مقالاتمقالات مختارة

الإسلاميون في بيئة الصراع الدولي.. معالم أساسية (4)

بقلم محمد حسني
انتهينا في التدوينة السابقة إلى إرساء فكرة إدارة اللعبة السياسية من قبل الإسلاميين في بيئة الثورات من خلال منطق حلف المصالح المشتركة، والآن نناقش الإطار الأوسع للثورات العربية الإقليمي والدولي، والدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلاميون خلاله. في الواقع، وهو ما حاولنا أن نوضحه انطلاقا من تلك السلسلة من المقالات، فإن إحدى الأزمات الأساسية لتعثر الثورات العربية وتعثر الإسلاميين معها، باعتبارهم المحرك الرئيسي بها، هي فقدان الرؤية الإقليمية والدولية للمحيط الذي يتحركون داخله، وعدم وجود رؤية شاملة تربط بيئات الثورات العربية بعضها ببعض، فيغيب بشكل كامل عن الفاعلين بالثورة السورية، مثلا، ما الذي يمكن أن يربطهم بالحالة المصرية؟ وما الذي يمكن أن يربطهم بالحالة الليبية أو الحالة التونسية أو الحالة اليمنية أو المشهد العراقي؟ والأمر نفسه ينطبق على جميع تلك الدول التي شهدت أنواعا من الحراك داخلها، وكذلك كيف يتم الحفاظ، كما قلنا في التدوينة السابقة، على الارتباط مع قضية فلسطين؟

وإذا كان هذا السؤال، بالرغم من أهميته، لا يحتل الأولوية عند السوريين مثلا أو اليمنيين، فكان يجب أن يكون ذا أهمية كبرى لدى المصريين، بالنظر إلى طبيعة الدولة المصرية، والتي شهدت كبرى الثورات العربية، فمصر كدولة لا تستطيع أن تنهض ولا أن يتحقق بها أي انتصاركيفما كان نوعه، سواء في مسألة الثورة أو غيرها، إلا إذا ارتبطت بمحيطها العربي الواسع وكانت المحرك، ليس لانتصارها فحسب، وإنما لانتصار باقي الدول العربية. إن الثورة المصرية لا يمكن أن تكون لها عودة فضلا عن انتصار إلا إذا أعادت تموضع نفسها لتكون باعثا ومحركا لانتصار الثورة السورية والثورة اليمنية والثورة الليبية، وأن تكون باعثا كذلك لعودة القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية بالنسبة  للعرب.

وهذا ليس كلاما إنشائيا ولكنه الواقع، فإن الخصوم يدركون ذلك جيدا ويطبقونه بشكل واسع، وأوضح مثال على ذلك حزب الله الذي يقاتل في سوريا وفي العراق وفي اليمن، رغم أن هذا الأمركان مدعاة لسخرية خصومه، الذين تساءلوا عن علاقة قضية فلسطين، التي يدعي الحزب أنه يقاوم في سبيلها أو حتى قضية لبنان التي يقول الحزب إنه يناضل من أجلها، ما علاقة ذلك بكل الجبهات التي يحارب بها حزب الله؟ ومن ثم يكون التفسير عند المراقبين من هؤلاء الخصوم هو أن الحزب يعمل كإحدى أدوات المشروع الاقليمي الإيراني في تمدده داخل فراغات القوة العربية، ونحن نعتقد أن هذا به نوع من التسطيح.

 بعد أن استتب الأمن الداخلي لنظام السيسي بمصر ضد خصومه من الإخوان أدرك أنه لا استتباب لحكمه إقليميا إلا إذا كان فاعلا في كل من البيئة السورية والليبية

وكما قلنا في التدوينة الثانية من تلك السلسلة إنه يجب علينا أن ندرك بشكل كامل الفروقات بين الفاعلين بمصفوفة خصومنا، أي الفوارق بين إيران وبين النظام السوري وبين حزب الله مثلا، والمسألة باعتقادنا مردها بشكل أساسي إلى إدراك حزب الله للمعادلة الإقليمية، بعد تحوله من فاعل محلي إلى فاعل إقليمي، وهو المسار الذي بدأ منذ حرب 2006 الى الآن، وبالتالي وللحفاظ على موقعه الذي اكتسبه بسوريا فقد أصبح من المتحتم عليه أن يمد خطوطه إلى العراق وإلى اليمن.

والأمر نفسه ينطبق على الدواعش،الذين أدركوا تلك المعادلة البسيطة، وهي أنهم لا يمكنهم أن يحتفظوا بدولة في العراق إلا إذا تمددوا في العمق الاستراتيجي للعراق بسوريا وكانت دولتهم تقطع خاصرة ما يسمى بالهلال الخصيب، وبنفس الوقت ينشطوا كذلك في بيئة اليمن وفي البيئة المصرية وفي البيئة الليبية. دولة الدواعش انهارت على كل حال لأسباب عديدة تحتاج إلى تفصيلات أوسع من ذلك، ولكن كما أوردنا ذلك بالتدوينة السابقة فإن السبب هو أن فعلهم كان تكتيكيا وليس استراتيجيا، وإلا لكان بإمكانهم أن يكونوا حاضرين في صراعاتنا السياسية حتى تلك اللحظة!

 إن نظام عبد الفتاح السيسي بمصر، كذلك، بعد أن استتب له الأمن الداخلي ضد خصومه من الإخوان أدرك تلك المسألة البديهية، وهي أنه لا استباب لحكمه إقليميا إلا اذا كان فاعلا في كل من البيئة السورية والبيئة الليبية، ولهذا ساند حفتر، وأوجد منصة القاهرة للتباحث بين النظام السوري وفصائل المعارضة، وأبرم اتفاق وقف إطلاق النار بالغوطة الشرقية. فهذا كله من البديهيات التي يدركها جميع اللاعبين في الصراع الإقليمي الحالي، باستثناء أولئك الذين تجري تلك اللعبة على أرضهم ومن يحملوا لواء الثورات العربية! فلهذا علينا أن نضع الخطوط العامة مجددا، والتي تجعل من هذا الاقليم المسمى بالإقليم العربي نظاما إقليميا حقيقيا له تجانس، ويمكن أن يتحرك خلاله الفاعلون من الثوار الذين يرفعون شعار الإسلام السياسي.

تقرير خطوط التجارة العالمية
ميناء غوادر (رويترز)

في موقع غير بعيد من اليمن وما يجري بها من صراع، يجري صراع آخر ولكنه صامت بعض الشيء  بين ثلاثة موانئ كل منها يحمل مسارا مستقبليا مغايرا للآخر، وهي موانئ غوادر الباكستاني وجبل علي الإماراتي أو دبي وتشابهار الإيراني، هذه الموانئ تشهد صراعا في ما بينها أيها يكون الموطئ الرئيسي في حركة التجارة العالمية العابرة بالمحيط الهندي من الصين والهند ودول شرق آسيا إلى العالم الغربي، ولهذا تستثمر كل من الصين وقطر في ميناء غوادر ليكون البديل الرئيسي بتلك المنطقة، وتستثمر الهند مع إيران في تطوير ميناء تشابهار، وبالطبع دبي قد صممها العالم الغربي لتكون معادل سنجابورة المرتبط أساسا بالنفط، وأن يتم استخدام عوائد النفط بشكل أساسي لجعل دبي مركز حركة المال والتجارة الرئيسي عبر العالم، وكما قيل فإن دبي تبدو وكأنها سبع مدن من طراز “ديزني لاند” قد اجتمعت في مكان واحد، ولكنها في الحقيقة عبارة عن سبع مدن من طراز المدن التي كانت تمثل ارتكاز طريق الحرير في العصور الوسطى قد اجتمعت في مكان واحد، بالإضافة إلى كونها، كذلك، تجميع لما تمثله لندن من مركز حركة المال وما تمثله سنجابورة وما يعرف بالنمور الآسيوية ولكن بشكل مختلف، والحديث عن ذلك طول.

وبما أننا ذكرنا طريق الحرير، فإن هذا كله هو جزء من صراع أكبر يمثل الصراع الرئيسي الذي يحرك عالمنا الحالي، وهو مشروع طريق الحرير الجديد الذي تسعى الصين لتكوينه وإنشائه منذ حوالي 15 عاما، فالصين تريد أن تقرر هي كيف تصل تجارتها ومعاملتها مع الآخر الغربي، لا أن يكون ذلك وفق ما قُرر أمريكيا منذ نشأة النظام العالمي الحالي، الذي نعيش به الآن.

من خلال كل هذا تعد اليمن الجائزة الكبرى التي من يسيطر عليها وتكون له السيادة عليها هو الذي سيحسم صراع الموانئ هذا، لأن السيطرة على اليمن وخاصة خليج عدن ليس فقط المهدد الجنوبي للسعودية، وإنما من خلاله ستتم السيطرة على كافة المنطقة المحيطه بها من باب المندب إلى هرمز، وقديما لم تكن أصلا إمارات الخليج تستطيع أن تتحد وتكون دولتها، والتي كانت تريد أن يكون اتحادا تساعيا يضم قطر والبحرين كذلك، في مطلع السبعينيات لولا التدخل المصري سنوات الستينيات باليمن وطرد الوجود الانجليزي من خليج عدن، وجميع المتصارعين على اليمن يدركون هذا، فإن انتصرت الإمارات فستحتفظ بالأهمية الاستراتيجية لدبي، وإن انتصرت إيران فستنتقل الأهمية الاستراتيجية لموانئها من هرمز إلى المحيط الهندي.

والمسألة ليست فقط في اليمن، فلو كان هناك مصلحة استراتيجية مشتركة بين مصر واليمن، فان تلك المصلحة هي التي ستضمن لمصر ألا تتضرر المكانة الجيواستراتيجية لقناة السويس من طريق الحرير الجديد هذا، ويخلق تكاملا بين ما يسمى طريق الحرير البري، الذي يمر من الصين إلى كازخستان إلى بيلاروسيا ثم أوروبا، وبين طريق الحرير البحري الذي المفترض أن يمر من بحر الصين الجنوبي الى المحيط الهندي إلى البحر الأحمر إلى المتوسط، وكذلك بالرغم من أن تقسيم تلك الممرات التجارية لن يمر كما هو مفترض من سوريا، لكنه يمر من المحيط الإقليمي المتنازع على سيادته ما بين الأتراك والإيرانيين والروس أو وسط آسيا، وكما هو الحال باليمن والصراع على موانئ المحيط الهندي فإن تقريرالسيادة هنا سيكون لمن تكون له السيادة أو يتقاسمها بسوريا. وفي المقابل، فإن المكانة الدولية لأوروبا كانت ومازالت تقرر نفوذها ومكانها في شرق وجنوب المتوسط، أي الشريط الذي جمع مصر وسوريا وتركيا، وهذا أصلا السبب والمحدد الرئيسي لوجود الصين في الصراع السوري! فبالتالي لابد من إدراك هذا الإطار الاستراتيجي الأوسع حتى يكون عنوانا للالتقاء بين الثوار في اليمن وسوريا ومصر ينظم حركتهم.

مستقبل طلب الطاقة العالمي
خريطة لبحر قزوين والدول المطلة عليه (الجزيرة)

كما نوهنا في المقال السابق، فإن الصراع بسوريا يؤثر أول ما يؤثر على مسارين أساسيين وهما: أمن الخليج العربي ومشاريع الغاز شرق المتوسط، والمكمل الثاني لتلك الصورة هو صراع السعودية في اليمن، ولهذا فإن ما فعلته السعودية منذ بدء تدخلها العسكري باليمن هو الاستحواذ على مناطق الإنتاج النفطي اليمنية المتنازع عليها مع السعودية منذ توحد اليمن، وإذا أكملنا تلك الصورة فهناك حقيقة بديهية لا يُلتفت إليها كثيرا وهي أن معظم الشريط النفطي الذي ينتج الطاقه لكل العالم  تسكنه أغلبية شيعية! سواء بالمنطقة الشرقية بالسعودية أو بالعراق أو بإيران أو في بحر قزوين. فبالتالي إعطاء عنوان صراع سني شيعي للصراع الذي يجري بمنطقتنا سيقرر في الواقع من تكون له السيطرة على مقدرات الطاقة بالعالم.

لهذا ليس مصادفة أن يكون بحر قزوين، الذي يعد ثاني أغنى مناطق النفط والغاز في العالم بعد الخليج العربي، مرتكز طريق الحرير الجديد المشار إليه أعلاه، كما أنه ليس مصادفة أن تكون عاصمة كازخستان الأستانة، والتي هي أكبر دولة من حيث النصيب من ثروات بحر قزوين، هي مقر المباحثات التي تقرر مصير سوريا لكونها تقع على نقاط التماس والنفوذ بين تركيا وايران وروسيا. ولقد أدرك  هؤلاء الأطراف ما لا ندركه نحن، مجددا، أن من تكون له الهيمنة على أرضنا في سوريا سيؤثر بالتبعية على نفوذه بالمجال القزويني!

وإذا رسمنا كذلك الصورة الأكبر عالميا، وبالرجوع إلى الوراء، فإن لحظة الأزمة المالية العالمية عام 2008 ، كما يحلل الكثيرون، كانت هي المحفز والشرارة الرئيسية التي أطلقت الظاهرة المعجزة التي شهدناها والمتمثلة في ثورات الربيع العربي، ومن المثير للأسى والسخرية معا، فإننا كنا نحن من أنقذنا الاقتصاد الغربي من أزمته، أو تحديدا أمراء الخليج في الرياض وابو ظبي عن طريق ارتباط البترول بالدولار كمؤشر عالمي للتسعير الذي يعرف شعبويا باسم محور البترودولار!، فإن الصناديق السيادية للثورة في الخليج هي من سارعت مع الأزمة العالمية لضخ الاستثمارات وشراء الأصول التي كانت تواجه الإفلاس عقب الأزمة المالية في أمريكا وأوروبا، أي أن الغرب لم ينقذ نفسه من تلك الأزمة عبر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وإنما عبر خطوتين أساسيتين هما استثمار الصين في سندات الدين الأمريكية وضخ أموال النفط الخليجي في الأصول الأمريكية!

