مقالاتمقالات مختارة

الإسلاميون .. بين سُنة التدافع ونهاية التاريخ

بقلم د. عامر البوسلامة

في هذا المقال، لا نتكلم عن التأصيل الشرعي للحوار، فهذا له وقت آخر، ومساحة ثانية، وهو موضوع ذو شجون، ويستحق أن نقف على منهجه الحضاري الإسلامي؛ ثقافة وممارسة، وإن كان هناك نتف من الكلام عن هذا الشأن بحكم ارتباط جزء من مقتضيات البحث بهذا الموضوع، ولكنا نتكلم عن الواقع المعاصر لمسألة التدافع والتغلب، التي أرى أن البحث فيها يتناول من ثلاثة محاور:

1- الذين يقولون بنظرية «نهاية التاريخ»؛ وهؤلاء يرون أن الرأسمالية الغربية قد انتصرت، وارتفعت وتمكنت وتغلبت وتعالت وتطاولت، وملكت وجمعت وقسمت وضربت، وتفوقت على كل الحضارات الأخرى، المعروفة على وجه الأرض، بما ملكت من وسائل القوة، وأدوات التمكين الحيوي، والشهود الحضاري، والعلوم الحاكمة، وآليات السيطرة، وقواعد الغلبة، في مجالات الحياة كافة، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وإعلامياً وتكنولوجياً وغير ذلك، وهذه المكنة دليل هيمنة كبرى في عالم تحكمه صراعات متنوعة، وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد لكل البشرية أن تخضع لهذا الانتصار، غصباً عنها، وتعترف بهزيمتها غير المعلنة أمامه، من خلال مسار سلوك، وبرامج خضوع عملي، وتترك المكابرة الفلسفية، وتعيش الواقع، وتعترف بسواكن النفس فيها من هذا الإقرار، بلا لف ولا دوران، وتمارس ذلك بصمت عملي بتفاصيله، يكون دعم هذا الاعتراف الضمني ظاهراً وباطناً، ولا بأس بتغليف هذا الموضوع الشائك بأغلفة مناسبة، بحيث يمر الأمر بسلام، ويسمى الحدث بغير اسمه، والوقائع تلون بألوان ثانية، بحيث يخفف من حدة الحرج، والعبرة في نهاية المطاف للمعاني وليس للأشكال والمظاهر.

2- ومن ثم يصبح العالم كله يمضي على وتيرة واحدة، يرى بعين واحدة، ويقف على ساق واحدة، ويفكر بعقل واحد، بلغة أحادية القطب، فهو السيد وهو المطاع، وهو الآمر الناهي، في أسياسيات الحياة، فلا خصوصية لأحد، ويسمح في الخصوصية في أطر لا يكون لها تأثير على المسار العام، ولا حدود لهذا المنهج، فلا فوارق، ولا مفاصلة ولو بالجانب الشعوري، بل هي هيمنة عليا لسلطان العولمة، الواجب الحضور في كل مفاصل الحياة.

ويساعد على الاستسلام لهذه الحقيقة كما زعموا؛ أن أصبح العالم كأنه قرية واحدة، بما تحقق له من انفجار معرفي، واكتشاف علمي، وتقدم تكنولوجي، خصوصاً في هذا الإنتاج المذهل لوسائل الاتصال، وأدوات المواصلات، والاكتشافات العملاقة، في المجال العسكري، ومنها السلاح النووي المخيف، والصواريخ عابرة القارات المرعبة، وتفاصيل هذا تطول في تجليات الأمر من خلال عنوان عام يصطلح عليه بـ»عصر العولمة»؛ بحيث يكون العالم، كل العالم، على نمط واحد، وبرأس مدبر أصل في القيادة، فتكون عندنا العولمة السياسية، وثانية إعلامية، ومثلها العسكرية، وأخرى ثقافية ودينية، وكذا العولمة الاقتصادية، وهذا كله المقصود منه المفاصل الأساسية التي تكون على مدار عجلة الحياة، أما الفتات الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فهذا لا يقيمون له وزناً، ولا يلقون له بالاً، ويأذنون للآخرين أن يلعبوا في مربعاته، بكل أنواع اللعب، وسائر صنوف المباريات، وشعاراته العامة حقوق الإنسان، والمرأة والطفل، والتعددية، والمجتمع المدني، برؤية ثقافية خاصة، وأجندات لها عمقها المعرفي في دواوين «الأدلجة».

