إذا خرج العبد بنية المعصية فإنه لا يستحق التخفيف عنه، وإنما يستحق التشديد عليه، فلو رخص له لانهمك في معاصيه، فإذا شدد عليه كان ذلك أدعى لردعه وزجره.
ومن خالف من الحنفية في هذا قالوا: الرخص لا تناط بالمعاصي().
والمقصود عند المجيزين أن هذه حالة واحدة، اختلف حكمها بالنظر إلى حال الشخصين.
مثال آخر: عن أبي هريرة أن رجلا سأل النبي عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب()، وفي رواية عائشة أنه قال: “الشيخ يملك إربه، والشاب يفسد صومه”(). والغرض أن المسؤول عنه واقعة واحدة، فاختلف فيها الحكم باختلاف حال الشخصين السائلين، وهذه غاية الواقعية في الأحكام الشرعية.
مثال آخر: عن أسامة بن زيد أن النبي بعثهم إلى الحرقة، فلحق هو ورجل من الأنصار رجلا، فلما غشياه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنه أسامة حتى قتله، فبلغ ذلك النبي فقال: يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله، قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.()
فأسامة هنا قد قتل رجلا مسلما متعمدا، فالواقعة تقتضي الحكم بالقصاص، تطبيقا لقاعدة النفس بالنفس، لكن عدل عن هذا الحكم، لأن أسامة تأول أن إيمانه إنما كان إكراها، فأسقط عنه هذا التأويل الحد. قال الخطابي: ولعل أسامة تأول قوله فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا (). ويقال على هذا كل متأول مخطئ في تأويله إذا كان لتأويله وجه سائغ وقوي، بخلاف ما إذا كان تأويله ضعيفا أو باطلا، فإنه لا يعذر بذلك، كتأويلات الباطنية والخوارج التي لا تستند إلى شبهة قوية، أي مدرك ظاهر.
مثال آخر: عن أبي قتادة الأنصاري أنه سئل عن صوم يوم عرفة فقال: “يكفر السنة الماضية والباقية”. وسئل عن صوم عاشوراء فقال: “يكفر السنة الماضية”.
ومعلوم أن من صام يومين آخرين غير هذين فلن يحكم له بهذا الحكم، مع أن المدة الزمانية التي أمسك فيها هذا وهذا واحدة حدا وحقيقة، واختلف الحكم بتأثير الزمان فيه، فقد فضل الله أزمنة على أخرى، وترتب على ذلك أن فضل ما يقع فيها من العمل على ما يقع في غيرها، قال ابن القيم: “وإذا تأملت أحوال هذا الخلق، رأيت هذا الاختبار والتخصيص فيه دالا على ربوبيته ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته”.()
ويدخل في هذا تفضيل ليلة القدر على جميع الليالي، وتفضيل شهر رمضان على سائر الشهور، وتفضيل عصر النبي على جميع العصور، وتفضيل يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع.
III – تأثيـر الزمان فـي الأحكام الشرعية:
الزمان له دور في الحكم الشرعي، فقد يشرع في زمان ما يمنع في غيره، وقد يمنع في زمان ما يشرع في غيره، فالشيء الواحد قد يختلف باختلاف زمانين وقد يتفاضل باعتبار زمانين، وصاغ الفقهاء هذا المعنى في قاعدة: “لا ينكر تغيير الأحكام بتغير الزمان”().
مثال ذلك قوله : “من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر”.()
فهذا الفضل مرتبط بزمان معين، فلو صام شخص آخر ستة أيام في غير شوال لن يحكم له بهذا الحكم، مع أن هذا صام مقدار صيامه ذاك حقيقة وعددا، فحكمها مختلف باختلاف الزمان الذي أوقعا فيه الفعل، فالتأثير في تضعيف الثواب كان بالزمان لا بالعمل، فلو صام شخص ثالث أضعاف ستة أيام في زمان آخر لن يكون له ذلك الثواب أيضا.
مثال آخر: أوقف عمر رضي الله عنه حد السرقة عام الرمادة مع وجود مقتضيه من السرقة، ذلك أن الظرف ليس ظرف إقامة الحدود، لضبط النظام العام من الاختلال، لأن الاختلال واقع بالمجاعة والضرورة المحوجة، التي تدفع المدفوع إلى فعل ما يفعله تحت تأثير المسغبة، ومن الفقهاء من يخرج فعله على أن شرط إقامة الحد مفقود، ذلك أن السارق لا بد أن يسرق مختارا، فإذا كان مكرها لا يؤخذ بفعله، تطبيقا لقاعدة: “المكره لا إرادة له”، وهذا وذاك يفهم من أن عمر قد جيء بغلمان لحاطب بن أبي بلتعة قد سرقوا ناقة رجل من مزينة، وأقروا على أنفسهم فأمر بقطعهم، ثم فكر فردهم فقال: “أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم، وتجيعونهم، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له، لقطعت أيديهم. وأيم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال: يا مزني، بكم أريدت منك؟ قال:” بأربعمائة، قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمائة”.()
وخرجه أيضا بعض الفقهاء على ما اجتمع فيه علتان، فأثرت إحداهما دون الأخرى، فالعلتان هما السرقة والضرورة، فأثرت الضرورة في عدم القطع، ولم تؤثر السرقة لفقدانها شرطا من شروطها. وكيفما خرج فإنه يدل على أن الزمان والأحوال لها تأثيرها في الحكم منعا واستجلابا، وتعظيما وتحقيرا.
ويشبه هذا إمضاؤه الطلاق الثلاث بلفظ واحد، فقد كان الناس في زمن النبي وأبي بكر يتقون الله في الطلاق الثلاث ويتحرون فيه، ولا يتلاعبون به، ويستعظمون أمره، وذلك إذا وقع من أحدهم بلفظ واحد فإنه يعد له تطليقة واحدة، لكن لما تقدم الزمان بدأ الناس يستخفون بأمر الطلاق الثلاث المذكور ويستهينون به ما دام يعتبر تطليقة واحدة، فصار جل من يقع بينه وبين زوجه أدنى شيء يقول: أنت طالق ثلاثا، استخفافا واستهانة به. فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة() فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم(). وفي رواية: فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم()، قال ابن القيم: “والمقصود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يخف عليه أن هذا هو السنة، وأنه توسعة من الله على عباده، إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة، لم يملك المكلف إيقاع مراته كلها جملة واحدة كاللعان… ولكن رأى أمير المؤمنين عمر أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره… فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم، فرأى عمر أن هذه مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي وعهد الصديق، وصدر من خلافته كان الأليق بهم، لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله، ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم… فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان”.()
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فإنه –أي عمر- لما رأى الناس قد أكثروا مما حرمه الله عليهم من جمع الثلاث، ولا ينتهون عن ذلك إلا بعقوبة، رأى عقوبتهم بإلزامها، لئلا يفعلوها، إما من نوع التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق الرأس، وينفي… وإما ظنا أن جعلها واحدة كان مشروطا بشرط وقد زال، كما ذهب إلى مثل ذلك في متعة الحج…”.()
IV – تأثيـر المكان فـي الأحكام الشرعية:
البيئة أو المكان الذي يوجد فيه المكلف له دور في تخفيف الحكم أو تغليظه أو إيجابه أو إسقاطه، تبعا لمصلحة راجحة يجلبها، أو مفسدة راجحة يدرؤها، وتتفاوت الأحكام بتفاوت الأمكنة التي تقع فيها، فشيء واحد قد يختلف حكمه من مكان إلى مكان، مثال ذلك: الصلاة في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، أفضل من الصلاة فيما سواهما من المساجد، ففي حديث أبي هريرة أن النبي قال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في سواه، إلا المسجد الحرام.()
قال الحافظ: “لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها، مما تكون العبادة فيه مرجوحة”. وعليه، فإذا كان الثواب يتضاعف بالأمكنة فإن الوزر أيضا كذلك، فمن اقترف ذنبا في مكة أو المدينة ليس كمن اقترفه في غيرهما، فهذا يعتبر ذنبه ذنبا واحدا، وذاك يضاعف وزره، ويدل على ذلك ما روي عن ابن عمر وكان له فسطاطان أحدهما بالحل، والآخر بالحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم بالحل، وإذا أراد أن يصلي صلى بالحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول: كلا والله، وهي والله. والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين: إحداهما بنفس المخالفة، والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام.()
وقال ابن القيم: ومن خواصه – يعني المسجد الحرام – أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات، وإن لم يفعلها، قال ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم(). ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة جزاؤها مثلها، وصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه، آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه، فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات.()
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن إثم المعصية هل يزداد في الأيام المباركة أم لا فأجاب: “نعم، المعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان”.()
وقال العز بن عبد السلام: فصل في تفاوت الأعمال مع تساويها باختلاف الأماكن والأزمان.()
مثال آخر: يقول الأحناف في قاعدة فقهية: “اختلاف المكان يوجب تباين الأحكام كدار الإسلام ودار الحرب، فإذا هاجر أحد الزوجين مسلما من دار الحرب، وتخلف عنه الآخر، فالنكاح ينقطع”.()
فالمكان هنا أثر في النكاح بقاء وانقطاعا، فلما اتحد المكان أثر في البقاء والاستدامة، ولما اختلف أوجب الانقطاع والانفصال.
مثال آخر: زكاة الفطر، فرضها رسول الله صاعا من تمر، أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب، على الذكر والأنثى، والحر والعبد، والصغير والكبير من المسلمين.
فهذه المحددات المنصوصة تختلف باختلاف الأمكنة، فهناك بلدان لا يوجد فيها شيء من المذكورات المنصوصة، وإنما يعيش أهلها على غيرها، كآسيا التي يوجد فيها الأرز فحسب، وكالبلدان التي لا يوجد فيها إلا الموز، فهذه البلدان تخرج زكاة الفطر مما هو قوتها ويوجد عندها، فالحكم هنا يختلف باختلاف المكان، فتفرض الزكاة هذه على من يملك هذه المنصوصات فيما هو منصوص، وتفرض على من يملك غيرها فيما يملك. وأما إذا نظر لحكمة الحكم، فإن الحكم أيضا يختلف بين إخراج العين وإخراج القيمة، فإذا كانت الأعيان أجدى وأنفع للمساكين فلا يجوز إخراج غيرها، وإذا كانت القيمة أغنى لهم فينبغي إخراجها.
ويدخل في تأثير المكان في الأحكام الشرعية العوائد والأعراف التي توجد في مكان دون مكان، وفي هذا الصدد قعد الفقهاء قاعدة: “الأحكام المترتبة على العوائد تتبع العوائد وتتغير بتغيرها”(). ومعنى هذا أن العادة تصبح علة للحكم يدور معها وجودا وعدما، ولذلك ضبطوا العلة بقولهم: “إنما تعتبر العادة إذا غلبت أو اطردت”()، كما ضبطوا العرف أيضا بأنه هو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول.()
وعليه، فالعرف والعادة يختلفان من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، فتختلف الأحكام التي تترتب عليهما تبعا لاختلافهما، وقد ينقرض عرف وعادة، ويتجدد عرف وعادة جديدان فيحتاج المجتهد أن يغير اجتهاده لتغير مناطها، ولذا اعتبر المفتون من لا يعرف عادات الناس وأعرافهم غير مؤهل للفتوى، وإذا أفتى ففتواه مردودة، وهذا دليل على أن الأحكام مرتبطة بالواقع أشد الارتباط، منه تستمد عناصر إصدارها، فمن فقه الواقع الفقه في العوائد والأعراف القائمة بين الناس.
قال ابن القيم: فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية كفقهه في كليات الأحكام أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها.. فهنا نوعان من الفقه لا بد للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يصادق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع.()
مثال ذلك صيغ العقود وصيغ الأيمان، فإنها تختلف من مكان إلى مكان، ويترتب عليها اختلاف الحكم، فمن ذلك أن الحالف إذا حلف “لا ركبت دابة” وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة الحمار خاصة اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل. وإذا كان عرفهم في لفظ الدابة الفرس خاصة حملت يمينه عليها دون الحمار… فيفتى في كل بلد بحسب عرف أهله، ويفتى كل أحد بحسب عادته…().
وقال ابن تيمية: المرجع في العقود إلى العرف، ولا يشترط لها لفظ معين.()
وقال: إنما تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس بيعا وإجارة فهو بيع وإجارة، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه من الألفاظ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر في الشرع ولا في اللغة.()
مثال آخر: إذا حلف الحالف في عصرنا أن لا يركب سيارة فركب شاحنة أو طائرة فإنه لا يحنث، لأن العرف خص لفظ السيارة بالنوع الصغير، وإن كان المعنى اللغوي يشمل الجميع، وأما البلدان التي يشمل فيها هذا اللفظ جميع الأنواع المذكورة، فإن الحالف يحنث بركوب أي نوع منها.
مثال آخر: خدمة الزوجة لزوجها تخضع لعرف وعادة أهل كل بلد، فيحكم بوجوبها في البلدان التي تعارفت عليها كالبوادي ويحكم بجوازها في البلدان التي لم تتعارف عليها، فأهل المغرب عامة في بواديهم ومدنهم تعارفوا على هذه الخدمة، فالزوجة تقوم بالطهي والغسل وتنظيف البيت، حتى أصبح ذلك خصوصية من خصوصياتها التي تمدح عليها، فإذا تنازع الزوجان في هذه الخدمة فإن القاضي يحكم بوجوبها على المرأة استنادا إلى العرف. وأما أهل المشرق فعرفهم جرى بعدم وجوبها على الزوجة، ولذلك تجد أغلبهم يشتري ما يحتاجه من مأكول ومشروب من المطاعم، لأن الزوجة لا تقوم بالطهي.
مثال آخر ذكره الشاطبي بقوله: “منها –أي العادة- ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح وبالعكس، مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح”.()
V – تأثيـر المقاصد فـي الأحكام الشرعية:
المقاصد تؤثر في تنزيل الأحكام على الوقائع، فقد يكون الشيء مباحا فيمنع لما يترتب عليه من مفسدة، وقد يكون الشيء ممنوعا فيباح لما يترتب عليه من مصلحة، وفي هذا الصدد قال ابن القيم: “المقاصد تغير أحكام التصرفات”.()
وقال ابن تيمية: “وسر الشريعة أن الفعل إذا اشتمل على مفسدة منع، إلا إذا عارضتها مصلحة راجحة، كما في إباحة الميتة للمضطر.. فإذا عارضه ضرر أعظم منه أباحه، دفعا لأعظم المفسدتين باحتمال أدناهما”.()
وقال: “دفع المفسدة الراجحة قد تجوز الممنوع، وقد يباح ما هو أعظم تحريما للحاجة”.()
فتأسيس البيت على قواعد إبراهيم أمر مشروع وواجب، لكن هذا الواجب إذا نفذ في الواقع فسيؤدي إلى نفور بعض الناس من ذلك وارتدادهم، إذ سيعتبرون ذلك احتقارا لفعل آبائهم الذين قصرت بهم النفقة، فتركوا شقا من البيت غير مؤسس على قواعد إبراهيم، فترك هذا الجائز أو الواجب درءا لمفسدة الحمية والارتداد التي تترتب عليه. فالمآل المستمد من الواقع في هذه الحادثة منع من فعل أمر مشروع درءا لمفسدة راجحة.
مثال آخر: قد أشير على النبي بقتل المنافقين الذين ظهر نفاقهم في المدينة، ورد عليه السلام بقوله “أخشى أن يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه”.
فسبب قتل هؤلاء قائم وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين، وقتلهم واجب، لأنهم كانوا أشد ضررا على المسلمين من الكفار الخلص، لكن لكل واحد منهم عصبة وأهلون قد تأخذهم الأنفة والحمية إذا قتل، فيريدون أن يقتلوا به مسلما، وقد يعتقد من لا فقه له من الأعراب أن النبي يقتل أصحابه لكونهم لا يفرقون بين الإسلام الحقيقي والإسلام الظاهري، فيؤدي ذلك إلى استنكافهم من الدخول في الإسلام، ومنعهم غيرهم ممن لهم شوكة من ذلك. فبالنظر لهذه المفاسد المتعددة المترتبة على فعل واجب، منع ذلك الواجب، لأن ما يترتب على تنفيذه من مصلحة أقل بكثير مما يجلبه من مفسدة.
(المصدر: مجلة “الواضحة” العلمية المحكمة)