مقالاتمقالات المنتدى

الإخفاق في قوانين السنن

الإخفاق في قوانين السنن

 

بقلم د. أنور الخضري (خاص بالمنتدى)

 

الديمقراطية نوعان:

نوع حقيقي: تكون فيه البلاد حرة مستقلة ويمتلك فيها الشعب سيادته ويجري تشكيل الأحزاب وتتم عمليات الانتخابات بالقوانين العادلة وحرية ونزاهة ودون تدخل طرف مهيمن وبلا تزوير.

وهي ديمقراطية تتيح لنا التنافس والتمكين والعمل بمقتضيات الدستور والقانون والسلطة المخولة من الشعب.

وهذه الديمقراطية لا تزال أمنية صعبة المنال.

وديمقراطية شكلية: لأن النظام والدولة برمتها شكلية، والدستور والقانون شكليان، فلا استقلال ولا حرية ولا سيادة للشعب، وإنما يمسك بمقاليد السلطة عصابة تحكم. ومن ثم فكل ما يجري أمور صورية يتحكم بها طرف في ظل قوته وتمكنه وضعف الآخرين وفقر إمكاناتهم.

وهذه هي الديمقراطية القائمة في بلداننا. وهي تعطيك هامشا للوجود والحركة بما لا يضر بالعصابة ولا يهدد مصالحها ولا يكسر المعادلة، ومتى خرجت عن النص خرجت إلى القص.

السؤال هو:

في ديمقراطيات صورية وشكلية ما هو الأنسب للإسلاميين فعله؟ وما هو النمط الأنسب لتحركهم؟ وما هي الأولوية لعملهم؟ خاصة وأن أدوات المشهد ليست بأيديهم وكلما ظنوا أنهم قريبين من قطف الثمرة عادوا صفر اليدين.

عقود من الجهود التي يقابلها ابتلاءات لا ترقى إليها ثمرات الجهود، حتى جاءت الثورات الشعبية من خارج الضندوق لتكسر القاعدة، ورغم خروجنا من النفق المحلي وحماستنا بالانتصار اكتشفنا أننا خرجنها من النفق الضيق إلى النفق الأوسع “المنظومة الدولية”. فلم نقرأ حدود الهامش المتاح وتصرفنا وكأننا تمكنا من بلداننا نتيجة قراءة خاطئة للأرقام مجردة عن المعاني، كما عبر عن ذلك الأستاذ راشد الغنوشي عندما أشار إلى أن حضور الإسلاميين هو في القوى الناعمة والضعيفة وليس في القوى الصلبة والخشنة.

تراجع الإسلاميون في مصر بضربات موجعة رغم إمساكهم بالرئاسة والحكومة ومجلس الشعب ونيلهم الأغلبية، نظرا لتصلبهم وانخراطهم المبكر في ملفات إقليمية وملامستهم خطوطا حمراء في السياسة الدولية.

وتراجعوا في تونس رغم كل تنازلاتهم للبقاء في ديمقراطية شكلية.

وتراجعوا في المغرب رغم فوزهم ووصولهم لرئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة.

وتراجعوا في عدد من الدول العربية، رغم الزخم الذي منحه لهم الربيع العربي وتصدرهم المشهد، لكنه تصدر بذات الحمولة والعقلية التي رأت سقوط الأنظمة والفوز بالانتخابات هبة من الله جراء ابتلائهم، على الرغم من أنهم يقرؤون توجيه موسى عليه السلام لبني إسرائيل:

((قَالُوۤا۟ أُوذِینَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِیَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن یُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَیَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ)). إذن التمكين ليس جزاء للابتلاء لأن الجزاء في الآخرة، بل التمكين محطة ابتلاء أخرى: لننظر كيف تعملون؟ في إشارة إلى أن على المؤمن الاستعداد للتمكين بخطة عمل مدروسة ودقيقة وصالحة للبقاء لأن التمكين كما قلنا ليس جائزة وهبة نملكها مقابل ابتلائنا.

لقد نجح يوسف عليه السلام وهو الفرد في التعامل مع مجتمع يخالفه العرق والديانة والقانون، فانخرط بأحسن ما يحضره من فعل وخلق وقيم وحكمة حتى بلغ به الأمر للتمكين، وهو رغم تمكنه المأذون به من ملك مصر لم يتجاوز حدوده استنادا إلى إيمانه وتأييد الله له بل ظل فاعلا للأسباب لبلوغ ما يريد وإن بحيلة توافق حال الدولة ونظامها (كما فعل لنزع أخيه وحبسه إلى جانبه). وظل رغم مجيء إخوته وأبويه في ذات الحدود والمقام (قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث..).

لقد حصل يوسف على جزء من الملك، ومكن فيما عين فيه، بحدود ما يناسب نظام الدولة وطبيعتها وثقافة الشعب ودينه. وتعامل وهو المهدي الراشد مع الأمر في حدوده، فلم يبالغ في تصور قدراته المادية في الواقع، ولم يخلط بين إيمانه والسنن الكونية والاجتماعية، ولم يجعل من دينه علة للانقلاب وفعل ما لا يطيقه ولم يؤمر به ولا مصلحة ممكنة من تحققه.

واقع يوسف يختلف عن واقع أنظمتنا الكاذبة الخاطئة، حيث لا يوجد تمكين فعلي بالأساس، ولا توجد رغبة للإصلاح والإفادة، ولا يتوفر حكم راشد تصنع له التنمية ليستفيد عموم الناس منه، كما خدم يوسف مملكة مصر الراشدة لخدمة حاجات الناس بمصر وما حولها.

إن هذه التراجعات والإخفاقات ليست طلاسم قدرية خارجة عن قوانين السنن والأسباب، وليست ابتلاء لازبا رغم كل التضحيات!. إنها قضية ينطبق عليها ما ينطبق على الرعيل الأول: (أَوَلَمَّاۤ أَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةࣱ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَیۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَـٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ). بل ما ينطبق على النبي صلى الله عليه وسلم ذاته: (مَّاۤ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةࣲ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَاۤ أَصَابَكَ مِن سَیِّئَةࣲ فَمِن نَّفۡسِكَۚ). وأي قراءة خارج هذا القراءة الربانية القرآنية قراءة سفسطائية تغييبية للوعي وللفكر وللنقد، مسترسلة في الوهم والوهن.

وها هي تجربة السودان ماثلة لهذا الإخفاق الذي يتجلى رغم أكثر من ٢٥ عاما في الحكم أو قريبا منه. فقد تراجع الإسلاميون في السودان بعد ٢٥ عاما من الحكم كأنها لم تكن تمكينا ولم تنجب أثرا، بل انتهى السودان مقسما بلا هوية ولا حضور دعوي ومؤسسي قوي، ولا اقتصاد وتنمية، ولا بنى تعليمية وتربوية ضخمة وراسخة، ولا صورة حسنة وولاء جماهيري، ولا جيش صاحب رسالة وقضية، ولا حلفاء!.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى