مقالاتمقالات مختارة

الإسلاميون المعارضون لفكر المعرفة وفقه الدولة

(بقلم مهنا الحبيل، الجزيرة)

يعارض التيار العلماني الراديكالي فكر المعرفة الإسلامي، ويرفض قدرته على إنتاج ثقافة تعايش ومساحة وعي إنساني متقدم، بإطاره القيمي، وبنظام قانوني دستوري، فيه مشترك مع الجهد المدني الغربي وفيه مختلف. أما في هذه السطور فنجيب على فريق من الحالة الإسلامية المتعددة حزبيا وفكريا ومذهبيا بصورة غير مسبوقة.

وهو يعترض على فكر المعرفة الإسلامي من أصله، ثم ما ينتجه لمشروع الدولة والمجتمع، وهنا شاهد بسيط في جواب مباشر افتتاحي، وهو كيف يعترض هذا التيار على اجتهاد الفكر المعرفي، والحالة الإسلامية تعيش كل هذه التعددية الضخمة، وغير المحمودة أحيانا في إطارها الصراعي، وهي ذاتها دلالة على مساحة الفهم الواسع في الشريعة الإسلامية.

“الجدلية التي نطرحها هنا تأتي في سياق الفكر التحاوري الإسلامي/الإسلامي، والإسلامي/العلماني، وليس في سياق الإقصاء السياسي أو الثقافي، ونقصد بذلك أن عدم نضج الحالة الفكرية لقطاعات محافظة فقهية أو حزبية من الإسلاميين، لا يبرر نبذها من الشراكة المجتمعية، والاحتواء الدستوري والسياسي”

مؤكدين هنا أننا نطرح هذه الجدلية في سياق الفكر التحاوري الإسلامي/الإسلامي، والإسلامي/العلماني، وليس في سياق الإقصاء السياسي أو الثقافي، ونقصد بذلك أن عدم نضج الحالة الفكرية لقطاعات محافظة فقهية أو حزبية من الإسلاميين، لا يبرر نبذها من الشراكة المجتمعية، والاحتواء الدستوري والسياسي.

بل إن هذا النبذ في ذاته هو أحد أسباب ضعف حركة الوعي الفكري في الأوساط الإسلامية، والتي يحرص الاستبداد على بقائها لسهولة تسخير أو توريط الجماعات الإسلامية -سطحية الفكر والتجربة السياسية- في مشاريع أزمات، ثم ضربها.

كما أنه من المهم تأكيد أن الفقه المحافظ ليس بالضرورة صنواً للغلو الديني المسلح وغير المسلح، وأن الحالة السلفية -خاصة في أصولها القديمة الراجعة إلى الإمام ابن تيمية- ليست هي ذاتها السلفية التي اتخذها الغلو المسلح قاعدة لانطلاقته.

كما أن الحالة المحافظة والمعترضة على فكر المعرفة الإسلامي وفقه الدولة ليست منحصرة في المدرسة السلفية فقط، وإن تداخلت بعض الآراء والسمات، لكن لا يُحمّل عليهم حركة الجنوح الكبرى التي انفجرت مؤخراً، وإنما الأمر يحتاج إلى فرز نقدي منصف.

إن القطيعة التي عايشها المسلمون -منذ دهورٍ من التخلف والفوضى السياسية- صنعت حروزاً شرعية في مخيّلة بعض الفقهاء، لم ينص عليها الشارع ولم يزكّها، كمن خالف -على سبيل المثال- هدي المساواة بين الناس، ونبذ مكانة العدالة في الشريعة، وأسبغ على المتغلب بالبطش -مهما بلغ ظُلمه أو فساده أو التخلف الذي أفضت إليه سياسته- تزكياتٍ وقداسةً، لا نص عليها مطلقاً بالمعنى الذي يروّج له.

فضلا عن مآلات الانهيار السياسي والعسكري للمسلمين، والتي عَبرت عليهم في دورات زمنية مختلفة، هذا الإرث الضخم لا يزال مؤثراً، وخاصة ما تسرب إلى الفقه فأصبح مادة دينية بلا دليلٍ شرعي مقطوعٍ به عليها.

وبالتالي نفهم المسافة الكبيرة التي تفصل بعض حالات التفكير الديني في العالم الإسلامي عن هذا الوعي، والعلم الشامل الذي انفصلوا عنه وتراجعت فيه مضامين التضحيات والشفافية الكبرى في عهد الشيخين (أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب)، وروح التعظيم لدماء الناس لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رغم بغي المعارضة في عهده، ودستور البلاغة والرأي السياسي والاجتماعي الدقيق في عهد الإمام علي بن أبي طالب.

وصولا إلى الوثيقة التاريخية لفلسفة العدالة في الشريعة التي حققها عمر بن عبد العزيز، بعد أن سجل الحسن بن علي ومعاوية بن يزيد موقفيْهما التاريخييْن في العدالة، وأن الشورى طريقُ الهدي النبوي.

“ينبغي أن نفهم المسافة الكبيرة التي تفصل بعض حالات التفكير الديني في العالم الإسلامي عن هذا الوعي، والعلم الشامل الذي انفصلوا عنه وتراجعت فيه مضامين التضحيات والشفافية الكبرى في عهد الشيخين (أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب)، وروح التعظيم لدماء الناس لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رغم بغي المعارضة في عهده”

ومع أن القضية هنا مجمل فكر المعرفة لا السياسة فحسب، إلا أن واقع الإرث السياسي منذ لحظة التوريث وما بُني عليها، يؤثّر بشدة على تراث الأمة. وهذا لا يعني خلو التاريخ الإسلامي من مصادر معرفة ونهضة وتقدم حضاري، فضلا عن حركة الفكر والفلسفة والعلوم الضخمة التي تقدم بها المسلمون الأممَ، مع وجود بغي سياسي مشهود.

وهو ما يجعل تداخل المعرفة بصناعة فقه الدولة تداخلاً عميقا، وهو بالمناسبة رابط إنساني لا يخص المسلمين وإنما يوجد في تاريخ العالم، خاصة تجربة أوروبا الحديثة وغيرها في تحويل الفكر الاجتماعي إلى صناعة الدولة المعاصرة.

إن هذه المقدمة مهمة لأنها تنفض العقل المقلّد في التاريخ والتراث، وتقول له: أين ما صح أصلاً في تاريخ الشريعة وترسّخ بنص قطعي الدلالة والثبوت في هذا التقليد؟ وهو سؤال قائم مهما زكّت كتب التقليد -ومن دوّن بعض الحقب من العلماء- هذه الظواهر، ومهما صُنع من خلالها كُتب في أصول الحكم في السياسة الإسلامية.

وهي أصول بعضها محض اجتهاد لا نصوص مقدسة، ولا معنى للاحتجاج على فكر المعرفة وفقه الدولة فقط لأنه يُقدم خارج كتب التقليد، فهذا ساقط بالأصل في معيار الاستدلال، متطرق إليه الشك قطعا.

ما دام رأي بشر وتاريخاً يحوّر النص فيه، أو يتأثر لمساندة الظلم والاستبداد، ويُخلط فيه فقه الضرورات، لمواجهة محن المستبدين لأجل سلامة دماء المسلمين، مع مقاصد الشرع في إرساء العدل بين الأمة الإسلامية وبينها وبين الأمم، ثم يصيح محرضٌ على المفكرين الإسلاميين بالبدعة، وقد كان هو بيدر بدعة في كف المستبد، مخالفاً لمرضاة الله ورسوله.

إن فكر المعرفة الإسلامي وُلد في عهود متقدمة منذ أن بدأ ما صنفه الأولون بعلوم الآلة وعلوم الشريعة، وشرعت حركة نقل المنطق والفلسفة في التاريخ الإسلامي تدخل على جغرافيا الأمة، وليس صحيحاً أن يقال إن كل الموقف المسلم القديم كان نبذاً كليا لعلوم المعرفة التأسيسية من منطق وفلسفة، وإن فاجأهم بداية الأمر، لكنهم استوعبوا العلم وبرزوا فيه، بل واستوعبوا مذاهب فلسفية شتّى فيه وتبناها بعض علمائهم.

ومن كان يتصدر حوارات الفلسفة هم علماء شريعة، وتم التعاقب على هذا الأمر بشخصيات كبرى بدءا من إمام الشافعية في زمانه حجة الإسلام الغزالي، إلى قاضي قضاة المالكية المعين في مصر -وهو مغربي- الإمام عبد الرحمن بن خلدون.

وليس صحيحاً أيضا أن يُعتبر الإمام الغزالي وغيره من فريق الفلاسفة الإسلاميين، قد ندموا على ما نجحوا فيه من الرد فلسفيا على تيارات تعارضت مع فكر الوحي، وأنه اعتبر كل فلسفة إثما، وإنما صنّف بعضها في العلوم النافعة مقابل المضرة، فكيف يُسقَط خطابٌ فلسفي في وقته قاد إلى هزيمة نظريات مخالفة لمفاهيم الوحي؟

وإن شعر الإمام -مع تقدم العمر- بلحظات تصوف حملته على الإغراق في إعلان التفويض لنصوص الوحي، الذي لم يخالف إيمانه أصلا، وإنما حاور وانتهى إلى مسلمات تعزز الإيمان بمعايير فلسفة جدلية، كانت لازمة ذلك الوقت واليوم هي ألزم، ولا تعني أبداً إبطاله وسِواه لهذه اللوازم.

“لو أُسِّست هيئة محكّمة اليوم لتدرس باستقلال كل ما مرّ ومن مرّ في سماء الفكر والفلسفة في العالم الاسلامي، وكيف تعامل المسلمون الأوائل ثم مَن أتى بعدهم مع هذه العلوم؛ لتبين حجم الاعتناء الواسع في كل عهد، بحسب متطلباته الزمانية”

لقد أُصّل المنطق في أصول الفقه، وفي مقدمات العقائد لدى المسلمين، في دلالات الوجود، وانخرط فقهاء كبار بعلوم الفكر والفلسفة. ولم يتوقف ذلك، بل كان مستفيضا في العهد الأموي والعباسي، ثم ضعف عند العرب، وانتشر عند المسلمين الأعاجم، وطبقات الفقهاء في المذاهب الأربعة تفيض بهم، بل من اتخذ خطاً مناهضا لاجتهاد الإمام الغزالي كابن رشد الجد، أو توسعات الرازي بحسب ما يراه البعض، لم يُستبعد اسمه من طبقات الفقهاء والمفسرين، وظل الرباط قائما.

هذا فضلا عن قواعد انطلاقة المعرفة العلمية لعلماء المسلمين في الفيزياء والبصريات والطب والرياضيات، من الخوارزمي إلى ابن النفيس وابن سينا، فكلها لها علاقة مباشرة بعلم الفلسفة والمنطق ونظرياته.

قد يجوز بكل تأكيد ضبط حركة العلوم للفرد، ومن لا يلزمه التوسع في الفلسفة وقس عليه فكر المعرفة، لكن أصله قائم بين المسلمين لم ينبذ شريعة وتاريخا ووجوبا كفائيا، فما بالك بتوجهات المعرفة الكبرى في علم الاجتماع، التي من خلالها تُستقرأ أحوال الناس، وكيف تجرى بينهم المصالح والمقاصد التي رضيتها شريعتهم، وتقوم عليها سُنة قيام الدول، وإعمار الأرض لا خرابها.

ولو أُسِّست هيئة محكّمة اليوم لتدرس باستقلال كل ما مرّ ومن مرّ في سماء الفكر والفلسفة في العالم الاسلامي، وكيف تعامل المسلمون الأوائل ثم مَن أتى بعدهم مع هذه العلوم؛ لتبين حجم الاعتناء الواسع في كل عهد، بحسب متطلباته الزمانية.

فكيف يُنكر اليوم على خطاب المعرفة والفكر، وهو واجب كفائي عندما ينحسر تعيش الأمة أقسى لحظات الانحطاط، لا السياسي فحسب بل حتى الثقافي والاجتماعي، وهي تسترشد بقاعدة لا مثيل لها: المعرفة الإسلامية التي تجمع مقاصد الوحي إلى قواعد العمران.

وسنجيب مستقبلا بعون الله، عن سياقات الاختلاف بين استدلال العبادات والمعاملات واستدلالات الفكر، ليفهم القارئ الكريم أدوات المعرفة قبل أن يحكم عليها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى