مقالاتمقالات المنتدى

الأنفس والانضباط

الأنفس والانضباط

 

بقلم د. سلمان السعودي (خاص بالمنتدى)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين … أما بعد.

عندما تحدث القرآن الكريم عن البشرية، قسمها إلى قسمين متفاوتين، أهل الحق، وأهل الباطل، فقال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (التغابن:2)، وقد زاد الأمر وضوحا حين فاضل سبحانه وتعالى بين الفريقين فقال: { وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } (آل عمران:110).

وإذا أردنا أن نقف على تفصيل القرآن للأنفس نجده قسمها إلى ثلاث أنفس.

الأولى: النفس الأمارة بالسوء: وهي التي تأمر صاحبها بالعصيان والإفساد، قال تعالى: { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } ( يوسف: 53).

الثانية: النفس اللوامة: وهي التي تترنح بين الخير والشر، وهي طيبة رجَّاعة إلى الحق، قال تعالى: { وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } (القيامة:2).

الثالثة: النفس المطمئنة: وهي النفس المنضبطة بما أمر الله تعالى، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } (الفجر: 27،28).

أما بالنسبة لسوك النفس البشرية في المجتمع بمقدار الالتزام والانضباط فإني أراها على ثلاثة أقسام.

  1. النفس المحبة.
  2. النفس المكلفة.
  3. النفس الموظفة.

الأولى: النفس المحبة: وهي نفس تجمع بين الخوف والرجاء، منضبطة بأكمل الانضباط، لأنها تقوم بالعمل على حب به، فهي مستحضرة لمفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه” أخرجه أبو يعلى في مسنده، صححه الألباني.

فنجد الانضباط الإيماني على أكمل وجهه عند امرأة فرعون، فعندما توطد حب الله تعالى في قلبها، وأخرجت منه حب الشهوات والجاه والسلطان، تركت عَظَمَة المُلك البشري وآثرت أن تستظل بحبٍ تحت عظمة مُلك الخالق، فقال تعالى على لسانها: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (التحريم:11).

ويوسف عليه السلام عندما تمكن حب الله تعالى في قلبه وترعرع، وتذوق حلاوة الإيمان، فكان أكثر انضباطا لأمر الله تعالى، وآثر السجن على الحرية على أن يقع في معصية الله تعالى، فقال الله على لسانه: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (يوسف:33).

كما أنه عليه السلام آثر التسامح والمغفرة لأخوته على ما صدر منهم من حسد ومكر وجريمة القتل فقال الله تعالى على لسانه: { قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (يوسف:92)

وبلال بن رباح رضي الله عنه، عندما توطد حب الإيمان في قلبه، تحمَّل العذاب على بطحاء مكة في حر الشمس الملتهبة، والصخرُ فوق صدره وهو يقول: أحد .. أحد.. والله لو أعلم كلمة تغيظكم أكثر منها لقلتها.

النفس المحبة هي: أكثر الأنفس التزاما بالأخلاق وحسن المعاملة، واللين والصفح والتسامح، هي النفس المعلقة بالمساجد، التي تنشأ على طاعة الله تعالى، متحابة في الله، لو بحثت عنها تجدها ضمن السبع الذين يظلهم الله تعالى بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

تجدها بارة بالوالدين، واصلة للرحم، محسنة للجار، محبة للوطن، وقافة عند الحقوق، تمزج بين الخوف والرجاء، منهجها: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } (الكهف:46).

الثانية: النفس المكلفة: وهي النفس المتساهلة، متساهلة في الانضباط بالأوامر التشريعية، والقانونية وحتى الأخلاقية، تجدها تصلي ولكنها غير منضبطة بوقت الصلاة، فربما تؤخرها إلى آخر وقتها، أو تفوتها إلى ما بعد وقتها، هذه النفس تدرك أنها مكلفة، ولكنها غير محبة، بل تقوم بالعمل من باب التكليف، ولذك قال فيهم الله تعالى: { وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } (التوبة:54) وحتى على مستوى الجهاد في سبيل الله تعالى تجد أصحاب هذه النفس متساهلين فقال تعالى معاتبا إياهم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } (التوبة:38) وعلى مستوى الوظيفة المدنية تجد صاحب هذه النفس لا يعطى وظيفته حقها، فيُمضى كثيرا من وقت عمله لأمور شخصية، أو إهمال، فتجده بين ترتيب المكتب، وشرب القهوة والشاي، وقراءة الأخبار، ويضيع أوقات العمل المكلف بها بحجة الطهارة والوضوء وصلاة الضحى والسنن وما إلى ذلك، وهذا مخالف لشرع الله تعالى، فهو يتقاضى الأجر مقابل كلفته بالعمل في وقت حدده صاحب العمل، فلا يجوز أن يتساهل في ذلك ويترك الناس المراجعين ينتظرون أو يؤجلهم لوقت آخر بدون سبب شرعي أو قانوني. كما أن الله تعالى أرشد المؤمنين المكلفين بنصرة بعضهم البعض بألا يتساهلوا ويؤخروا النصرة  فقال تعالى: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } (الأنفال:72).

الثالثة: النفس الخائفة: وهي التي لا تفعل إلَّا خوفا، فهي نفس متسيبة، غير ملتزمة أو منضبطة بأمر شرعي أو قانوني إلا في حالة الخوف من فوات مصلحة أو الخوف من جلب مضرة ظاهرة، فهذه النفس تعيش الخوف ولا تعيش الرجاء، حتى الخوف الذي تعيشه هو الخوف من العقاب في الدنيا، والفوات في الدنيا، وتجدها متغافلة عن نعيم الآخرة وعقاب الآخرة، قال تعالى: {  وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (البقرة:114)، وبعض الموظفين والعمال تجده ما دام صاحب العمل أو المراقب قائم على رأسه وهو يعمل، فإذا ذهب أو غفل تراخى في العمل وتسيب، وبعض السائقين ما لم يكن هناك شرطي المرور، أو جهاز مراقبة تجده يخالف ويتجاوز الإشارات المرورية، وبعض المدرسين يلهي الطلبة ببعض المسائل حتى لا يتعب نفسه بالشرح والتوضيح والتعليم إلا إذا كان تحت المراقبة، والأمثلة في ذلك كثيرة جدا لا مجال لإحصائها.

اللهم اجعلنا من أصحاب النفوس المحبة، المنضبطة بشرع الله تعالى، وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى