مقالات مختارة

الأموال العامة.. مواردها وإدارتها وإنفاقها

بقلم د. حسن عبد الغني أبوغدة

إدارة المال العام جزء من السياسة الشرعية:

إن تيسير شؤون المال العام في المجتمع الإسلامي جزء من السياسة الشرعية , التي يقصد بها تدبير شؤون الدولة وفق أحكام الإسلام ومبادئه , وينبغي أن يقصد بتيسير شؤون المال ما فيه المصلحة العامة , مع مراعاة ترتيب هذه المصلحة , فيقدم ما يدفع الضرر على غيره , للقاعد الفقهية المعروفة : ( درء المفاسد أولى من جلب المصالح ). ثم يقدم الأهم على المهم فما دونه , حيث يبدأ بالضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينات والكماليات.

المال العام أمانة بيد الحاكم وموظفي الدولة:

كما أن تسيير شؤون المال العام في المجتمع الإسلامي يهدف إلى توزيع النفقات على أكمل وجه ممكن, والموازنة بين النفقات وبين الموارد, على نحو يحقق العدالة بلا إسراف ولا تقتير ولا محاباة. روى الإمام أحمد والشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج عليا فاطمة رضي الله عنهما , أعطاها قطيفة ووسادة ورَحَيَيْن وسِقاء وجَرَّتيْن, فقال علي لفاطمة ذات يوم : والله لقد استقيتُ من البئر حتى اشتكيت صدري , وقد جاء الله أباك بسببي ـ رقيق ـ فاذهبي فاستخدميه , فقالت : وأنا والله , لقد طحنت حتى مجَلت يداي – أي ثخن جلدها وتعجَّز بسبب الطحن – … ثم إنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكيا إليه حالهما , وسألاه خادما من السبي – أي المال العام – فقال : والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة – وهم فقراء المسلمين – تطوى بطونهم من الجوع , لا أجد ما أنفق عليهم , ولكن أبيعهم – أي السبي الذي جاءه – وأنفق عليهم أثمانهم , فرجع علي وفاطمة إلى بيتهما لم ينالا ما أراده .

سياسة عُمَريَة للتأسي في التعامل مع المال العام:

وقد أرسى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته , القواعد العامة التنظيمية التي تحكم تسيير شؤون المال العام , أو ما يسمى بالسياسة المالية للدولة الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة , فقال : إني لا أجد هذا المال يصلحه إلا خصال ثلاث : أن يؤخذ بالحق , ويعطي في الحق , ويمنع من الباطل , وإنما أنا ومالكم , كولي اليتيم , إن استغنيت استعففت , وإن افتقرت أكلت بالمعروف , ولست أدع أحدا يظلم أحدا ويعتدي عليه , حتى أضع خذه على الأرض , وأضع قدمي على الخد الآخر , حتى يذعن للحق , ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم , فخذوني بها : لكم علي أن لا أجتبي شيئا من خراجكم , ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه, ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه , ولكم علي أن أزيد من أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم , ولكم علي أن لا ألقيكم في المهالك .

مصارف المال العام في النظام الإسلامي:

وهكذا يتضح أن عمر رضي الله عنه قد عرض للخطوط الرئيسية التي ينبغي أن يوجه في ضوئها المال العام وتدار شؤونه , وقام علماء الإسلام فيما بعد يرسمون السياسة المالية في المجتمع الإسلامي , وكان من بين هؤلاء: أبو يوسف القاضي في كتابه: ( الخراج ) وأبو عبيدة القاسم بن سلام في كتابه: ( الأموال ) والماوردي وأبو يعلى في كتابيْهما: ( الأحكام السلطانية ) ويدل مجمل كلامهم على أن وظيفة المال العام , القيام باستيفاء حاجات الأمة ومصالحها وتدبير شؤونها , والصرف على جميع ذلك من خلال إنشاء الأجهزة والإدارات والمؤسسات الدينية والقضائية والأمنية والعسكرية والتعليمية والاجتماعية والصحية والمواصلات وغيرها , مما يحفظ حقوق الناس ويصون حرماتهم , يرتقي بعقولهم ومعارفهم وأمور معاشهم , ويدفع عنهم الأضرار والأخطار, ويضمن لهم السعادة والطمأنينة والراحة . والأصل في هذا الذي تقدم, ما رواه ابن حِبَّان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله سائل كل راع عما استرعاه , حفظ أم ضيَّع ).