3- وهذا الفكر مرفوض رفضاً قاطعاً، بهذا الشمول الذي يذكر، وهذه الخطط التي ترسم، وهذه الممارسات التي يمضي عليها أصحابها، لأنه استعمار بأبشع صوره، من خلال لغة الغابة، التي يأكل فيها القوي الضعيف، وبالذات عندما تفتح حلبات الصراع بين هذه المكونات الحياتية، التي ما إن قبلت بهذا المبدأ، فإنها توقع على نفسها بالفناء المحتم، والهلاك الأكيد، والقصة طويلة.

صدام الحضارات

4-   الذي ألف كتاب «نهاية التاريخ» هو «فوكوياما»، الذي أكد الفكرة الأولى، التي تفرض خيار نهاية التاريخ، وضرورة تعامل كل دول العالم ومكوناته بلغة المنهزمين أمام عملاق الدنيا النموذج الرأسمالي، ومن نواقض هذه النظرية أن قام أستاذ «فوكوياما» الفيلسوف «صومايل هنتنجتون» بمعارضته معارضة كاملة، وألف كتاب «صدام الحضارات» وخلاصته:

التاريخ لم ينتهِ، بل تتنامى الحضارات الصدامية، وتتشعب نتوءات التنافس برؤوس الأبعاد الحضارية الحادة، التي لا يمكن القضاء عليها بشكل نهائي، وصورة ذوبانية، ومن يتصور أن العالم صار لقمة سائغة وإلى الأبد -نتيجة هذه العوامل والوسائل- فقد أخطأ وأبعد النجعة، فالأمر بالتأكيد ليس بالحالة الوردية التي يصورها أصحاب المذهب الأول.

ويرى هذا المفكر أن سمة المرحلة القادمة، ذات عنوان واحد، يتمثل في صراع قادم له منهج لا يعرف التعايش، ولا نمط التسليم، هو «صدام الحضارات»، فهناك الحضارة الغربية والصينية واليابانية والهندية والبوذية، وركز كثيراً على الحضارة الإسلامية، ومن تصور أن هذه الحضارات نامت، استعداداً لها لتذوب في عالم النموذج الرأسمالي العولمي، تمهيداً لوضعها في قائمة الحضارات التي بادت، فإنه لا يعرف التاريخ، ولم يقرأ الحاضر بدقة، ولم يستشرف المستقبل بآلياته العلمية، وهنا يطيب لي أن أثبت ملاحظتين:

الأولى: فهو إن أراد وقوع ذلك من باب استشراف المستقبل، فهذا له، ولا يحجر على أحد فيما يتوقع ويفكر ويقرأ ويحلل.

الثانية: وإن أراد الدعوة إلى هذا الصراع وتأجيجه، فهذا فيه نظر، وتختلف الرؤى حوله، لأنه بصراحة لو وقع سيباد العالم.

5- وهناك اتجاه ثالث في الغرب ينادي بحوار الحضارات، يقابل هذا الاتجاه تلك الاتجاهات العولمية المحمومة، من تجار الحروب، وعشاق المادة والذهب، وأحباب كسر رؤوس الآخرين، ومثلهم وفريق منهم الذين يحبون لون الدم، ويسعدون بإراقته، على موائد الفعل التغلبي العنصري، ورائد اتجاه «حوار الحضارات» المفكر المعروف الذي اعتنق الإسلام «روجيه جارودي»، ويوافقه عليه بعض ساسة الغرب ومفكريه، وهذا الاتجاه يرى التواصل مع الحضارات التي ذكرت في القسم الثاني، وغيرها مما لم يذكر، من خلال علاقات دولية متوازنة، لبناء حالة تفاهم على أساس القواسم المشتركة، بغية تجاوز الصدام، وتحقيق العيش المشترك، من خلال منظومة قواعد تعتمدها جميع المكونات، من أهمها: تأكيد قيمة السيادة للأمم والشعوب، ومنها الأمة العربية والإسلامية واحترام الخصوصية، لكل قوم هويتهم، وتبادل المصالح بمصالح، ورفض نظرية المصالح بالمبادئ، والتعاون في الملفات المشتركة التي يتوافق عليها أصحاب هذه الأمم.

دور الإسلاميين

6- دور الإسلاميين وأثرهم في هذه المرحلة؛ حيث إن لهم أهمية استثنائية، في هذه الخريطة المتشابكة الخطوط، والمتعارضة المصالح، خصوصاً بعد بعض التطورات التي أنتجت ما يعرف بالحرب على الإرهاب، الذي اختلط فيه الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، وخلطت الأوراق خلطاً يشي –فعلاً– بصراع حضارات أو ثقافات أو عقائد، حتى صار الإرهاب ينسب للإسلام، بل تطاول كثير من أصحاب الاتجاه الأول –بصورة أو بأخرى– على الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن الكريم، يتبعه عدوان فج على التاريخ الإسلامي.

من هنا وأمام هذه الصورة، أرى أن الإسلاميين تترتب عليهم جملة من الواجبات التي ينبغي أن يقوموا بها، كما عليهم أن يتخذوا بعض الإجراءات التي تساهم في إثبات الحضور لهذه الأمة الباقية، ما بقيت الحياة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا تبطل دورها عولمة، ولا تلغي وجودها نشوة انتصار هنا أو هناك، فالحياة قلب، والأيام دول، والعالم على مفترق طرق.

ومن هذه الملامح التي ينبغي أن يؤكدها:

أولاً: ضرورة استكمال الدور الحضاري الدعوي الذي يقوم به الإسلاميون، وترتيبه أكثر، وتعميق مفاهيمه، وبث أصول هذه الدعوة بتعريف الناس بالإسلام، الذي يفهمه أهله بمنهجية سليمة، وفكر قوامه الوسطية الحقة، وبتوازن وشمول، واليوم يوم البيان لتعاليم الإسلام وعقيدته وشريعته، وهذه الساعة ساعة التعريف بالمشاريع الإسلامية التي ينادي بها أصحابها، كل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، التي عُرف بها الإسلاميون الغيورون.

ثانياً: الحذر من الاستدراج –أمام هذه الضغوط الظالمة– التي تظهر نتن روائحها، في كل أرجاء المعمورة، ومنها الاتهام بالإرهاب، بل نقابل ذلك بالصبر، وضبط النفس، وترسيخ قيم التوازن، ونبذ الغلو.

ثالثاً: ترسيخ منهج الحوار، ومد جسور التواصل الحضاري في هذا الموضوع، لكل الناس، وبالذات منهم من له أثر فاعل في عالم التأثير، كالمراكز البحثية، وصناع القرار، والساسة والأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، وأساتذة الجامعات، والكتَّاب والإعلاميين، إلى غير ذلك من ركائز الفعل، في حياة الأمم والدول والمجتمعات.

رابعاً: من الضروري أن نعيش واقعنا بصورة علمية، ونفقه أدوات الفعل المثمر، وآليات عمله، ومواضع التأثير فيه، ونتعامل مع هذه المعرفة، بلغة الإفادة منها، فمن لا يعش واقعه، لا يفقهه، ومن لا يفقه واقعه سيكون حتماً في ذيل القافلة، في عالم السبب والسنن.

خامساً: الأمة فيها خير كثير، وثروات طائلة، على الإسلاميين أن يقوموا بدور المفعل لطاقات الأمة -بالتعاون مع كل الجهات الخيرة- والعمل على إعدادها لدورها المرتقب؛ فردياً وجماعياً، شعبياً ورسمياً، لتأكيد ضرورة الثبات، وحتمية الحضور، مع إنتاج مصانع القدرة على التحدي، بكل شعبها.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى