الإسلام وقضية الصراع السياسي والاجتماعي… دروس من دولة المدينة
بقلم أحمد التلاوي
تُعتبر دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، المرجع الأهم لأية طليعة إسلامية تبحث في الأسس والأصول التي تقف عليها الشريعة في مسألة الحكم وإقامة أركان دولة مستقرة وقوية، قادرة على حفظ العمران، ورد الاعتداء، وصولاً للغاية الأهم، وهي الدعوة وإقامة عقيدة التوحيد وتمكين الشريعة الإسلامية في الأرض.
وهناك نقطة على أكبر قدر من الأهمية، فيما ليست هي بالمطروقة بالشكل الذي تستحقه، في أدبيات الحركة الإسلامية التي تتناول قضية التمكين السياسي، وقضية الدولة وشكل منظومتها السياسية والاجتماعية ومرجعيتها، وهي قضية الاستقرار المجتمعي والسياسي، وكيف عالجها الإسلام في أصوله النقية.
وترجع أهمية القضية، إلى أنها صلب انتظام أي دولة ومجتمع، وبالتالي قدرة الكيان بالكامل على الاستمرار، وهو بجانب أنه أحد المُسَلَّمات الأساسية لعلم النُّظُم، فإنه من البديهيات الإنسانية والعمرانية في الأصل، حيث لا يقوم أي بنيان إلا على أسس قوية وسليمة.
ولقد جُبِلَتْ النفس البشرية على الطمع، ابتلاءً أو اختبارًا من خالقها، ولذلك فمن قوانين العمران السارية على الإنسان لنهاية الدنيا الصراع، سواء الصراعات الفردية، أو الصراعات بين الجماعات المختلفة، وصولاً إلى صراعات الدول والأمم.
وتزيد احتمالات حدوث صراع ما بين فرد وآخر، وجماعة وأخرى، قانون محدودية الموارد، حيث تكون الموارد المهمة نادرة، وبالتالي فإنها تكون محل صراع بين المجموعات البشرية المختلفة.
وبالتالي فإنه من أهم وظائف السلطة الحاكمة، هي التوزيع العادل للموارد، وإدارة العلاقات بين الشرائح والفئات الاجتماعية والقوى السياسية المختلفة، بالشكل السليم الذي يضمن تحقيق الاستقرار، وتفادي حدوث اضطرابات.
ولكن من باب الخطأ الواجب التصويب في هذا الموضع، الحديث عن “الموارد” “Resources”، باعتبارها “الموارد الاقتصادية” “Economic Resources” فحسب، كما في التصور الذهني الشائع، حيث هناك “موارد سياسية” “Political Resources”، لو صح التعبير، ممثلة في السلطة “Authority”، والحكم “Rule”، والسيادة “Sovereignty”.
وفي هذه الحالة، فإن الصراع يكون أشد، ويصل لمستويات دموية؛ لأن السلطة والحكم، لاسيما في المجتمعات الاستبدادية، هي مورد شديد الندرة لو صح التعبير، وليست موردًا نادرًا فحسب.
الإسلام ودولة ما بعد النبوة والخلافة الراشدة… فض اشتباك مفاهيمي:
من بين أهم الأمور التي حدث بها الكثير من الجَلَبَة والتشويش على منظومة الإسلام في الحكم، هي قضية إدارة الصراعات، والعلاقات بشكل عام، حتى غير الصراعية منها، بين المُكوِّن السياسي والاجتماعي داخل المجتمع.
وتأثرت الأدبيات العربية التي تناولت هذه المسألة، إما بأفكار ماركسية وعلمانية، تدعو إلى إقصاء الدين، وتحميله مسؤوليات مشكلات المجتمعات وفشلها، أو بكتابات المستشرقين غير المنصفين التاريخية عن الدولة الإسلامية، بهوياتها المختلفة وسياقاتها المتنوعة التي ظهرت بها عبر التاريخ.
ومن الإنصاف في هذا الموضع القول: إن الممارسة ذاتها التي قام بها بعض حُكَّام الدول الإسلامية الجامعة، عبر تاريخها قبل انهيار آخر هذه الدول ممثلة في الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين، ثم الأنظمة التي حكمت بلداننا العربية والإسلامية بعد ذلك، وبعضها تبنى الإسلام كهوية للحكم.
ولكن هذا لا يعني الإسلام في شيء؛ لأن حديث النعمان بن بشير المشهور، والذي أخرجه الترمذي، يقول فيه الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” إن أمر حكم المسلمين سوف يؤول بعد الخلافة الراشدة إلى “مُلْك جبري”، ثم “مُلْك عضوض”، قبل أن تعود الأمور إلى خلافة على منهاج النبوة. فهذه الممارسات ليست من الإسلام.
وأسس لهذا التشويش، عدم عدالة المفكرين الماركسيين والعلمانيين في العالم العربي، الذين تجاهلوا في دراساتهم عن هذه القضية، الفترة الوحيدة التي تُعتبر سندًا معبِّرًا بشكل مباشر عن الإسلام وتعاليمه، في مختلف المجالات والتفاعلات البشرية، وهي فترة البعثة النبوية، والكيفية التي تعامل بها الرسول “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، كرجل دولة، في الفترة المدنية منها، مع ما كان قائمًا في المدينة من صراعات بين المكونات السياسية والاجتماعية المختلفة.
لمحة تاريخية:
بالرجوع إلى التاريخ، فإننا نقف أمام هذه الظاهرة، التي كانت من أهم الظواهر التي نزل الإسلام وهي قائمة في مجتمع البعثة النبوية، وهو شبه الجزيرة العربية، ظاهرة الصراع الاجتماعي المنبني على أسباب سياسية واقتصادية، وليس دينية.
فوقت البعثة، كانت شبه الجزيرة العربية مجتمعًا قائمًا على وحدة أساسية، وهي القبيلة، وكانت العصبية القبلية هي الأساس الذي تتحرك وفقه القوى المختلفة التي كانت موجودة في مجتمع شبه الجزيرة العربية.
كانت شبه الجزيرة العربية مجتمعًا قائمًا على وحدة أساسية، وهي القبيلة، وكانت العصبية القبلية هي الأساس الذي تتحرك وفقه القوى المختلفة التي كانت موجودة في مجتمع شبه الجزيرة العربية
وبجانب نقطة العصبية، فإن العلاقات بين القبائل حكمتها الكثير من الاعتبارات والبواعث السياسية والاقتصادية، مثَّلت إما نقطة توازن للقوى، أو محركًا لحالة من الصراع الاجتماعي والسياسي في حينه.
وربما كان هذا أكثر ما يبدو في الحواضر الكبرى في جزيرة العرب في ذلك الوقت، وخصوصًا مكة والمدينة وتهامة وممالك الغساسنة والحيرة.
ففي هذه المناطق، كانت التنافسية على أشدها في صدد امتلاك عناصر القوة الشاملة بالمفهوم المعاصر لهذه العبارة، في علوم النظام السياسية، والتي من صميم شأنها دراسة ظاهرة الدولة.
فعلى سبيل المثال، اكتسبت “قريش” في مكة المكرمة، أهميتها وسطوتها بين قبائل العرب كافة، بسبب سيطرتها على بيت الله الحرام، وما اتصل به في عصر الجاهلية من منافع اقتصادية، مثل خدمة الحجيج، ورعاية الأصنام من حول الكعبة، وتجارة الحبوب، وغير ذلك.
وفي بعض الأحوال، كانت هناك قبيلة واحدة، تسيطر على مكان ذي أهمية، كما في حالة قريش، بينما في حالات أخرى، كما في “اليمامة” و”يثرب” – قبل الهجرة – كانت هناك أكثر من قبيلة قوية ذات مال رجال، ونفوذ ومنعة، تسكن في ذات المكان، أهمها كانت قبيلتي الأوس والخزرج.
والصراع بين القبلتَيْن كان قديمًا ومعقدًا، حيث كانت فيه ثارات دم، بجانب العصبية القبلية، والرغبة في السيادة على “يثرب”.
بين الشرعي والسياسي… المنظومة النبوية في إدارة ومعالجة الموقف:
تبنى الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أكثر من وسيلة للتعامل مع هذا الموقف، حيث الحصافة كانت تقتضي القضاء على أسباب النزاع الظاهرة في المدينة في ذلك الحين؛ للتفرغ لأعباء الدعوة وبناء الدولة، والتصدي للتحديات التي كانت يقينًا معلومة لديه “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، عند هجرته، مثل ممانعة مشركي مكة، وتأليبهم المتوقع للقبائل في المدينة، وفي شبه الجزيرة العربية، وممانعة الأعراب حول المدينة ممَّن لم يؤمنوا معه “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، واليهود والمنافقين داخل المدينة نفسها.
وكانت أول وسيلة تبناها النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، وذلك قبل الهجرة ذاتها، هي التأكيد على اجتماع كلمة قبائل المدينة التي أسلمت، ولذلك، فهو لم يهاجر إلا بعد أن بايعوه مرتَيْن في موسمَيْ حج عامَيْ الثاني عشر والثالث عشر للبعثة.
فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قد جعل الإسلام –بحكم الشريعة نفسها– المرجعية الأساسية لهم، موحِّدًا نفوسهم عليه، وإلا يكون هناك خلل في عقيدتهم، وهذا يعني أنهم لم يسلموا إسلامًا صحيحًا.
لقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام المرجعية الأساسية للمجتمع، موحِّدًا نفوسهم عليه، وإلا يكون هناك خلل في عقيدتهم، وهذا يعني أنهم لم يسلموا إسلامًا صحيحًا
وهو ذات السند الذي استند إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند هجرته؛ حيث إنه كان يعلم بحكم النشأة والهوية، وكذلك بحكم الوحي الإلهي، أن طبائع البشر إنما تغلب عليها الأهواء والنوازع، مع عدم تمكُّن الإيمان بالكامل بعد من نفوس الأنصار، وبالتالي فهو توقع أن تحدث غيرة في نفوس أهل المدينة من المهاجرين، الذين هم كذلك من قبائل وعشائر كانت منافسة وربما معادية، يقتتلون فيما بينهم حتى وقت قريب.
فقام صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهي مؤاخاة بالمعنى الشرعي، وليس بالمعنى الودي المجازي؛ حيث تشارك الجميع في الميراث وغير ذلك من حقوق أخوَّة العصب.
وظل ذلك قائمًا حتى نزلت الآية السادسة من سُورة “الأحزاب”، التي يقول فيها الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا}، حيث عادت الأمور لنصابها الأول، بعد استتباب الأوضاع السياسية والاجتماعية في المدينة لدولة الإسلام الأولى.
ولكن لم يكن الحكم الشرعي المباشر هو الوسيلة الوحيدة التي استخدمها الرسول “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” في ذلك، حيث لجأ لأدوات سياسية عديدة، جعلت من مستشرقين بارزين منصفين، مثل مونتجمري وات، يقولون عنه: إن الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان رجل دولة من الطراز الأول.
لم يكن الحكم الشرعي المباشر هو الوسيلة الوحيدة التي استخدمها الرسول “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” في ذلك، حيث لجأ لأدوات سياسية عديدة، جعلت من مستشرقين بارزين منصفين، مثل مونتجمري وات، يقولون عنه: إن الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان رجل دولة من الطراز الأول
فكما يعرف دارسو الاجتماع السياسي، فإن الضمانة الأولى للاستقرار السياسي والمجتمعي، هو الوصول إلى عقد اجتماعي مقبول من جميع الأطراف، بين الحاكم والمحكوم، ويتم تأطيره في صيغة وثيقة تسمى بالدستور، تتضمن حقوق وواجبات الطرفَيْن إزاء بعضهما البعض، وكذلك حقوق أفراد الجماعة إزاء بعضهم البعض، وهو ما يُعرف في زمننا المعاصر بـ”دولة المواطنة” “State of citizenship”.
وهذا ما فعله الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من قبل ظهور أية ديمقراطية غربية أخرى، بل إن الغرب ذاته وقتها لم يكن يعرف معنى الدولة أصلاً، عندما وضع “وثيقة المدينة” التي أقامت أول دولة مواطنة متعددة في التاريخ، تقيم أركان العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية، حيث اعترف فيها بكل مكونات مجتمع المدينة، وأقر لهم حقوقهم، بمن فيهم اليهود.
ولم يكن ذلك هو الإجراء الوحيد الذي لجأ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عملية إدارة الدولة، وبالذات في قرارات السلم والحرب؛ حيث حرص على عدد من الأمور التي هي من صميم “الحَوْكَمة” والحكم الرشيد “Good Rule” بمفاهيمنا المعاصِرة، مثل مراعاة الزعامات التي كانت للقبائل، ولا يتدخل في اختياراتهم لها، وإشراك مختلف مكونات الطيف المجتمعي في القرارات الاستراتيجية وفق مبدأ الشورى، والمنصوص عليه قرآنيًّا، ومراعاة الحساسيات القبلية، والنزاعات القديمة.
كل ذلك، وغيره مما هو بحاجة إلى دراسات مستفيضة لكشفه أمام المسلمين لتعريفهم بدينهم، وأمام الآخر لإزالة الالتباسات الحاصلة حول نموذج الحكم في الإسلام، فعله الرسول “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”؛ لإدارة الصراعات التي كانت قائمة في المدينة قبل الإسلام، ومعالجتها؛ لتحقيق الاستقرار الاجتماعي اللازم لاستقرار أية دولة.
ومن أدلة نجاح هذه السياسة، ثبات الدولة الوليدة بوجه المؤامرات الداخلية التي تورط فيها المنافقون وبعض قبائل اليهود، والمؤامرات الخارجية التي تضمنت حملات عسكرية مباشرة تعاون فيها كل خصوم الإسلام في حينه، من مكة وغيرها، من أجل القضاء على هذا الكيان الجديد، والدين البازغ.
ومَن يعرفون علم النُّظم، فإنهم يدركون أنه لم يكن للرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن ينجح في بناء جيش يخرج به لملاقاة أعدائه، وأن تستتب له الأمور في المدينة، بحيث استطاع فتح مكة، ثم محاربة الروم بعد ذلك، وظهور دولة الإسلام على سائر شبه الجزيرة العربية، ما لم يكن قد استطاع تأسيس دولة مستقرة اجتماعيًّا وسياسيًّا، وفي بقعة كانت من أكثر بقاع جزيرة العرب صراعاتٍ قبل الهجرة.
(المصدر: موقع بصائر)