ليس للحاكم التصرف في المال العام إلا بحقِّه:

وحينما كان بعض الولاة يغفلون عن واجباتهم ويقصرون في حق الأمة ويسرفون في مالها العام, وينحرفون به عن تحقيق الخدمة الاجتماعية لعموم المسلمين كانوا يواجهون بالنصح والتذكير , وأحيانا بالمحاسبة والتوجيه والتهديد , روى مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, كتب إلى والي أذربيجان يقول : يا عتبة بن فرقد, إنه – أي المال العام – ليس من كَدِّك , ولا كَدِّ أبيك , ولا كَدِّ أمك , فأشبع المسلمين في رحالهم , مما تشبع منه في رحلك , وإياك والتنعم وزي أهل الشرك . ولبوس الحرير .

صفات المشرف على المال العام:

لاشك أن الأموال العامة على اختلاف أنواعها, تحتاج إلى إدارة مالية وعناصر فعالة تتولى الإشراف عليها وتدير شؤونها, إضافة إلى الأجهزة والوسائل التي تحتاجها ولا تستغني عنها. وينبغي أن تراعى أوصاف خاصة فيمن يتولى جميع ذلك , كالكفاءة والأمانة والدقة والانضباط والشدة في الحق , وهي الأوصاف التي تحرص أجهزة الرقابة المالية والإدارية اليوم على توافرها في موظفيها , روى البيهقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( من ولي من أمر المسلمين شيئا فلا يخف في الله لومة لائم ).

أبرز موارد المال العام:

أما الموارد التي تجمعها الإدارة المالية , فترجع أصولها إلى ما شرعه الإسلام في ذلك بالنص وبالاجتهاد , من غير خوف من ذي قوة , ولا ظلم لذي ضعف , ومن هذه الموارد أموال الزكاة و الصدقات والفيء والغنيمة والخراج والعشور والوقوف , وعوائد الثروة الطبيعية المعدنية والنفطية والمواد الخام ورسوم الخدمات الجوية والأرضية والبحرية وغير ذلك.

فرض الضرائب حال الحاجة اليها:

على أن الإسلام لا يمنع من فرض ولي الأمر – حين الضرورة – مبالغ مالية كضرائب على الموسرين للاستعانة بها في الإنفاق على المصالح العامة , كشؤون الدفاع والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وغيرها، وذلك حين لا تكفي الأموال التي في خزانة الدولة في الوفاء بذلك , وهذا الحكم الذي نص عليه الفقهاء مستند إلى كليات الشريعة ومقاصدها في رعاية المصلحة العامة .

وقد ذكر الجويني والغزالي وابن حزم: أن للإمام العادل تكليف الأغنياء من فضول أموالهم بالقيام على سد الثغور, وتكثير الجنود , وكفاية الفقراء, ونحو ذلك إذا لم يكن هذا ممكنا من بيت المال، والأصل في هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه …. ) متفق عليه. فمن عرَّض المسلمين للجوع والمرض والعري واعتداء الأعداء عليهم فقد ظلمهم وأسلمهم مادام قادرا على دفع ذلك عنهم.

موقف للتاريخ من العز بن عبد السلام:

ولما أخذ ملك مصر المظفر يُعِد العدة لحرب التتار ودفعهم عن بلاد المسلمين , وجد بيت المال خاويا , فاستفتى في ذلك العز بن عبد السلام كبير الفقهاء وقتئذ , فأفتاه بجواز تكليف القادرين بمبالغ يدفعونها لتجهيز الجيش وحماية الأمة ففرض المظفر دينارا على كل بالغ قادر , وحارب التتار في موقعة عين جالوت وهزمهم , وأنقذ الإسلام والإنسانية من شرورهم .

وأخيرا: فمن مقتضيات تيسير شؤون المال العام في المجتمع الإسلامي, مراعاة الاعتدال والتوسط, واستحضار الموازنة بين الموارد والنفقات, من غير إسراف ولا تقتير, عملا بقول الله تعالى: ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ). الآية 67 من سورة الفرقان . وكما تكون الموارد مأخوذة من وجوهها بالحق ينبغي أن تبذل النفقات في وجوهها بالحق , وإلى هذا أشار عمر رضي الله عنه في قوله الآنف: إني لا أجد هذا المال يصلحه إلا خصال ثلاث : أن يؤخذ بالحق , ويعطي في الحق , ويمنع من الباطل …. وهذا عين التوازن بين الطرفين – الموارد والنفقات – إذا التمس فيها الحق.

المصدر: الملتقى الفقهي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى