مقالاتمقالات مختارة

الإلحاد الجديد ومعالم التجديد الدينيّ الستّة

الإلحاد الجديد ومعالم التجديد الدينيّ الستّة

بقلم د. حذيفة عكاش

ممّا لم يعد يخفى على أحد، انتشار ظاهرة الإلحاد بين شباب وشابات المسلمين، بل المتوقّع أنّ ما يظهر لَنا من ظاهرة الإلحاد إنْ هو إلا: (رأس جبل الجليد) فقط، وما خفي أعظم،.. وأرجو أن أكون مخطئاً..

هنا لا بدّ من التأكيد على أنّ أسباب الإلحاد الجديد كثيرة، ومن الخطأ تحميل سبب واحد الظاهرة كاملة، كما ننبّه أنّ شبهات الإلحاد الجديد كثيرة وجديدة، بل متجدّدة، فكلّ يوم هناك شبهات جديدة، فلا تكفي الكتب القديمة للمواجهة، ولا يكفي عِلْم واحد لمواجهتها، فهناك شبهات من العلوم النظريّة والتطبيقيّة كلّها، وهذا يجعلنا نحتاج إلى أن تتضافر الخبرات والكفاءات والتخصّصات كلّها لمواجهة الإلحاد الجديد.

وما يهمّنا هنا من أسباب الإلحاد الكثيرة سبب مهمّ هو بأيدينا وتحت سيطرتنا، وهو الخطاب الإسلاميّ، وأخصّ بعض الاجتهادات الإسلاميّة المشكِلة على عقليّة إنسان عصرِنا، عصرِنا الذي أضحت فيه الفلسفات والأنظمة والدول تتنافس بخدمة ورفاهية وحماية ورعاية الإنسان، كلّ الإنسان.

ومن العجائب في هذا الموضوع -أقصد علاقة الإلحاد بالخطاب الإسلاميّ- أنّ الإسلاميّين يتراشقون التهم، فالتجديديّون الميسِّرون يرون أنّ خطاب المتشدّدين سببٌ للإلحاد (فهم غلاة منفّرون)، كما أنّ الجامدين والمتشدّدين يرون أنّ خطاب الميسّرين سببُ الإلحاد، فهم (مميّعون يجعلون الناس يتحلّلون من تعاليم الإسلام)!

مع أنّ الواقع يقول: إنّ الغلوّ يسبّب الإلحاد، ولم نسمع بمن ترك الدين بسبب التنويريّين أو المجدّدين أو الميسِّرين!

فهل بات التجديد الدينيّ ضرورة ملحّة تفرضها المرحلة التي نعيش فيها، والتطوّرات التي نشهدها أم أنّ التجديد فتح الباب أمام العابثين بالدين وثوابته تحت اسم (التجديد)؟

هنا نسارع ونقول: كلّ مجال فيه أخطاء: فهل نغلق كلّ مجال يقع فيه أخطاء؟ فالمُفْتُون يخطئون، والدعاة يخطئون، والباحثون والمعلمون والمؤلفون والقضاة والشرطة والأطباء والمربّون… الخطأ يقع في مجالات الحياة كلّها، فهل نغلق هذه المجالات ونمنعها؟!

من المتوقّع أنّ الموجة الإلحادية ستساهم -بما يترتب عليها من جدل وتفاعل وتأثير متبادل بين الملحدين من جهة، وبين الدعاة والعلماء من جهة مقابلة- أقول ستساهم موجة الإلحاد بترقية (خطابنا الإسلاميّ)، وذلك سينعكس على تحسين (نوعية التديّن) فسننتقل من التديّن الشكليّ الطقوسيّ إلى التديّن القيميّ الأخلاقيّ الذي يركّز على المعاملة الحسنة، والذي لا يهمل الطقوس والعبادات طبعاً، فـ (لا تحسبوه شرّاً لكم بل هو خيرٌ لكم).

فما هو المطلوب منّا للتجديد الدينيّ المنشود؟

للجواب سأقتصر على ستّة جوانب للتجديد:

ومقابلها ننبّه على ستّة من أنواع الخطابات الإسلاميّة المنفّرة:

1-المقاصديّة:

النوع الأوّل من الخطاب الخاطئ: خطاب إسلاميّ يعزل الحكم الشرعيّ عن حِكمته وفائدته والغاية والهدف منه في حياة الناس ودنياهم، فمهما كان الحُكم المستنبَط غريباً، يجب أن تسمع وتطيع، فالاجتهاد مشتَقّ من النصوص المقدّسة، وهنا نقول على عجالة: “هذا اجتهادنا وفهمنا للنصوص، وليس مراد الشارع الحكيم بهذا النصّ!”.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك قراءتين لأحكام الإسلام:

القراءة الأولى: قراءة تجعل تعاليم الإسلام ليست بالضرورة معقولة المعنى، وهو ما يعبّرون عنه بأنّ الأصل في الأحكام التوقيف (تعبّدية) يجب الالتزام بها تعبّداً، أي امتثالاً واستجابة للأمر، ولا يشترط معرفة الهدف والعلّة والغاية والفائدة، فالأحكام الشرعيّة الأصل فيها التسليم والتنفيذ، وليس لازماً أن تظهر حكمتها وهدفها وفائدتها.

أمّا القراءة الثانية ترى أنّ تعاليم الإسلام الأصل فيها التعليل والمعقوليّة وظهور الحِكمة والغاية والهدف والفائدة..

وممّا ينبغي الاعتماد عليه في الترجيح بين الآراء عند الاختلاف بين المدرستين، ترجيح القراءة التعليليّة، لأنّ الفقه هو الفهم أي فهم مراد الشارع وهدفه وغايته.

المشكلة التي تواجهنا في هذا السياق أنّه لو اعترض بعض المسلمين على معقوليّة ومنطقيّة وحِكمة وفائدة بعض الاستنباطات والاجتهادات، يتمّ استدعاء نصوص السمع والطاعة والاتباع لله ﷻ وللرسول ☺️ وعدم اتباع الهوى..

وهنا نقول: هم لا يعترضون على أحكام الله تعالى بل على اجتهادنا في معرفة مراد الشارع الحكيم، ويقولون: من غير المعقول أن يكون فهمنا في هذه المسألة هو مراد الله تعالى.

2-التيسير:

النوع الثاني من الخطاب الخاطئ: خطاب إسلاميّ متشدّد يجعل الالتزام بالشريعة الإسلاميّة يستلزم أن يعيش المسلم على هامش الحياة، فدائرة المحظورات تغطّي معظم جوانب الحياة في ذلك الخطاب المتشدّد!

فالشرع يراعي مصالح العباد وييسر عليهم، والدين جاء لإسعاد الناس في دنياهم وآخرتهم: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى).

فالنكد ليس شرطاً في التديّن: مع الأسف هناك تصوّر شائع أنّ المتديّن كلّما كان غير مرتاح كان أقرب إلى الله، فالأصل بالمؤمن البلاء والعيش الضنك والمشقّة والعسر والضيق، وكأنّ المشقّة مقصودة لذاتها، وبهذا التصوّر الخاطئ يتمّ تسويغ الاجتهادات المتشدّدة المرهِقة كلّها..

فمن حيث تعاليم وأحكام ديننا، فالعَنَت والمشقّة والحرج والشقاء كلّه مرفوع في شريعتنا.

والأصل في الأشياء الإباحة في شريعتنا، ما لم يرد نهي عن شيء ضار للنفس أو للآخرين أو للمجتمع، ولكنّ نفراً من الفقهاء كان مزاجهم التشدّد، وغلب ذلك على فتاويهم، حتّى سمّى بعضُهم منهجَ أولئك الصنف من الفقهاء بـ (فقه النكد)، فكلّ لَهْوٍ أو ترويحٍ عن النفس حرامٌ، وكلّ فنّ أو توسّع حرام، والأصل في معاملات الناس الشكّ والريبة والحُرمة! فقلبوا القاعدة الشرعيّة القائلة: (الأصل في الأشياء الإباحة) فأصبحت عندهم: (الأصل في الأشياء المنع)!

فمقصود الشارع الحكيم التيسير على عباده، ورفع الحرج والمشقّة عنهم: نصّ على إرادته ذلك صراحة بنحو قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) فقوله تعالى: (يريد) يدلّ على أنّ اليسر مقصود صراحة، [البقرة:185] وقوله تعالى: ((َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) فكلّ ما يوقع الإنسان في الحرج والضيق والمشقّة غير المعتادة فليس من الدين.

والتيسير الذي نتمنّاه له عدّة نواح:

أ‌- أن يكون سهل الحفظ والاستحضار، حتّى يسهل على المسلم العاديّ حفظه وتطبيقه، فلا نختار الأقوال المعقّدة كثيرة التفاصيل وصعبة التطبيق، نريد أن يتعلّم المسلم دينه بسهولة، ولا يضطرّ إلى سؤال الفقيه في كلّ مسألة، -مثل- مسائل الحيض للنساء؛ فعلينا اختيار أسهل التفاصيل ولا نوقع نساء المسلمين في الحرج في معرفة مسائله وضبطه وتطبيقه، فالمسلمات عددهن حول العالم قرابة ثلاثة أرباع المليار بلغاتٍ متعدّدة وكثيرات منهنّ غير متعلّمات، فكيف سيتعلمن أحكام الحيض إذا كانت طالبات العلم الشرعيّ يرتبكن ببعض الأقوال والمذاهب؟!

ب‌- أن تكون الاختيارات الفقهيّة سهلة التطبيق، ليس فيها حرج أو صعوبة في التزامها.

ت‌- آخر الضوابط ضابط شكليّ وهو تسهيل عبارات المصنّفات الفقهيّة ومصطلحاته واستخدام لغة يفهمها غير المتخصّصين، ومقاييس وحسابات معاصرة.

3-التسامح:

 النوع الثالث من الخطاب الخاطئ: خطاب كراهية وحقد داخل مجتمعاتنا، فالمسلم المعاصر نتيجة العولمة ووسائل التواصل والسفر واللجوء والهجرة للدول المتحضّرة يقارن بين بعض الخطابات الإسلاميّة المتشنّجة تجاه الآخر، وبين خطاب المساواة والمواطنة والتسامح والتعايش وحقوق الإنسان في المجتمعات المتحضّرة، (وهذا لا يعني عدم وجود خطاب كراهية في تلك المجتمعات، نتيجة وجود اليمين المتطرّف، ولا يلغي ذلك السياسات الخارجيّة المصلحيّة البعيدة البعد كلّه عن مبادئهم الداخليّة التي يلتزمون بها مع مواطنيهم)!

ولكن نحن نتكلّم عن الثقافة العامّة المنظَّمَة والممنهجة التي يحميها التعليم والإعلام والقوانين والأنظمة في تلك الدول.

وعيب هذا الخطاب الإسلاميّ (المتشنّج تجاه الآخر) أنّه لا يميّز بين غير المسلمين المسالمين، وبين المعادين الذي بيننا وبينهم حرب، فيخلط أصحاب ذلك الخطاب المتشنّج، فيضعون آيات الحرب والمفاصلة والبراءة والعداوة والبغضاء والغلظة والشدّة الواردة في القرآن الكريم في سياق الحرب، فيعمّمونها حتّى على المسالمين، مع أنّ تعاليم الإسلام وردت تجاههم (بالبرّ والقسط لهم) والنهي عن الاعتداء.

4-الإنسانيّة:

النوع الرابع من الخطاب الذي نتمنّى تطويره الذي يركّز على الأوامر الشرعيّة دون نظر للناس واحتياجاتهم ومصالحهم، وعدم الإضرار بهم مع أنّ الله تعالى جعل الإنسان محور الكون، وسخّر له سماواته وأرضه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأرسل له رسله وأنزل عليه كتبه (إنّي جاعل في الأرض خليفة).

وشرع الله تعالى للإنسان من القيم والأخلاق والأحكام، وأرشده ووجّهه بما يكفل له سعادته وأمنه في الدنيا والآخرة، فالإسلام هو دعوة مبكّرة للنزعة الإنسانيّة مقابل الأديان القديمة التي كانت تهدر الإنسان قرباناً لآلهتهم! فالإنسانيّة ليست اختراعاً من الفلسفة الماديّة فقد سبق الإسلام بها، فهو دين خالد للإنسانيّة!

وهنا لا بدّ من إبراز موقف الإسلام المشرّف تجاه حقوق الإنسان، ومراعاة تلك الحقوق عند الاجتهاد والترجيح والفتوى والخطاب المعاصر.

5-العلميّة:

بعض الخطابات الإسلاميّة تجمد عند أقوال السابقين، كأنّها وحي ثابت، مع أنّ كثيراً من أقوالهم بحسب ثقافة عصرهم وعلومهم في تلك الأيّام، فمن معالم التجديد الذي ننادي به احترام النزعة العلميّة التجريبيّة الواقعيّة، والمقصود بها احترام العلم والاكتشافات العلميّة التطبيقيّة، وإنزالها المنزلة الرفيعة التي بوّأها إيّاها القرآن الكريم، فالعلماء الأشدّ خشية لله تعالى هم علماء الطبيعيّات ودليله سياق الآية الكريمة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) } [فاطر: 27، 28]

ومع الأسف ما زال بعض علماء الدين يختزل معنى العلم بالعلم الشرعيّ، بل بعضهم يقدّم اجتهادات علماء الدين القدماء الذين يعتمدون علوم زمانهم التجريبيّة، يقدّمون اجتهاداتهم على اكتشافات العلم التجريبيّ الحديث، مثل فتوى: (أكثر مدّة الحمل التي تزيد عن السنة) وهي مبنيّة على المشاهدات والاستقراء في زمانهم واستمرار الفتوى بها وتدريس هذه الأقوال لأيّامنا هذه دون إنكار لها، مع أنّ العلم الحديث أثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ الحمل لا يمكن أن يستمرّ أكثر من سنة، وكذلك كراهة الماء المشمّس في الوضوء، إذا كان بآنية معدنيّة، وقد أثبت الطبّ الحديث أنّه لا يضرّ.

وهكذا فالعلوم واكتشافاتها المثبتة، ينبغي أن تُقَدّم على الاجتهادات والفهوم والتفاسير القديمة لأنّ تلك الفهوم القديمة مبنيّة على علوم عصرهم.

6-الجوهريّة القيميّة:

المقصود بها التركيز على القيم والمبادئ الخالدة وعدم الاقتصار على الشكليّات والآليّات والوسائل القديمة، كأنّها مقصودة لذاتها، فلا نجمد على الوسائل القديمة، حتّى لو كانت واردة في كتاب أو سنّة، بل نركّز على مقصود الشارع الحكيم وهدفه، إلا في مجال العقائد والعبادات والوسائل التي أكّد عليها الشارع الحكيم لخصوصيّتها وصلاحيّتها لكلّ زمان ومكان.

ختاماً نحن مبتلون بتيّار تجديد دون ضوابط، وتيّار ضوابط دون تجديد، والمطلوب (تجديد بضوابط) أو (اجتهاد معاصر بضوابط) فالتجديد هو الاجتهاد المعاصر، ولا مشاحّة بالاصطلاح إذا اتّفقنا على المعاني والمدلولات.

بذلك نكون ساهمنا بالقضاء على سبب هامّ من أسباب الإلحاد الجديد، وقبل ذلك نكون قد أرضينا ربّنا واتّبعنا مرادَه وشريعته، كما يحبّ ويرضى سبحانه، فلا يظننّ ظانّ أنّ ما نفعله لنجمّل الدين ونحسّن صورته (ليتفضّل) بقبوله الملحدون الجدد، أبداً! بل نفعل ما نراه صواباً وما يقتضيه واقعنا المعاصر، سواء كان هناك ملحدون أو لم يكن، فالتجديد ضرورة وفريضة، يقتضيها العصر ويفرضها الدين.

 ونحن هنا لا نقول إنّ هذه المعالم لم تكن مراعاة في الاجتهادات القديمة، وأنّ تراثنا العلميّ لم يكن يلاحظ هذه الضوابط، بل الذي نقوله: لا يمكن التعميم بكون الاجتهادات القديمة كلّها كانت تراعي هذه الضوابط، ولا كلّها كانت لا تراعي هذه الضوابط بل فيها وفيها.

 فالمشكل ليس في تراثنا، بل المشكل فيمن يتعامل مع هذا التراث، المشكل فيمن ينقل الأقوال كلّها من هذا التراث دون تمييز ولا انتقاء ولا ترجيح، لذلك دائماً أكرّر: إنّ كنوز تراثنا ضاعت بين من يقرؤه ولا ينقده، وبين من ينقده ولا يقرؤه.

 كما أنّ التجديد أو الاجتهاد المعاصر الذي ننادي به، ليس انتقائيّاً فقط من بين الأقوال والاجتهادات القديمة، بل ننادي بالاجتهاد الجديد (الإنشائيّ) بناء على المستجدّات وتغيّر الواقع الذي نعيشه وفق الضوابط الماضية، والله الموفّق.

(المصدر: مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى