الإلحاد والتخلف الحضاري
بقلم الشيخ محمد خير موسى
من أكثر الأسباب التي يختلط فيها الصواب بالدّعوى عند الحديث عن الإلحاد هو حالة التخلّف الحضاري التي تعيشها الأمة المسلمة وما يقابلها من تقدّم في المجالات الإنسانيّة والتقنيّة في الغرب.
وتكمن المشكلة الحقيقيّة في أمرين: الأول هو ربط التّخلّف بالدّين والتّقدّم بالتّخلّص منه، والثّاني هو مدى مساهمة التّخلّف الحضاري في بروز هذه الظّاهرة وتعزيز وجودها.
الغالب والمغلوب:
قدّم عالم الاجتماع المسلم ابن خلدون في مقدّمته الشّهيرة تحليلًا عميقًا لحالة الانبهار بالغرب التي يعيشها كثيرٌ من الشّباب، مؤصّلًا لحالة الهزيمة النفسيّة وما تؤدّي إليه في كلام بالغ الأهميّة حيث عقد في “المقدّمة” فصلًا خاصّا تحت عنوان “الفصل الثالث والعشرون في أنّ المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده” جاء فيه:
“والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدًا تعتقدُ الكمالَ في مَن غَلَبها وانقادت إليه، إمّا لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغَلَبٍ طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادًا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به وذلك هو الاقتداء.
أو لما تراه -والله أعلم- من أنّ غَلَب الغالب لها ليس بعصبيّة ولا قوّة بأس وإنّما هو بما انتحله من العوائد والمذاهب تغالط أيضًا بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأوّل، ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله” ا.هـ
فالمغلوب دومًا ينزع إلى تقليد غالبه في أفكاره وعاداته وتقاليده لاعتقاده أنَّ هذه الأفكار والعادات والتقاليد هي التي سبّبت انتصاره وتقدّمه وغلبته، ومن جهةٍ أخرى لأنّه يبحثُ عن تحقيق وجوده من خلال تقمّص واستنساخ شخصيّة غالبه.
وهذا التّقليد يكون في فترات الاستقرار منصبًّا على السّلوك والأفعال في غالبه، كالتقليد في الملبس والمأكل والعادات، لكنّه سرعان ما يتحوّل إلى استلابٍ حضاريّ فكريّ فور تفجّر الأسئلة الكبرى في الأزمات.
وهنا يغدو الإلحاد أحد تجلّيات التّخلّف الحضاري المقترن بهشاشة الانتماء إلى حضارةٍ أمست ضربًا من تاريخٍ حبيسٍ بين دفوف الكتب أو محبوسٍ في قصائد الشّعراء التي لا تسمن كثيرًا من الشّباب ولا تغنيهم من جوع.
تقدّموا إذ ألحدوا:
ويكمن الإشكالُ عند الانبهار بالغرب المتقدّم والتّخلّف الحضاري الذي يعاينه الشّباب في طريقة تعليل هذا المشهد، حيث يعزو كثيرٌ من الشّباب تخلّف المسلمين إلى تمسّكهم بالدّين الذي لم ينتج لهم إلّا المزيد من التّخلّف والجهل والحجر على العقول.
بينما الغرب الذي تمرّد على الدّين وحطّم هيمنة الكنيسة وثار على سلطتها انطلق في ميادين الحضارة السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة وبلغ درجةً مذهلة من التقدّم على المستويات كلّها.
ولو لم يتمرّد هذا الغرب على الدّين لبقي إلى الآن يرزح في ظلمات الجهل ويعاني من مختلف صنوف المصائب السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
وهذا الكلام ينطوي على مغالطة يكثر تكرارُها ولا تكاد تخلو منها نقاشات الشّباب الذين ذهبت بهم الطريق أدراجها إلى الإلحاد على اختلاف أنواعه وصوره.
وتعتمد هذه المغالطة على تهييج ذهن السّامع ببروباغندا صادمةٍ، تبدأ للوهلة الأولى بالسّؤال عن واقعنا المتردّي سياسيًّا واقتصاديًّا وتعليميًّا وثقافيًّا، وعن تردّي دولنا وبنيتها التحتيّة وتبدأ المقارنة مع الغرب في هذه المجالات، مقارنة تجعل المرء يعتصر ألمـًا ويكفر بهذا الواقع المزري الذي نعيشه، وسرعان ما يتمّ الوصول إلى نتيجة غريبة مفادها لقد تركوا الدّين فتقدّموا وتمسّكنا بالدّين فتأخرنا وتخدّرنا، ثمّ يردف قائلًا: نعم نعم الدّين أفيون الشّعوب.
وإنّ هذه المغالطة يمكن نقضها من أوجه عدّه على النّحو الآتي:
أولًا: التّلازم الباطل:
حيث إنّ هذه الدّعوى تقتضي أن يكون التقدّم المتلازم مع ترك الدّين مطّردًا، فحيثما ازداد التّخلّي عن الدّين والإغراق في الإلحاد يزداد التقدّم، ولكنّ الواقع ينقض ذلك، فالدّول التي تتربّع على عرش الدول الأكثر إلحادًا تضمّ في قائمتها دولًا تعاني الجهل والتّخلّف مثل أذربيجان وفيتنام التي بلغت نسبة الإلحاد فيهما 53% حسب استطلاع مؤسسة غالوب الدّولية.
بل إنَّ الاستطلاع نفسه أشار -عند الحديث عن الدّول الأكثر تديّنًا- إلى وجود تركيا في هذه القائمة حيث بلغت نسبة التديّن فيها حسب الاستطلاع 74%، وهي دولةٌ فرضت نفسها بقوّة في طريق التّقدّم والازدهار في المجالات المختلفة.
ولئن كان الدليلُ إذا داخَلَه الاحتمال يبطلُ به الاستدلال، فإنَّ هذه الأمثلة تفيدُ بطلان هذا التلازم والاطّراد بين الإلحاد والتقدّم الحضاري.
ثانيًا: المعلومة النّمطيّة:
إنّ القول بأنَّ الغرب دخلَ في الإلحاد بسبب تمرّده على الكنيسة، وأنَّ الغرب وضع الدّين جانبًا بسبب ظلم الكنيسة في انسياق مع معلومة نمطيّة مريحة تكفينها عناء البحث والدراسة.
وهي معلومةٌ سادت في الوسط الثّقافي والدّعوي الإسلامي حتّى غدت مُسلَّمةً من المُسلَّمات التي لا يحاول الكثيرون تفحّصها.
وعند التّوقّف مع هذه المعلومة لا سيما في سياق الاستدلال بها على أنَّ الغرب تقدّم حين ألحد، فإنّنا نجدها تنطوي على مغالطة مهمّة وهي اجتزاء الصّورة واختزال المشهد، فيبدو المشهد وكأنّه ثورةٌ على الكنيسةِ بكلّ أنواعِها، مع تغييبٍ لأيّة إجراءاتٍ “إصلاحيّة” قام بها رجال دين تابعون للكنيسة.
إنَّ محاكمات الكنيسة للعلماء وملاحقتهم وقتلهم كان أحد أهمّ سمات الكنيسة الكاثوليكيّة ممّا تسبب بنوعين من ردود الأفعال، أحدهما في اتّجاه التّمرّد على الكنيسة ونبذها والخروج من الدّين وتحميله مسؤوليّة كلّ هذا الفساد والاستبداد والظّلم.
بينما كان هناك ردّ فعلٍ آخر في اتجاه مغاير هو اتّجاه إصلاح الكنيسة وتجديد الدّين، وهذا الاتّجاه قاده مجموعةٌ من الباحثين ورجال الدّين الإصلاحيين من أمثال المفكّر الديني التشيكي “يان هوس”، والباحث اللّاهوتي الإنكليزي “جون وايكليف” في القرن الرابع عشر.
وكذلك فإنَّ العالم الفرنسي “بيير فالدو” من القرن الثاني عشر يُعدّ أحد رواد الاحتجاج على الكنيسة الرومانية. ولكن أثر هؤلاء المحتجين كلّهم كان محليًا.
ليأتي من بعدهم “مارتن لوثر” الذي كان صاحب الثّورة الاحتجاجيّة الإصلاحيّة الأكبر على الكنيسة الكاثوليكيّة، والتي أنتجت بروز مذهب جديد هو الكنيسة البروتستانتيّة، وكان مارتن لوثر من المساندين للعلماء والمشجعين على العلم والمناهضين لاستبداد الكنيسة وكان تأثيرُها الشّعبي واسعًا.
وهذا الكلامُ يقال لأجل استكمال الصّورة التي تقصُرُ ظهور الإلحاد في أوروبا على التّمرّد على الكنيسة -وهو لا شكّ أحد أهمّ الأسباب- لكن هذا لا ينبغي أن يُغفلَ ظهور حركةٍ كنسيّةٍ تناهض الكنيسة أيضًا وتحتجّ عليها.
ثالثًا: إنكارُ حقائق التّاريخ:
وتقومُ دعوى أنَّ الغربَ تقدّم حين ألحدَ وتركَ الدّين وأنَّ المسلمين تخلّفوا حين تمسّكوا بدينهم على مغالطة خطيرة تقوم على افتراض أنَّ المسلمين اليوم متمسّكون حقًّا بدينهم، حتّى كان ذلكَ هو سبب التّخلّف الحضاريّ الذي يعيشونه!
وهذه المغالطة تقوم أيضًا على الإنكار الضّمني للمراحل التّاريخيّة التي عاشها المسلمون تقدُّمًا حضاريًّا.
صحيحٌ أنَّ التّغنّي بذلك التّاريخ مع العجز عن فعل مثيله هو من الآفات التي يعيشها المسلمون اليوم، ولكن هذا يتحمّل مسؤوليّته المسلمون في آليّة تعاملهم مع التّاريخ ولكنّه على الإطلاق لا ينفي وقوعه.
ووجود التقدّم الحضاري والتفوّق الإنساني في المجالات المختلفة السياسيّة والاقتصاديّة والمعرفيّة والاجتماعيّة في تلك العصور النيّرة هو تفوّق اقترن بحالةٍ عالية للغاية من التديّن، بل بتبنّي الإسلام منهجًا للحياة والحكم.
وهذا الوجود ينقض هذه الدّعوى التي تقوم على أنَّ المجتمعات تتقدّم بمقدار انسلاخها عن الدّين وتمرّدها عليه، وتتخلّف بمقدار تبنّيها للدّين وتمسّكها به.
ولأنَّ هذه الشّريحة من الشّباب لا يقنعها -على الأغلب- حديثُ المسلمين عن أنفسهم في كتبهم ومصادرهم وتراثهم، فإننا نحيلهم بكلّ بساطة إلى المصادر الغربيّة الزّاخرة بالحديث عن تلك الحقيبة التي كان فيها المسلمون عنوان التفوّق الحضاري.
وهنا أقتبس بعض الشّهادات التي قالها مستشرقون لهم وزنهم ومكانتهم في الحضارة الإنسانيّة، وهي على سبيل التمثيل لعشرات بل مئات الشّهادات المشابهة.
يقول المفكر ليوبولد فايس: “لسنا نبالغ إذا قلنا إنّ العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه، لم يُدشّن في مدن أوربة، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة“.
ويقول: “نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة، وحسب المسلمين أنهم كانوا مثالاً للكمال البشري، بينما كنا مثالاً للهمجية“
ويقول المسيو سيديو: “لم يشهد المجتمع الإسلامي ما شهدته أوربة من تحجّر العقل، وشلّ التفكير، وجدب الرّوح ومحاربة العلم والعلماء، ويذكر التّاريخ أن اثنين وثلاثين ألف عالم قد أُحرقوا أحياء! ولا جدال في أنّ تاريخ الإسلام لم يعرف هذا الاضطهاد الشنيع لحرية الفكر، بل كان المسلمون منفردين بالعلم في تلك العصور المظلمة، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في العقيدة كلّ أسباب الحرية كما فعل الإسلام“.
ويقول غوستاف لوبون: “إنّ حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا. وإنّ جامعات الغرب لم تعرف لها موردًا علميًا سوى مؤلّفات العرب، فهم الذين مدّنوا أوربة مادة وعقلًا وأخلاقًا، والتّاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه، إنّ أوروبّة مَدينة للعرب بحضارتها“.
رابعًا: التّخلّف الحضاريّ ومعاول الهدم:
إنّ بطلان الدعوى التي يتذرّع بها شريحة من الشّباب لتبرير إلحاده لا يعني على الإطلاق أنّنا بهذا التّخلّف الحضاري غير مسؤولين عمّا آلت إليه صورة الإسلام في نفوس العالمين، ونفوس أبنائنا وشبابنا قبل أيّ أحدٍ آخر.
إنّنا بهذا التّخلّف الحضاريّ غدونا معولًا في هدم صورة الإسلام، ولا شكّ أنَّ مما يجعل النّاس زاهدين بأفكارنا وديننا عدم قدرتنا على النّهوض من جديد من حمأة التّخلّف والجهل التي تفتكُ بنا.
إنَّ العمل للنّهوض الحضاريّ من جديدٍ على المجالات كافّة هو من أعظم الخدمات الجليلة التي يمكن أنْ نقدّمها لرسالة الإسلام دعوةً وصيانةً ووقاية.
لعلّ فيما نقله بعضهم عن الأستاذ جودت سعيد ما يصلح أن نختم به هذا الحديث إذ قال: “هل تعتقد أن ما يشاهده الناس من إسلامنا يحقّق البلاغ المبين حتى نطالبهم باتباع الإسلام؟!
كيف يدخلون في الإسلامَ ونحن مثالٌ بالغٌ في التّخلف والجهل والشقاق والتمزق؟!
لقد صرنا فتنةً للنّاس، يستدلّون بنا أنّ الإسلام لا يحقّق وحدةً ولا نهضةً ولا سعادةً ولا حريّة!!
قوموا وابنوا أوطانَكم وانهضوا بجامعاتِكم ومراكز بحثِكم، وأسّسوا العدالة والمساواة والحريّة، وعندها سيتزاحم الناس على أبواب سفارات الإسلام أفواجًا“.
(المصدر: موقع “على بصيرة”)