دخول أمريكا على خط منتجي الطاقة مع اكتشاف النفط الصخري الذي من المفترض أن يدخل حيز الإمداد العالمي في العام القادم 2018 هو محدد رئيسي للصراع العالمي الآن حول الطاقة

ولتكتمل الصورة الكبرى، فإن الصراع العالمي الآن حول الطاقه يرجع إلى محددين: أولهما من تكون له الأولوية على طلب الطاقة العالمي؟ هل الغرب متمثلا بأمريكا وأوروبا؟ أم القوى الصاعدة مثل الصين والهند؟ فمنطق ما يعرف بالأقطاب الصاعدة مثل الصين والهند أننا الآن ننتج بكثافة ونلبي الطلب العالمي مثل الغرب بل بشكل أكثر كثافة وأعلى في كمومية الإنتاج والمدخلات التكنولوجية، فلماذا يكون الطلب الغربي على الطاقة مقدما علينا؟! لهذا فإن الصراع على مشاريع الطاقة وإمدادات النفط والغاز ليس صراعا استحواذيا فقط، وإنما صراع على كسر محور البترودولار وارتهان طاقة الكوكب للطلب الغربي أولا قبل غيره.

أما المحدد الثاني فهو دخول أمريكا على خط منتجي الطاقة مع اكتشاف النفط الصخري الذي من المفترض أن يدخل حيز الإمداد العالمي في العام المقبل، فهنا كما قلنا تطمح روسيا إلى أن تكون محتكر الطلب الأوربي من الطاقه عبر خطوطها للغاز، وكما قلنا في التدوينتين السابقتين فإن ذلك هو أحد خطوط التناقض بين ايران وروسيا في تواجدهما بسوريا، أي أن روسيا تسعى كي لا يكون لها أي منافس لاحتكاريتها لطلب الطاقة الأوروبي حتى لو عن طريق مشاريع غاز من سوريا تشرف عليها إيران، بينما تطمح أمريكا إلى إعادة توزيع الطلب الأوروبي للطاقة بينها وبين شركائها الخليجيين.

ولهذا، فإن السعودية حاليا تطمح للوصول إلى تقارب وصيغة للحل بسوريا دون وجود إيران منافسها الإقليمي ضمن تلك الصيغة. وكانت إحدى الأدوات التي عرضتها السعودية من أجل ذلك أنها تستطيع أن تتحكم في سعر النفط العالمي ومعدل إنتاجها وحصتها العالمية بالتنسيق مع روسيا إذا وصلت معها لحل سياسي بسوريا، وهو ما أنتج حالة حادة لتقلب أسعار النفط خلال العام الماضي ومطلع العام الجاري، حتى تم الوصول إلى تسوية لضبط الأسعار ومعدل الإنتاج بين دول “أوبك”.

والآن يكثر الحديث مرة أخرى حول احتمالية عودة الأزمة المالية العالمية، وأمام تلكؤ الخليج في استخدام ريع نفطه المودع في البنوك الأمريكية في أن يكون رهن الاستخدام الأمريكي أصدرت أمريكا قانون جاستا الشهير والذي يخول لأمريكا تجميد أرصدة الاستثمارات السعودية بأمريكا بدعوى ملاحقتها جنائيا بالتورط في أحداث 11 شتنبر، وتلك المسألة حلت الآن ببساطة بعد قرار خصخصة “أرامكو” وطرح أسهمها في بورصتي نيويورك ولندن!  ما نقف عليه الآن، من خلال ثورات الربيع العربي وما يقف عليه الإسلاميون خصوصا، يمكن أن يكون أحد نتائجه، إذا كان هناك تنسيق إقليمي واسع في ما بينهم، أن لا نوصف مجددا  بأننا مجرد من يسدد فواتير غيرنا من ثرواتنا ومقدراتنا، تلك الثورات وما يمكن من فعل بها هو الذي سيمنع، في حال حدوث ازمة مالية جديدة، أن تسدد فواتيرها من نفطنا، وبالمجمل يمكن لتلك الثورات أن تؤدي إلى عالم أكثر عدالة، أحد عناوينه هو كسر محور البترودولار! وسنكمل هذه الفكرة في التدوينة المقبلة.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى