مقالاتمقالات مختارة

الإمام “مالك بن أنس” فى محنته

الإمام “مالك بن أنس” فى محنته

بقلم محمود جميل

“مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في الحديث والفقه، ومن مثل مالك! متبع لآثار من مضى، مع عقل وأدب”
– الأمام أحمد بن حنبل

الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وأحد أئمة المذاهب الأربعة، وواحد من الأئمة الذين أتيح لهم الجمع بين علم الحديث وعلم الفقه، وبرع في هذين العلمين حتى لقد تنازع أهل الحديث في أن يعدوه محدثًا والفقهاء في أن يعدوه فقيهًا، وهو بلا ريب محدث جليل وفقيه بارع يدل على ذلك مذهبه الفقهي وكتابه الموطأ.

إن أعظم ما وصف به الإمام مالك هو هيبته ووقاره، تلك الهيبة لم تكن فقط أحاديث تلاميذه أو مشايخه؛ بل كانت أحاديث الخلفاء والولاة الذين عاصروه وحسبوا لهذه الهيبة وهذا الوقار حسابات من السنين والأعمار، حتى إذا ذهب أحد من الخلفاء إلى المدينة -وهي مستقر الإمام وداره- لم يكن له هَمّ إلا الجلوس إلى الإمام؛ ليستأنس بهذه الهيبة وهذا الوقار. هذه الهيبة من الإمام مالك كانت مستمدة من العلم المصبوغ بالورع الذي تتصدع منه جدران المعابد وأروقة المساجد في أيّ زمن من الأزمان.

لم يكن الإمام مالك يجنح إلى السياسة ولا إلى رجالها، ولا يفتي الناس في أمورها؛ بل لا يفتي في أحكام القضاة ولا يعترض على أعمالهم مثلما كان يصنع صاحبه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، فهو رجل علم يحدث الناس في كل ما يتصل بأمور العلم وكفى، حتى إذا استطعنا أن نقول: إن له مذهبًا علميًّا في البحث وتخريج العلوم لم نكن قد بعدنا عن الصواب في شيء، فطريقته في بحث أسانيد الحديث ووقوفه على قول أهل المدينة وفتاوى الصحابة وميله في بعض الأحيان؛ بل في أحيان كثيرة إلى المصالح المرسلة واعتماده عليها، كل هذه الأشياء جديرة بأن نقول إنه كان له مذهب علمي خاص به، وهو مذهب جمع فيه مالك بين النص والرأي وتلك هي خلاصة مذهبه.

تقول الرواية الأكثر شهرة في محنة الإمام مالك والتي يرويها ابن جرير الطبري في تاريخه وغيره بأنه كان يُحَدث بحديث (لا طلاق لمُكْرَه) وكان ذلك أثناء ثورة محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية، وهنا يختلف النقاد والمؤرخون حول تعليل المحنة؛ فيقول من يرى أن مالك كان كارهًا للعباسيين وأبي جعفر المنصور بأن مالك كان يقصد من وراء إثارة هذا الحديث حض الناس على البيعة للنفس الزكية، وأنه ليس عليهم حرج في نقضهم لبيعة أبي جعفر المنصور لأنهم بايعوه مُكْرَهين وبيعة المُكْرَه لا تجوز كما لا يجوز طلاق المُكْرَه. يكمل هؤلاء الرواية فيقولون: فسعى الحاقدون والناقمون على مكانة مالك إلى جعفر بن سليمان والي العباسيين على المدينة وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم فأتى به جعفر بن سليمان وجلده حتى كادت تنخلع كتفه، وكان ذلك بأمرٍ من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور.

هذه هي رواية من رأى الإمام مالك ثوريًّا -إن كان بإمكاننا أن نستخدم هذا اللفظ- ناهض العباسيين ودافع عن أحقية المجتمع في الثورة على الظلم، وممن ذهب هذا المذهب المستشرق رينهرت دوزي في كتابه “المسلمون في الأندلس” والدكتور علي سامي النشار في كتابه “نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام” وغيرهما، لكن رينهرت دوزي يعتقد أكثر من ذلك؛ حيث يرى أن الإمام مالك ناصر ثورة عبد الله بن محمد وأخيه إبراهيم ضد الخلفاء العباسيين الذين كان يبغضهم، ومن ثَمَّ راح يكتم إعجابه الشديد بالسلطان الأندلسي منافس جلاديه.

حاول أبو زهرة أن يبعد الخليفة العباسي على أن يكون له صلة بمحنة الإمام مالك وأنه كان تصرفًا فرديًّا من واليه على المدينة؛ لكنه ما لبث أن أوقع باللوم على أبي جعفر وذلك هو الصواب فيما نظن

الفريق الآخر من المفسرين للمحنة يرون أن الإمام مالك لم يكن له أدنى صلة بثورة النفس الزكية، وأن حديث (لا طلاق على مكره) كان جوابًا عاديًّا لمسألة فقهية تعرَّض لها الإمام، ويرى الشيخ محمد أبو زهرة وقد أفرد كتابًا خاصًّا عن حياة مالك هذا الرأي، ويزيد على ذلك بأن المحنة كانت لورود تلك الفتوى في هذا الوقت على التحديد، أي في نفس الوقت الذي خرج فيه محمد بن عبد الله وهو وقت للريبة، فما أن قال الإمام فتواه حتى ظن به العباسيون الظنون، وهذا الرأي من أبي زهرة هو الذي نميل إليه ونرتضيه لأن الإمام كان أبعد ما يكون عن السياسة وعن أمورها كما قلنا.

لقد حاول أبو زهرة أن يبعد الخليفة العباسي على أن يكون له صلة بمحنة الإمام مالك وأنه كان تصرفًا فرديًّا من واليه على المدينة؛ لكنه ما لبث أن أوقع باللوم على أبي جعفر وذلك هو الصواب فيما نظن، فما كان أبو جعفر بعيدًا بأي حال عما حلّ بالإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- وأن أيَّ والٍ من ولاته ما كان يصنع شيئًا بدون أمرٍ من أبي جعفر.

إن المجتمعات عادة في مثل هذه الظروف من الثورات والنقمة منهم على الحكام تتوق أعناقهم إلى أيّ قول من أقوال إمامهم وحجتهم في الدين، فما أن يتحدث الإمام حتى يتلقفوا قوله ويذيعوه مفسرين إياه على حسب ما ترتضيه أهواؤهم، ويسير مع ظروفهم في نقمتهم على المُلك والملوك وإن لم يقصد إمامهم ذلك، ومن ثَمَّ ينزل الملوك على رجال الدين جَمَّ غضبهم وسخطهم، وهو ما حدث مع الإمام مالك ويحدث في كل زمان وإن اختلفت الظروف والمسببات.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى