مقالاتمقالات مختارة

الإعلام في خدمة بلاط السلطان.. منذ عصر الجاحظ!

الإعلام في خدمة بلاط السلطان.. منذ عصر الجاحظ!

بقلم خليل إبراهيم عيسى

عاشَ الجاحظُ (أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني) في عصرِ الدولةِ العباسيةِ الأوّل، قرناً مِنَ الزمان، أو أكثرَ مِنْ ذلكَ ببضعِ سنينَ، فقدْ ولِدَ في العامِ الهجريّ ١٥٠ وتوفيَ عامَ ٢٥٥، وكتبَ العديدَ مِنَ الكتبِ والرسائل، ونقلَ الكثيرَ مِنَ الأخبار، وفاقَ في غزارةِ إنتاجِهِ العلميّ والأدبيّ مجامعاً للغةِ والأدب، وبرعَ في كثيرٍ مِنَ العلومِ وخاصةً علمَ الكلامِ (كانَ الجاحظُ مِنْ فضلاءِ المعتزلةِ)، فجردَ قلمَهُ ولسانَهُ دعوةً لهم، ودفاعاً عنهم، وقرأ كتبَ الفلاسفةِ واطّلَعَ عليها، وخلطَ وروّجَ بعباراتِهِ البليغة، وحسنِ براعتِهِ اللطيفة ( كما يذكر ذلك الشهرستاني في حواشي الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهري)، هذا بالإضافةِ لكونِهِ أديباً وساخراً، وصاحبَ أسلوبٍ خاصٍ في الكتابة، لمْ يسبقْهُ إليهِ أحدُ المتقدمين، ولمْ يُجاريهِ فيهِ أحدٌ مِنَ المتأخرين.

أسسَ الدولةَ العباسيةَ حفيدا الصحابيّ الجليل (ابن عباس رضي الله عنه)، أبو العباسَ السفاحُ وأخوهُ أبو جعفرٍ المنصورُ، وهما ولديّ عليّ بنِ محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ بِنْ العباسَ بنِ عبدِ المطلبِ.  وواجهَ العباسيونَ العديدَ مِنَ الخصومِ، أثناءَ تأسيس دولتهمْ وقيامها، مِثلَ بقايا الأمويينَ في المشرقِ، والدولةَ الأمويةَ في الأندلس، والشعوبيةَ (الشعوبَ التي دخلتْ في الإسلامِ مِنْ غيرِ العربِ وخاصةً الفرسَ)، والعديدَ مِنَ الفرقِ كالخوارجِ والمعتزلةِ، وكانوا يخشونَ حتى منافسةَ أبناءَ عمومتهم مِنْ أحفادِ (عليّ ابنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ) على الخلافةِ والحكمِ.

أكتشفَ العربُ صناعةَ الورقِ في بدايةِ العصرِ العباسيّ، وظهرتْ حِرفةُ الورَّاقِ، وراجتْ سوقُ الورّاقينَ، ونسخُ الكتبِ. ومَعَ انتشارِ حِرفةِ الورَّاقينَ ودكاكينهم، التي كانتْ مراكزَ ثقافية، انتشرتْ المكتباتُ التي كانَ يَؤُمُها العلماءُ والأدباءُ، كمكتبةِ الرشيدِ، وإبراهيمَ بنِ اسحقَ، والفتحِ بنِ خاقانَ. وأدتْ صناعةُ الورقِ وأدواتُ الكتابةِ، إلى نشرِ حركةِ الكتابةِ والتأليفِ، في مختلفِ المواضيع، وبرزَ الكتّابُ مِنْ مختلفِ الفئاتِ، كالأدباءِ والعلماءِ والفلاسفةِ والفقهاءِ، ومِنْ مختلفِ الأجناس، كالمجوسِ والتركِ وغيرهم، ومِنْ مختلفِ العقائدِ كالمعتزلةِ والشيعةِ والمرجئةِ والزنادقةِ والملاحدة. كما ظهرتْ طبقةٌ مِنَ الأدباءِ وعلى رأسهم الجاحظُ، نقلوا روائعَ الشعرِ وبدائعَ النثرِ وطرائفَ الأخبارِ.

وأصبحَ الكتابُ في العصرِ العباسيّ الأولَ أحدَ أهمَ وسائلَ الإعلامِ ومِنْ أقوى أسلحةِ الدولةِ وأدواتها في مواجهةِ خصومِ الخلافةِ العباسيةِ الناشئةِ، فلم يعدْ الأمرُ يقتصرُ على الخطباءِ والشعراءِ لنقلِ الأخبار، وكانتْ الدولةُ تعطي على الكتابِ ما لا تعطي على سواهُ، ولربما أعطيَ صاحبُهُ وزنَ كتابهِ ذهباً، واشتُهرَ عَنْ الخلفاءِ العباسيينَ حبهم للعلم، وسلكَ أمراؤُهم ووزراءُهم هذا المسلكَ وكانَ لكلٍ منهم مجلساً يوازي بلاطَ السلطان. وكانْ الخلفاءُ العباسيونَ يبحثونَ عنْ كلِ وسيلةٍ لمحاربةِ كافةِ خصومهم ولتثبيتِ حكمهم ودفعِ المخاطرَ التي تُحدقُ بدولتهم، التي ملأتْ أركانَ الدنيا الأربعة. يذكرُ ابنُ خلدونَ في مقدمتهِ (وسمعنا منْ شيوخِنَا في مجالسَ التعليمَ أنّ أصولَ هذا الفنِ (يقصدُ الأدبَ) وأركانَهُ أربعةُ دواوين، وهي أدبُ الكتّابَ لابنِ قتيبةَ، وكتابُ الكاملَ للمبرد، وكتابُ البيانِ والتبينِ للجاحظ، وكتابُ النوادرَ لأبي عليّ القالي، وما سوى هذهِ الأربعةِ فتبعٌ لها، وفروعٌ عنها).

 

ويلاحظُ أنّ هذهِ الكتبِ الأدبيةِ صدرتْ في نفسِ الفترةِ التاريخيةِ (تقريباً)، وجاءتْ كأنها تفسرُ بعضها بعضاً، وتناقشُ نفسَ المواضيعِ تقريباً، وتعتمدُ ذاتَ المراجعِ وتقدمُ أدلةً أدبيةً متشابهةً، وتتكررُ فيها الكثيرُ مِنَ النصوصِ الأدبيةِ مِنْ خطبٍ وأشعارٍ وأخبارٍ، وما جاءَ في هذا الكتابِ مجملاً تجدهُ مفصلاً في الآخرَ ومفسراً وهكذا.  أما المؤلفونَ الأدباء، فولدوا وعاشوا في العراقِ في العصرِ العباسيّ وتحديداً في القرنينِ الثاني والثالثِ الهجريَيّن، وسمعَ بعضهم مِنْ بعضٍ أو جلسَ في درسه. كما حدثَ لأبي عليّ القالي البغدادي صاحبَ كتابِ (الأمالي)، الذي استمعَ لأبي العباسِ المبردِ صاحبَ كتابِ (الكامل)، وانتقلَ الأولُ مِنْ بغدادَ إلى الأندلسِ بدعوةٍ خاصةٍ مِنْ أميرها، الذي جمعَ لهُ الوزراءَ والأعيان، واستقبلهُ استقبالَ الملوك، وأقامَ لهُ المجالسَ، للعامةِ والخاصةِ ليتحدثَ فيها، وهناكَ أصدرَ كتابهُ (الأمالي وفي حاشيته النوادر).

ولعلَّ انتقالَ القاليّ إلى الاندلسِ بدعوةٍ مِنْ (أبو الحكم عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموي) يوضحُ الأثرَ الكبيرَ للدولةِ في الكاتبِ والكتابِ، ودورهُ في الدعوةِ للحاكمِ والترويجِ لهُ والدفاعِ عنهُ وعنْ شرعيتهِ في الحكم. وليسَ مِنَ المستغربِ أنْ يستدعيَ الناصرُ أبو عليّ القالي مِنْ بغدادَ إلى الاندلسِ في هذا الوقتِ بالذاتِ (عام ٣٠٣)، فهو بحاجةٍ إلى علمهِ وأدبهِ، لينشرهُ بينَ الناسِ بأهدافٍ سياسيةٍ واجتماعية، وليردَ على خصومهِ ومنافسيهِ في الأندلسِ وبغدادَ، خاصةً وأنهُ ثامنُ ملوكِ بني مروانَ في الاندلسِ وأولُ مَنْ دعا لنفسهِ وسميَّ (بأميرِ المؤمنين) هناك.

فأمرُ هذا النوعِ مِنَ الكتبِ، وغيرها مما صدرَ سواءٌ في المشرقِ الإسلامي أو في الأندلس، مرتبطٌ بالاضطراباتِ السياسيةِ التي كانتْ تحدثُ بعدَ موتِ بعضِ الخلفاءِ أو مقتلهم، والسعيِ إلى الاستقرارِ ونيلِ الشرعيةِ لِمَنْ يَخلُف، وهيَ أشبهُ ما تكونُ بوسيلةِ إعلامٍ أو محطةٍ إخباريةٍ في خدمةِ بلاطِ السلطانِ في المشرقِ أو في المغرب. وفاقتْ في شهرتها غيرها مِنْ الكتبْ، ولها جمهورٌ مِنْ كافةِ طبقاتِ المجتمع، ولمْ يقتصرْ أمرها على تقديمها هديةً للوالي أو الأمير، لنيلِ الجائزة، لقدْ كانتْ هذهِ الكتبُ تدرسُ في المساجد، وتقرأُ في المجالسِ العامةِ والخاصة، وتعقدُ لها الندواتُ والأنديةُ، ويسمعُ بها وبما جاءَ فيها القاصي والداني.

أصدرَ الجاحظُ أحدَ أهمِ كتبهِ وربما أفضلَها (البيان والتبين)، على أغلبِ الآراءِ في الفترةِ ما بينَ عاميّ ٢٣٣-٢٤٠ هجرية، وقدْ أشرنا إلى رأيِ ابنِ خلدونَ في هذا الكتابِ وأهميتهِ، ومكانتهِ بينَ كتبِ الأدب، وأنهُ ديوانٌ وأصلٌ مِنْ أصولِ اللغة، ويكفي الإشارةُ إلى رأيِ ابنِ خلدونَ فيهِ لمعرفةِ أهميته. ولقدْ اعتنى الجاحظُ بهذا الكتابِ عنايةً خاصة، وأشبعَ عنوانيهُ تفصيلاً وشرحاً وأدلةً، مِنْ خطبِ العربِ وأشعارها، والأدبِ الفارسيّ والهندي، حتى باتَ كلُ أديبٍ وكاتبٍ وخطيبٍ في أيِ لونٍ مِنْ ألوانِ العلومِ يعدُهُ مرجعاً، فالخطيبُ؛ على منبرِ المسجدِ أو في ساحةِ القتالِ أو في خطبةِ النكاحِ أو في خطبةِ العزاءِ بحاجةٍ إليه، والشاعرُ في بلاطِ السلطان، والكاتبُ في الديوانِ، ومعلمُ الصبيانِ في الكتاتيب، ومؤدبُ الأمراءِ في القصور، لا غنى لهم عنه، ولربما احتاجهُ الطبيبُ والكيميائي، وتجاوزَ الفقيهُ والمفسرُ فاستعانَ به. والحقبةُ التاريخيةُ التي صدرَ فيها الكتابُ والظروفُ السياسيةُ والاجتماعيةُ، كانتْ أحدَ أهمِ الدوافعِ لكتابته، وواضحةَ المعالمِ فيهِ، وموجهةً لأفكارهِ ومقاصدهِ وأهدافه.

النظرُ في كتابِ الجاحظِ (البيان والتبين)، وقراءةُ ما بينَ سطورهِ، يُظهرُ هذا الكتابَ الأدبيّ النادرَ بصورةٍ أخرى، وأنهُ ليسَ مجردَ أصلٍ مِنْ أصولِ اللغةِ، أو ديوانٌ مِنْ دواوينِ الأدب، وأنهُ كتابٌ ذو طابعٍ سياسي، وأنهُ وسيلةُ إعلامٍ فائقةٍ، في خدمةِ بلاطِ السلطان، والذبّ عنه والدعوةِ إليه. لقدْ أفردَ الجاحظُ لكلِ خصمٍ مِنْ خُصومِ الدولةِ العباسية، عنواناً فيه نصوصٌ أدبيةٌ وأخبارٌ ونوادر، ورد على (افتراءاتهم) بفقرةٍ أو فقراتٍ، وأحيانا بعشراتِ الصفحاتِ مِنْ النقدِ اللاذع، والسخريةِ المغلفةِ بأقوى العبارات، وأدقِ التعابير، والتي تتميزُ بالإيجازِ، ووفرةِ المعاني، بحيثْ يمكن للسامعِ مِنْ أنْ يحفظها أو يَعيَ معانيها (على الأقل)، فينقلها عندَ سماعها مِنْ مرةٍ واحدة، دونَ الحاجةِ لإعادتها عليه.

الأمر أشبهَ ما يكونُ بمنهاجٍ خفي، أو حلزوني، يدورُ القارئُ أو المستمعُ بداخله، ولا ينتهي منهُ إلا وقدْ تحققتْ فيهِ أهدافُ هذا المنهج. فأسلوبُ الجاحظِ الأدبي الساخر، وبراعتُهُ الأدبية، وعباراتُهُ اللطيفة، وإحاطتُهُ بمختلفِ العلوم، ومعرفتُهُ بسائرِ الأخبار، وسعةُ اطلاعهِ على الواقعِ السياسي والاجتماعي في عصره، مكنتهُ مِنْ نقدِ كافةِ خصومِ الدولةِ، مِنْ بقايا الأمويين، أو مِنْ دعاةِ الشعوبيةِ (الشعوب غير العربية التي دخلت في الاسلام خاصة الفرس)، وبعضِ الفرقِ كالخوارجِ وحتى المعتزلةَ -التي ينتمي اليها-، وأبناءِ عمومةِ العباسيين (العلويين)، كانوا كلهم مادةً ونصوصاً أدبيةً لتوصيلِ أفكارهِ وتحقيقِ أهدافهِ بعذوبةٍ، وكانتْ أخبارهم جميعاً، التي اختارها بعنايةٍ، تذبُّ عنْ حياضِ الخلفاءِ، وترفعُ مِنْ قدرهم، وتردُّ على الخصومِ وادعاءاتهم، وعلى مطامعهم في الحكم، وتحطُّ مِنْ مكانتهم السياسيةِ والاجتماعيةِ.

إنَّ اختصارَ آلافِ الصفحاتِ، مِنَ الخطبِ والشعرِ والأخبارِ والنوادرِ (التي هي في الأصل تختزل في عباراتها القصيرة الكثير من المعاني والمغازي) في مدونةٍ، أو مثالٍ مِنَ الأمثلةِ أمرٌ صعب، ولكنّْ لا بدَّ مِنَ المرورِ ببعضِ الأمثلةِ التي توضحُ ما قصدهُ الجاحظُ بكتابهِ، فمِنْ أمثلةِ ما قدمهُ في هذا الكتابِ أثناءَ هجومهِ على خصومِ الخلافةِ العباسيةِ وحكمهم، أنَّهُ عقدَ مقارنةً في غايةِ البراعةِ بين شقيقين (العباس وأبي طالب أبناء عبد المطلب)، فجدُّ العباسيين هو العباسُ بنْ عبدِ المطلبِ (رضي الله عنه)، وجدُّ العلويينَ هو أبو طالبٍ بن عبدِ المطلب، فالأولُ آمنَ والثاني كفرَ. كما عقدَ مقارنةً مِنْ نَفسِ النوعِ بينَ مكانةِ شقيقينِ آخرينِ هما (هاشم وعبد شمس أبناء عبد مناف)، فهاشمُ جدُّ العباسيين وعبدُ شمسٍ جدُّ الأمويين، وهاشمُ أفضلُ مِنْ عبدِ شمس، دونَ أنّ يسخرَ مِنْ أحد، فكلهم مِنْ نسبٍ واحد، وأبناءُ عمومةٍ واحدة.

وكانَ مِنْ المستغربِ (والمستبعد) أنّ يشنَّ الجاحظُ هجوماً على زعيمِ المعتزلةِ ومؤسسها (واصل بن عطاء)، لأنَّهُ ينتمي للمعتزلةِ أصلاً ومِنْ فضلائها. كانَ واصلُ بنُ عطاءٍ أحدَ جلساءِ الحسنِ البصريّ رحمَهُ الله، وخالفَ الحسنَ في بعضِ المسائلِ فطردهُ مِنْ مجلسهِ، فاعتزلَ واصلٌ مجلسَ الحسن، فسميتْ جماعتُهُ معتزلة. وليسخرَ الجاحظُ مِنْ زعيمِ المعتزلةِ ويحطَ مِنْ قدرهِ ومكانتهِ تزلفاً للخلفاء، أسهبَ الجاحظُ بشكلٍ واضحٍ في شرحِ عيوبِ النطقِ والكلام، عندَ الخطباءِ والمتكلمينَ والقصاصين، كأنَّهُ طبيبٌ أو عالمٌ مِنْ علماءِ التشريحِ، يصفُ جهازَ النطقِ عندَ الإنسان، وشرحَ تلكَ العيوبَ، كاللثغةِ والإقلابِ والإعلالِ والإبدالِ، وغيرها مِنْ عيوبِ الكلامِ بشكلٍ مفصلٍ، ودارَ حولها بدقةٍ، لينفذَ مِنْ ثغرةٍ بعينها، وليثبتَ أنَّ واصلَ بنَ عطاءٍ (زعيم المعتزلة ومؤسسها) كانَ ألثغاً بحرفِ (الراء)، وأنّهُ كانَ يخطبُ الخطبةَ العصماءَ والخطبَ الطوال، ولا يأتي بكلمةٍ فيها (راء).

وبعدَ ذلكَ جاءَ الجاحظُ بكلِ الأدلةِ مِنْ شعرٍ وكلامِ الفصحاء، على أنَّ العربَ تستخدمُ كلمةَ (البُرّ) ولا تستخدمُ كلمةَ (القمحِ وهي لغة شامية أو الحنطة وهي لغة كوفية) في خطبها وأشعارها، لأنَّ واصلَ بنَ عطاءٍ كانْ ذكرها مرةً (البرَّ) فقالَ عنها قمحاً أو حنطة، هروباً مِنْ حرفِ الراء. ولمْ يكتفِ في هذا الموضعِ بالذاتِ، إلى أنّ جاءَ بدليلٍ مِنْ كلامِ الحسنِ البصريّ رحمهُ الله، عندما سمعَ مَنْ يذمُ الفالوذق –وهي نوع من الحلوى-فقالَ البصري: (لبابُ البرّ بلعابِ النحلِ بخالصِ السمنِ، ما عابَ ذلكَ مسلمٌ).

أما الشعوبيةُ ودعاتها (الفرس -خاصة-والترك ممن دخلوا في الاسلام)، فقدْ جرّدَ عليهم الجاحظُ كلَّ أسلحتهُ الأدبية، وأظهرَ كلَّ عيوبِ نطقهم، وعجزهم عنْ الإتيانِ ببعضِ الحروف، فضلاً عنْ إخراجها مِنْ مخارجها بشكلٍ صحيح. وكانوا المادةَ الدسمةَ لنقدِ الجاحظِ، دفاعاً عنْ العربِ ومكانتهم، وكانتْ الخلافةُ حتى ذلكَ اليومِ مِنْ قريش، والسلاجقةُ والبرامكةُ (الفرس أو الترك) لمْ يكونوا بعدُ في العسكرِ، ولا قادةً للجيش. وكانتْ تدورُ حربٌ خفيةٌ بينَ دعاةِ الشعوبيةِ، ودعاةِ العروبية، جوهرها أحقيةُ الخلافةِ والحكم، وأنَّ الاسلامَ أوسعَ مِنْ العروبة.

الحجاجُ بنُ يوسفَ الثقفي، عاملُ عبدِ الملكِ بنَ مروانَ وابنَهُ هشامَ على العراق، فقدْ ملأتْ أخبارهُ وخطبهُ ونوادرهُ الكتاب، ووردَ ذكرهُ عشراتِ المرات، وكانَ وسيلةً لحملةٍ إعلاميةٍ شعواءَ لتشويهِ صورةِ الأمويين، وعمالهم ومواليهم

ووجدَ أنصارُ الشعوبيةِ في شعرِ الهجاءِ العربي، ونشرهِ ما يكفي لتقويضِ أمجادِ العربِ في الكرم، وأنّهم ليسوا مضربَ المثلِ في السخاء، وأنّهم كسائرِ الشعوب (ليسوا مختارين)، فيهم الكريمُ والبخيلُ، وفيهم الشجاعُ والجبان، وليسَ فيهم ما يميزهم كثيراً عَنْ غيرهم، ولا يعطيهم هذا الكرم والسخاء (المنقول في الأدب) الحقَّ في الانفرادَ في الخلافةَ والحكم. فكانَ لا بدَّ مِنْ حملةٍ إعلاميةٍ مضادةٍ، تقفُ في وجهِ الشعوبية، وتردُّ عليهم، فكانوا الموضوعَ الأبرزَ في النقدِ والسخرية، وأخبارهم ونوادرهم في البخلِ والغباءِ وعيوبِ النطقِ والكلامِ، مجالَ تلكَ السخريةِ والتندر، بهدفِ التقليلِ مِنْ مكانتهم، ولشنّ هجومٍ مضادٍ عليهم، ولتحجيمِ هجمتهم على الدولةِ وخلفائها مِنْ العباسيين.

فمِنْ أمثلةِ ذلكَ أن جاءَ الجاحظُ بما ذكرتهُ دعاةُ الشعوبية، وعابتْ بهِ العربَ أنّها تخطبُ وفي يدِ الخطيبِ عصاً أو قوساً، فردَّ عليهم الجاحظُ بعشراتِ الصفحاتِ، لتوضيحِ أهميةِ العصا، وأنها مِنَ الشجر، وأنّ الشجرةَ أخرجتْ آدمَ عليه السلام مِنْ الجنّة، وأنجتْ نوحاً عليه السلام مِنَ الطوفان، وماتَ سليمانُ عليه السلام متكئاً على منسأتهِ (عصاه)، وأنّها معجزةُ موسى عليه السلام.

أما الحجاجُ بنُ يوسفَ الثقفي، عاملُ عبدِ الملكِ بنَ مروانَ وابنَهُ هشامَ على العراق، فقدْ ملأتْ أخبارهُ وخطبهُ ونوادرهُ الكتاب، ووردَ ذكرهُ عشراتِ المرات، وكانَ وسيلةً لحملةٍ إعلاميةٍ شعواءَ لتشويهِ صورةِ الأمويين، وعمالهم ومواليهم. وجاءَ مِنْ خلالهِ بالأخبارِ التي تصفُ بخلَ الأمويينَ وظلمهم. نقلَ الجاحظُ الكثيرَ مِنْ أخبارِ الحجاجِ التي تصفُ ظلمهُ وجبروته، وجعلَ منها أداةً رافعةً للعباسيين، وخافضةً للأمويين، وقدْ جمعْ لهُ بينِ النقضينِ، بأنّه (أي الحجاج) الذي وطأَ المنابر، وأذلَّ الجبابر، لتثبيتِ حكمِ بني مروانَ، وفي ذاتِ الوقتِ أنّه عجِزَ عَنْ مواجهةِ (شبيب الشيباني وزوجته غزالة الشيبانية) والتجأَ منهم في الكوفةِ للقصرِ والحصون، عندما دخلوا الكوفةَ لقتاله، خوفاً مِنْ غزالةَ بالذات، وأنّه عجِزَ عنهم، وعَنْ طلبهما ولمْ يظفرْ بهما، حتى ماتَ شبيبٌ غرقاً في نهرِ دجيلً الأهواز لا قتلاً بيدِ الحجاج. فكتبَ إليهِ عمرانُ بنُ خطان -وكان الحجاج قد لج في طلبه أيضا-:

أسدٌ عليّ وفي الحروبِ نَعَامَةٌ.. ربداءُ تنفرُ مِنْ صغيرِ الصافرِ 

هلا برزتَ إلى غزالةَ في الوغى .. بلْ كانَ قلبكَ في جناحيّ طائرِ

وكما ذكرنا إنّ اختصارَ الكثيرَ مِنَ الخطبِ وأبياتِ الشعرِ، التي تختزلُ الكثيرَ مِنَ المعاني، مِنْ أفواهِ أفصحِ العربِ، في أمثلةٍ قليلةٍ لتوضيح أهدافها ومقاصدها، أمرٌ صعبٌ جداً، وما جاءَ هنا غيظٌ مِنْ فيضْ مما جاءَ في كتابِ (البيان والتبين)، ولمْ يفتْ الجاحظُ أنْ يذكرَ أهميةَ الكتابَ في هذا الكتابِ حيثُ قالَ: (القلمُ أحدُ اللسانينِ، كما أنّ قلةَ العيالِ أحدُ اليسارين، والقلمُ أبقى أثراً واللسانُ أكثرَ هذراً).

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى