الأندلس.. إباء وذكاء
بقلم د. عبد الرحمن علي الحجّي
الحياة الإسلامية تهيئ أفضل الأجواء لأجود بناء إنساني علمي متحضر، يقوم على الإباء والذكاء في كافة المواقف، الشواهد في ذلك كله جِدُّ كثيرة، أينما يكون التوجه في جوانبها المتنوعة، تتوافر شاهدةً على ذلك مما يُدْهِش ويُثير الإعجابَ، شاهِدُنا اليومَ الحياةُ الأندلسية برياضها النَّضِرة البهية.
جَرَتْ مُناظَرةٌ ذكية طريفة تَرِدُ بمناسبة ذكر الجدل الديني، والساحة الأندلسية من أكبر قواعد هذا اللون من الدراسات، ولدينا العديد من الأحداث والعلماء والمؤلفات، سواء مِن قِبَل المسلمين القادمين أصلاً أم ممن اعتنق الإسلامَ من أهل الكتاب، تأليفاً أو مناظرةً أو نقاشاً(1).
يمكن أن يذكر أحدهم: ابن رَشِيق (ابن عتيق): أبا علي الحسين بن عتيق بن الحسين بن رشيق التَغْلِبي المُرْسِي السَّبْتي (أواخر: ق7هـ = ق13م، أو نحو 680هـ =1281م)، شاعر من أُدباء الأندلس ومؤرخيها، أَصله من مُرْسِيَة Murcia استوطن سبتة Ceuta، وأقام آخر أيامه بغَرناطة Granada(2).
لابن رَشِيق عدة مؤلفات، منها: “ميزان العمل”، وهو كتاب كبير في التاريخ، وكتاب “الرسائل والوسائل”، يحتوي على مراسلات ومناظرات وغيرها، منها هذه المناظرة، لكن تبدو كُلُّها مفقودة، وله اختراعات (نوع شطرنج) ومناظرات مع القسس والرهبان، منها: واحدة في مدينة مُرْسِيَة، تَمَّ ذلك وهو لم يزل فتى في مقتبل العمر العلمي، ذلك أن أربعةً من الرهبان والقسس رَغِبوا في مناظرته -كانوا على اطلاع جيد ومعرفة بالإسلام- في موضوع إعجاز القرآن الكريم، دار الكلام حول بيتين من الشعر(3)، زَعَمُوا أنهما عُرِضَا على أُناسٍ عَجِزوا جميعاً عن إضافة بيتٍ ثالثٍ لهما، هذا إذن كالإعجاز، هما:
سِمْ سِمَةً يَحْـسُنُ آثارُها واشكُرْ لمنْ أعطى ولو سِمْسِمَهْ
والمَكْرَ مهما استطعتَ لا تَأتِه لتنتقي السؤدَدَ والمَكْرُمهْ
يُطْلَبُ أَنْ يَزِيدَ أحدٌ عليهما بَيْتاً ثالثاً إبْطالاً لشُبْهَتِهم، أَخَذَ يناقشهم ويأتيهم بالأدلة كَشْفاً للشُّبْهَة، في نفس الوقت يفكر في بيت يَنْظِمُه في الموضوع، جواباً يُزيل شبهتَهم، تَمَّ له ذلك، وكان البيتُ وسَكَتُوا، وأُسْقِطَ في أيديهم(4):
والمَهْرَ مهرَ الحُور وهو التُّقَى بَادِرْ البَكْرةَ والمَهْرمَهْ
المواقف المُعَبِّرة عن ذلك متنوعة جامعة، كُلُّها تُقَدِّم ما يجعل الأمرَ مأثوراً موفوراً، لا بد من التمثيل: يقدم لنا هذا المثال الوزيرُ الغَرْناطِي الشهير لسانُ الدين ابن الخطيب (776هـ = 1374م). كان ذلك في أحد مواقفه الكثيرة، كُلُّها تدل بقوة على البناء الشرعي الملتزم الذي تَرَبَّوا عليه، ذلك أن “شانْجُهُ الرابع” Sancho IV ملك قَشتاله Castile شَمالي إسبانيا ثار سنة (681هـ = 1282م) على أبيه “ألفونسو العاشر” العالم Alfonso X, el Sabio، وعُرف بميله للعلم، وكانت له صلات مع علماء المسلمين، وهو ما أثار السُّخْط عليه في مملكته، استنجد بالسلطان المَريني أبي يوسف يعقوب المنصور، وهُرِعَ الملكُ المخلوع إلى لقائه مستجيراً وَرَهَن عنده تاجَه ذخيرةَ قومه(5)، كان ذلك حين جاز المنصورُ إلى الأندلس غازياً ومجاهداً في سبيل الله: “بأحواز الصخرة من كُورة تاكُرُنَّا” قرب مدينه رُنْدة(6)Ronda ، سَلّمَ عليه مصافحاً وقَبَّلَ يَدَه، لَمَّا فَرَغَ أميرُ المسلمين من ذلك طلب الماءَ (بلسان قبيلة زَناتة) لغسل يده به من قُبْلة ومصافحة “ألفونسو”.
تُوُفِّيَ “ألفونسو العاشر” طريداً سنة 683هـ = 1284م دون تحقيق أُمْنِيَتِهِ في العَوْدة إلى عرشه، عند ذلك انفرد ابنُه “شَانْجُهْ الرابع” بالعرش، الذي بدوره رَغِبَ في سِلْمٍ مع المَرينيين، تَمَّ الأمرُ وعَقَدَ مع السلطان المَريني “يوسف” معاهدةَ سِلْمٍ فقُبِلَتْ، كان اللقاء بالجزيرة الخضراء Algeciras جنوب جبل طارق(7) Gibraltar.
الشاهد هنا كان يوم جاء رسول إسبانيا النصرانية إلى مملكة غَرْناطَة، تكلم مع رئيس وزرائها (ابن الخطيب) الذي ذَكَّره بهذه الحادثة أمام الناس فذُهِلوا، ذُهِلوا جميعاً معجَبِين بهذا الموقف الجريء، بل إنَّ بعضَهم قَبَّلَ يَدَه، حتى لقد بَكَى الحاضرون واصفين الوزيرَ ابنَ الخطيب بولي الله، جعله الله تعالى خالصاً لوجهه الكريم(8).
هذا الوزير النابه الشهير يُعدّ من أئمة البيان المتعدد الأغراض والشعراء والوشاحين، موشحاته كثيرة وهذه أبيات من موشحته الذائعة الشهرة قديماً وحديثاً، ومَطَالِعُها(9):
جَادَكَ الغيثُ إذا الغيثُ هَمَى يا زمانَ الوَصْلِ بالأندلسِ
لم يكنْ وَصْلُكَ إلاّ حُلُمَا في الكَرى أو خِلْسَةَ المُخْتَلِسِ
إذ يقودُ الدهرُ أشتاتَ المُنَى يَنْقُلُ الخَطْوَ على ما يَرْسُمُ
بمثل هذا الإباء والذكاء مَلَأَ الأندلسيون تاريخَهم، نجده وفيراً فيما بَقِيَ مِن سجلاتهم التي نَجَتْ من الحرق بيد محاكم التفتيش، وبما نال المورسكيين Los Moriscos من فعالها المشينة المُدينة، حَرْقاً للإيمان والبيان والإنسان لقرون عِجَاف، لكنهم رغم كل ذلك تراهم جميعاً بَقَوْا على عهد الإباء، أداروه بكل ذكاء لإسلامهم وبلدهم الزاهر، الذي اعتبروه أرضَ جهادٍ ودارَ حضارة، محتملين من أجل دينهم كُلَّ التضحيات.
_________
الهوامش
(1) قَبَس من عطاء المخطوط المغربي، محمد المَنُّوني، 2/1020، 102 /1031.
(2) الإحاطة في أخبار غرناطة، ابن الخطيب، 1/472 – 476. المِعْيار المُعْرِب، أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، 11/155 – 158. الأعلام، 2/243. تاريخ الأدب العربي، د. عمر فَرُّوخ، 6/323 – 325. مجلة البحث العلمي، العدد 13(1968م). الأنيس المُطْرِب، بن أبي زرع، 232، 339.
(3) مَقامات الحريري: المَقامة السادسة والأربعين. النوازل الجامعة أو نوازل الجامع، الونشريشي، 156-158.
(4) المعيار المعرب، الونشريشي، 11/155 – 158.
(5) أعمال الأعلام، 332-334. نفح، 4/385، 5/120. التاريخ الاندلسي، 539 – 540.
(6) تعني المدينة المدورة قاعدةً بني مرين، مقراً لانطلاقهم إلى الجهاد في الأندلس. الصخرة: صخرة عباد بأحوازها. الروض المعطار، 129،269. نفح الطيب، 1/265، 2/607.
(7) عِبَرُ ابن خَلْدُون، 4/393. الإحاطة، 1/563. نهاية الأندلس، عِنان، 106.
(8) أعمال الأعلام، 333. نفح الطيب، 5/120-121.
(9) المُغرب، 1/269. نفح الطيب، 7/11-14، 82 . أزهار الرياض، 2/213.
(المصدر: مجلة المجتمع)